شخصيات الأنبياء الكرام هي شخصيات عظيمة وفريدة، فقد علم الله تعالى أين يضع رسالته. ومن أراد المعايشة والتأسي فليتعرف على قسمات شخصياتهم الكريمة.
مقدمة
الأنبياء هم صفوة خلق الله، وهؤلاء هم الذين ذكر الله تعالى سلامه عليهم وأبقاه عليهم دائمًا في العالمين، وإنه لَلشرف، وأثنى عليهم أن لهم القرب عنده (الزلفى) وأنهم الأخيار وأنهم أصحاب القوة في التعبد كما أنهم أصحاب اليقين والبصيرة، وهذا الثناء عليهم ـ مع الاصطفاء ـ لأنه كان لهم من العمل والجهد للوصول لهذا ما استحقوا ثناء الله تعالى عليهم.
والقرب منهم يورثك رؤية واضحة .. وعمقا .. وشخصية ثابتة .. وعزما راسخا .. وغيرها كثير.
مثال يوسف عليه السلام
من أبرز الأنبياء الذين أفردت لقصتهم سورة كاملة يوسف عليه السلام ولننظر في هذه الحقائق من خلال بعض المواقف:
تشرُّب القيم منذ الصغر
لقد فارق أباه صغيرًا، لكن هناك من المفاهيم والمعاني والقيم التي شربها من صغره فأخذها بوعاء صافٍ نظيف وحافظ عليها ونمّاها ولم ينس، وهذا لتقف أمام طبيعة هذا البيت الصادق في تدينه والتزامه بهذا الدين الذي يتشرب فيه الصغير حتى في هذا السن من القيم والمعاني والعلم والمعرفة بأصل هذا الدين ما لا ينساه إن انفرد وحده وتغيرت به الظروف والأحوال، حتى لو صار بين قوم على غير هذا الدين ووسط أوضاع منحرفة نتجت عن هذا الشرك ..
وهي أوضاع تصير فيها الشهوات مع الترف هو الشغل الشاغل ومجال التنافس بين أهله، هذا ناهيك عن النسيان والانصراف عن رب العالمين وحقوقه، فمع كل هذا لا ينسى يوسف إن نسى الآخرون، ولا ينحرف كما انحرفوا، ولا يتخلى عن دينه كما يفعلون، ولا ننسى حفظ الله تعالى له وعصمته له، لكنه تعالى يقدّر الأسباب، فهذا الحفظ وهذه العصمة تأتي مع قلب متوجه لله لا ينسى ما رضعه في صغره.
سوابق تعصم من الفتنة
يَرُوعُ القارئَ كثيرًا موقفه وصبره عن الشهوة الحرام وأنه نجح في هذا الاختبار .. لكن يفوت الكثيرَ لماذا نجح. وهذا طبعًا مع العصمة ولكن لا يحال عليها فقط على سبيل الاختصار وإلا لما كانت هناك فرصة للتأسي بهم ولاعتذر الخلق بأنه معصوم، وكما قلنا فالله تعالى يقدر الأمور بأسبابها، وهذا من حكمته جل وعلا، وقد ذكر تعالى هذا السبب الذي هو ـ مع الموقف ـ محل الأسوة.
هناك عمق واضح قبل هذا الموقف اكتسبه يوسف وهو واضح تمامًا في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22].
وهذه الآية جُعلت مقدمة للموقف للدلالة على أن ما تعلَّمه وتلقاه في صباه في بيت النبوة حفظه في وعاء نظيف وفطرة مستقيمة، وأنه لم يكتف بهذا بل أنه بذل جهده لبلوغ أعلى مستوى وهو الإحسان:
ـ الإحسان بشقه العلمي: بصيرة تصل لدرجة اليقين والرؤية، كأنه يرى من خلال يقينه وعلمه بقلبه كما يرى المبصر بعينه.
وانظر إلى إشارات ابن القيم في قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ: 6]، لم يقل: “ويعلم” ، بل جعل العلم لهم رؤية يرون من خلاله، كذلك العلم المذكور في صفات أولي الألباب في سورة الرعد: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد: 19]، جعل مقابلهم: ﴿كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾، للدلالة على أن صاحب العلم يرى من خلاله.
هذا الإحسان بذل يوسف الجهد للوصول إليه في رؤيته ولا يصل أحد إليه إلا بالجهد.
ـ والإحسان بشقـه العملي التعبدي: بحوْز المعالي وفي الاستبـاق في الخيرات بعد استيفـاء الأوامر، والحساسية من المحرم وشبهاته وما يقارب منه.
ـ والإحسان مع الخلق بعمل الذي هو أحسن؛ كلمةً وعملاً وعطاءً وصفحًا وظنًا .. وغيره.
كان هذا هو الجهد المبذول في مرحلة شبيبته وهذا هو الذي أشارت إليه الآيـة الكريمـة: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
فلما كان الموقف الذي فيه الابتلاء وجد عنده من الرصيد ومن المخزون الذي جهَد فيه، مع توكله على ربه وافتقاره إليه، ما لم يقع به في الفتنة، ورأى واعظَ الله في قلبه الذي دفع خطرة الهم البشري الذي جاء بعد الموقف الصلب ورده إلى الموقف الصلب والقرار، بل والقرار النهائي؛ شراء ما عند الله وبغض ما يبغضه وإيثار مراد الله على مراد النفس؛ بل لم يجد في نفسه إلا إرادة مراد الله بعد طرد الخاطر العابر.
لو أن رجلاً قليل الديانة ضعيف المراقبة معتاد انتهاك الحرمة وهتك ستر ما بينه وبين الحرام فهل ينجح في موقف يُخيَّر فيه بين داعي ربه وداعي نفسه..؟ فلنراجع نفوسنا إذن.
هنا تكون المعايشة وهنا يكون القرب .. فتحدث الأسوة ومن ثَمَّ التربية.
قلب لا يعرف الحقد
لم نجد يوسف عليه السلام منشغلاً بالانتقام مملوءًا بالحقد يحلم بيوم الانتقام من إخوته. ولو كان كذلك لكان بثُ شكواه أعلى من طرح عقيدته على صاحبي السجن، وقلبٌ مملوء حقدًا كيف يكون أهلاً للرسالة التي هي بذْل الخير للخلق كلهم وبلا مقابل بل مع توطين النفس على تحمل الأذى من الخلق ابتغاءً للخير لهم: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾؟ [إبراهيم: 12].
قد يكون موجوعًا أو متألمًا لكنه لم يعْمَ قلبه بحقد، ولم يقْصُر همه للانتقام، ولما جاءته الفرصة لم ينتقم ولو كان كذلك لسارع بالانتقام عند أول رؤية من أول يوم وفى أول موقف .. حتى شهدوا له بالإحسان، بل خاطبوه باسمه: ﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 78]، لِما تحققوه فيه.
من أين جاءت طهارة القلب هذه..؟
هناك قاعدة: أن القلب الفارغ من الخير ينزل فيه الشر، وكما يقول ابن القيم أن الشر يأتي من انعدام الخير؛ (1يقول رحمه الله: « فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه» مدارج السالكين، جـ2، ص199) فلابد أن يكون قد ملأه باهتمامات وانشغالات ومعانٍ علمًا ورؤية وبصيرة، وعملاً وهمًا وقصدًا، وإرادة خيّرة ربانية تجعله أهلاً للرسالة وأهلاً للصبر عند القدرة كما صبر عند العجز. وأهلا للصبر على الألم في السجن كما صبر على الشهوة المحرمة في الحرية.
هنا تأتي المعايشة ويأتي القرب ويأتي البحث عن هذه المعاني التي رباها في نفسه لنربيها في نفوسنا وننشغل بها ونقلق كثيرًا عند افتقادها.
الصبر مناط الرفعة
تقف كثيرًا وتُعْجَب بقوة الصبر التي تميز بها: صبر على تعبداته وصبر على معتقده بين مخالفين وواقع مضطرب وممتلئ بما يغمر في النسيان والانشغال كما قال تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا﴾ [المؤمنون: 63]، زيادة على الصبر على ألم فقدان الأهل، وألم الأخوّة المفقودة والشعور بأن هناك من يريد قتله، وصبر على شهوة محرمة دواعيها البشرية أكثر من موانعها، وصبر على سجن وقيد، وظلم عقب ظلم سابق، وتهمته في أعز ما يملك: (عِرضه) وفي أكثر ما يهتم به: (علاقته بربه) ثم صبر على رفقاء لا يعرفون الله ولا يؤمنون به، ثم صبر على القوة والنفوذ والملك ورؤية من ظلمه ضعيفًا ذليلاً مترددًا على الباب يقول: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف: 88]، فيحسن إليهم ويعفو ويصفح بل ويلتمس لهم العذر..!! ثم صبر على تجمع الرسالة والملك والأهل والفضل فيهرب ليسأل: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101]، وهنا الزهد الحق.
من أين جاء بكل هذا؟ فلننظر إذن مليًا.
قوة الصفح
ومن أين جاء بقوة الصفح هذه.. جاء مَن ظَلَمَه منكسرين محتاجين فيذكّرهم ويلتمس لهم العذر مع التذكير: ﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾، ثم بكلمة يمسح آلام سنين طوال: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، بل وبلا عتاب: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ [يوسف: 92]، لا لوم لا عتاب .. تبارك من ربَّى مثل هذه الشخصية الكريمة.
من أين جاء بكل هذا الصبر؟ ومن أين جاء بكل هذا الصفح؟.
صبر أُعجِب به النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال فيما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى. قال أولم تؤمن؟ قال بلى. ولكن ليطمئن قلبي. ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي». (2سنن ابن ماجه جـ 2، ص 1335، قال الشيخ الألباني: صحيح) (3«لأجبت الداعي»: المقصود مدح يوسف بأنه بلغ من الصبر والتأني غايته؛ فإنه لما جاءه رسول الملك ليخرج من السجن بعد تأويله رؤيا الملك لم يبادر بالخروج ولم يُجب الداعي الذي دعاه لمقابلة الملك، بل طلب البحث أولا عن حقيقة التهمة الظالمة التي اتُُهم بها لتظهر براءته قبل خروجه، فمن تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال أنه لو كان مكان يوسف لتعجل إجابة الداعي قبل ظهور البراءة، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام ولإظهار ميزة يوسف ومدحه بهذا الصبر والتأني) وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.
وصفحٌ لم يرض أن ينزل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أمية بن المغيرة وكانا من أشد أعدائه وأشد الخلق تأليبًا عليه وتأخر رسول الله في الصفح عنهم حتى نصحتهما أم سلمة أن يقولا له ما قال أخوة يوسف: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾، فإنه لم يرض بأقل من جواب يوسف وقد كان، صلى الله عليه وسلم..
هذا ما يجب أن نبحث عنه. وعندما نسمع مواقفه نعايشها ونعلم ما وراءها من شخصية. ونبحث عن هذه الشخصية كيف رباها ونمّاها ـ مع عصمة الله واختياره ـ فهذا المأخذ لابد من تنميته والاستعانة بالله فيه (وما صبرك إلا بالله).
خاتمة
إن طاقتنا لا تقوى على هذا لكن هناك حول الله وقوته والاستعانة به في مران النفس وتعويدها أن تصبر، وقد أعلن يوسف عليه السلام مناط الفوز ومناط هذه التربية في نهاية الأمر: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90]، والتقوى هي: فعل المأمور، والصبر هو: الصبر على المقدور، ولا يمكن التقوى إلا بالصبر، إنها قاعدة كل مظلوم وكل من يريد الوصول إلى ربه، إنها قاعدة ذهبية.
هنا المعايشة والقرب والتأثر والتربية.
………………………….
الهوامش:
- يقول رحمه الله: « فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه» مدارج السالكين، جـ2، ص199.
- سنن ابن ماجه جـ 2، ص 1335، قال الشيخ الألباني: صحيح.
- «لأجبت الداعي»: المقصود مدح يوسف بأنه بلغ من الصبر والتأني غايته؛ فإنه لما جاءه رسول الملك ليخرج من السجن بعد تأويله رؤيا الملك لم يبادر بالخروج ولم يُجب الداعي الذي دعاه لمقابلة الملك، بل طلب البحث أولا عن حقيقة التهمة الظالمة التي اتُُهم بها لتظهر براءته قبل خروجه، فمن تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال أنه لو كان مكان يوسف لتعجل إجابة الداعي قبل ظهور البراءة، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام ولإظهار ميزة يوسف ومدحه بهذا الصبر والتأني.