ثمة منهج نبوي كريم يواجه محاولة “العولمة” ومحاولة شرعنة الكفر والشرك ورد الشرائع. وهو منهج واجب اتخاذه وإلا فالخسارة ضخمة.
مقدمة
مما يجب التنبيه عليه أن الصراع مع «الآخر» ـ الكافر والمبتدع ـ والاختلاف معه ليس خاصاً بالدعوة الإسلامية المعاصرة، بل تعرض له الدعاة والمسلمون عامة من عهد النبوة إلى يومنا هذا، ومرَّت بالمسلمين أحوالٌ من القوة والضعف، وحاول الأعداء فيها أن يُدخلوا على المسلمين فكرة «الآخر» حتى يتمكنوا من نشر أفكار هذا «الآخر» الكفرية والشركية والبدعية، ولكن المسلمين تنبهوا لهذا «الغزو الفكري» وهذا التخطيط الخبيث وردّوا العقائد والأفكار والقوانين التي يمثّلها فكر «الآخر» ما دامت مخالفة للشريعة الإسلامية، وأسقطوا الشرعية عن تلك الأفكار، ولو لم يثبت أهل السنة في هذا الصراع العقدي والتشريعي لأدى ذلك إلى اكتساب تلك العقائد البدعية والخرافية، والقوانين الوضعية التترية، صفة الشرعية.
سبب التعددية عند أمم غير المسلمين
ومن المعلوم أن التعددية في «التشريع» و «العقائد» نشأت عند الأمم الكافرة بسبب عدم وجود أصل صحيح تَرْجِعُ إليه، فأصبح «التشريع» ديدناً للجميع: الكنيسةُ تشرعُ وتحللُ وتحرمُ بغير إذن من الله، وتفتري الكذب عليه، والمعارضون من الملاحدة الذين سمو أنفسهم بـ «الآخر» يشرّعون ويُحرمون ويُبيحون حسب ما يريدون. وإذا كان الجميع يشرعون من دون الله، فليس أحد منهم يتقدم على «الآخر»؛ فنشأت فكرة «الآخر» في الغرب على نمط التفكير الجاهلي قديماً؛ فجاهلية العرب قبل الإسلام وُجدَ فيها من يعبد الأوثان، ووُجِدَ في ديانات الجزيرة من يعبد الملائكة، ومن يعبد الأنبياء، وسواء لهم كتاب أم لا.
وتفرق الناس في جزيرة العرب، واختلفوا في العبادات، والتشريع والأحكام، واشتركوا جميعاً في «حقوق» مشتركة بينهم وهي حل الربا، والزنا عند كثيرين والخمر، و«الخرافة»، وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام.
وعلى هذا تدور فكرة «العولمة» و«العلمانية» في هذا العصر.
وكل منهم يمثل عند نفسه الحق، وغيره هو «الآخر». وكانوا جميعاً في جاهلية مثل جاهلية أوروبا مع الاعتراف فيما بينهم بحقوق «الآخر» التي (قاعدتها): الخرافة في العقيدة، والرأسمالية والربا في الاقتصاد، والخمر في المشروبات المحرمة، وأكل الميتة في الأطعمة، والإباحية والسفاح لمن أراد العلاقات الجنسية. وهذا قاسم مشترك بين الجاهليات على اختلاف أسمائها.
ولقد أراد المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتسبوا الشرعية لحقوق «الآخر»، كما يصنع المشركون والكفار في أوروبا، وكما يريد العلمانيون في العالم الإسلامي.
كيف واجه رسول الله شرعنة كفر «الآخر»؟
فالسؤال هو كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حالة القوة وهل اختلف منهجه عن المرحلة المكية حينما رد على المشركين طلبهم في «وحدة الأديان»..؟
والجواب أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الضعف وحال القوة واحد لم يتغير، وهو رد «انحرافات الآخر» عليه، وبيان بطلانها، وإقامة الحق والهدى في الأرض وإليك الأدلة على ذلك.
نماذج تطبيقية
وفد ثقيف
جاء وفد من الطائف بعد سنة تسع إلى الدولة الإسلامية في المدينة يطالب بحقوق «الآخر» ويريد أن يُسْلِمْ وتكون له حرية في «الربا» و«الخمر» و«الزنا» و«الخرافة». ونلاحظ هنا أن هذه تمثل قاعدة «حقوق الإنسان» في الغرب، وتمثّل مطالب العلمانيين باسم «الآخر» في العالم الإسلامي.
وإليك نص الحوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم و«الآخر» قال ابن القيم:
“قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف؛ فقال كنانة بن عبد ياليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أفرأيت الزنى، فإنا قوم نغتربُ، ولا بد لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 32).
قالوا: أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟
قال: لكم رؤوس أموالكم؛ إن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: 278).
قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: إن الله قد حرمها. وقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 90).
فارتفع القوم، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويْحَكم إنا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة انطلقوا نكاتبه على ما سألناه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعَم لك ما سألت، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال: اهدموها. قالوا: هيهات لو تعلم الرَّبَّةُ أنك تريد هدمها، لقتلت أهلها. فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل..! ما أجهلك، إنما الرَّبَّة حجر. فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تولَّ أنت هدمها، فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً. قال: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتَبوه». (1زاد المعاد، ابن القيم، 3/ 595)
وفد الصليب
وفي سنة تسع جاء وفد نصارى “نجران” إلى الدولة الإسلامية وفيهم “العاقب” و”السيد” صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يفاوضاه في شأن عيسى عليه السلام.
وقد روى القصة الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، ورواها البيهقي مطولة في دلائل النبوة، وابن إسحاق في السيرة، وموضع الشاهد فيها: أن وفد نجران، وعددهم ستون راكباً فيهم أربعة عشر من أشرافهم، قدِموا إلى المدينة، يقولون إنهم على الحق في اعتقادهم في عيسى عليه السلام، ونزل القرآن يُبين لهم في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59).
فلما كلَّم الحَبْرانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «أَسْلِمَا . قالا: قد أسلمنا قال: «إنكما لم تُسلِمَا فَأسْلِمَا». قالا: بلى؛ قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما؛ يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير». (2تفسير ابن كثير، 1/ 368، 369)
وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ (آل عمران: 63).
فانتهى هذا الحوار مُحكماً من المحكمات بصورة واضحة تبين فيها المفسد من المصلح، ورجع الوفد الصليبي خائباً يجر أذيال الخيبة، وقد علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتحقق الإسلام والإيمان.
وهكذا أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم «حقوق الآخر» التي هي في حقيقتها فساد وخرافة وشر، وإن حاول هذا «الآخر» أن يُغلِّفَها بـ«المصلحة» و«الضرورة» و«الحاجة» و«الخصوصية».
طبيعة المنهج النبوي وخطورة فقْده
وهذا المنهج النبوي الدعوي يمثل الإسلام عقيدةً وشريعةً ويدافعُ عن «المحكمات»، ويكشف بالحوار أن ما يدّعيه «الآخر» من حقوق إنما هو فتنة وفساد وظلم وبغي.
ونستطيع أن نقرر هنا أن سبب ضعف المسلمين في العالم، وذهاب مقدساتهم، واختلاف كلمتهم، إنما هو بسبب مخالفتهم لهذا المنهج النبوي، وكذلك بالنسبة لكثير من «الدعاة» إنما أصبحوا فريسة «للآخر» لَما وهنوا وضعفوا وانهزموا أمام أفكاره ووسائله، وأصبحوا يستحيون من الصدْع بالمنهج النبوي أمام الانحرافات التي صنعها «الآخر» ـ الكافر العلماني ـ وزيّنها بوسائله وكيده ومكره، و«الديمقراطية» التي صنعها لنفسه.
ولهذا السبب طمع الكفار فينا وفي مقدساتنا، وتدخل الكونجرس بعد أن قرر تعطيل الشريعة الإسلامية لتحل محلها شرائع «الآخر» العلمانية، وهكذا يُدعمُ «الآخر» تشريعياً، كما دُعِمَ فكرياً بنشر «حقوق الإنسان». ولا يزال يُدعمُ عسكرياً أكثر من خمسين سنة باسم «حقوق إسرائيل» و«حقوق الآخر» في الأرض والسلام والأمن العالمي، و«الآخر» المسلمُ يُسحق ويُقتل على الطريقة الأمريكية لكن مع مزيد من ضبط النفس..!! وتحت إشراف القانون الدولي أو إن شئت فقل «القانون الأمريكي». وكل ذلك لمصلحة «الآخر» الذي تارة يكون «صليبياً»، وتارة «يهودياً»، وتارة «علمانياً». وعلى الآخر «المسلم» أن يتنازل تارة عن «شريعته»؛ لأنها إسلامية، وتارة عن مقدساته، وتارة عن تحريم الربا، والزنا، والخمر، وكذلك يجب على المرأة أن تتنازل عن حجابها، بل قد يُضيّق على المسلم في صلاته، كل ذلك من أجل الاعتراف بـ «الآخر».
وفي هذه الأيام يُفيق بعض العلمانيين من سكرتهم ويقولون: لماذا تُهدر أمريكا «حقوق الآخر» أين الحريات..؟! وتجيب أمريكا نيابة عن العلمانية في العالم وتقول: كفرنا بالحريات إذا لم تكن مصنوعة من أجلنا، كل شيء ينبغي أن يكون من أجلنا ومن أجل «حروبنا الذكية».
الآخر عندما يكون مسلما
أما «الآخر» فكلما أراد أن يكون مسلماً متحاكماً إلى شريعته ودينه، متميزاً في هذا العالم داعياً إلى الفضيلة والأخلاق مدافعاً عن مقدساته، فلا بد أن يُسحقَ، ويُهاجمَ، ويُخرجَ من «القرية العالمية» «القرية الظالمة»، ويوصف بالتطرف والفساد والإفساد، وتقول الجاهلية العلمانية كما قالت الجاهلية من قبل: ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (الأعراف: 82)، ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ (القمر: 9)، ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ (القمر: 25)، ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ﴾ (غافر: 26).
وبعد
فهل تجتمع كلمة العلماء والدعاة والعامة والخاصة على نصر المحكمات والعمل بها والدعوة إليها، وهل نكون على بصيرة من الأمر ونقف موقفاً شرعياً من «الآخر» الذي يخالف المحكمات، ويرفع راية «الحريات» أو «التنوير» أو «السلام» أو «حقوق الإنسان»، وهو يطعن المسلمين من الخلف في دينهم وشريعتهم ومقدساتهم، بل أصبح اليوم يطعن من جميع الجهات، وما زال كثير منا يتوسل إليه ليكون مقبولاً عنده وليحظى برضاه، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 41).
…………………………
الهوامش:
- زاد المعاد، ابن القيم، 3/ 595.
- تفسير ابن كثير، 1/ 368، 369.
المصدر:
- أ. د. عابد السفياني، مجلة اليبان، العدد:174.