إن القضية الجذرية الأولى في حياة البشرية كانت، وما تزال، وستظل إلى قيام الساعة هي قضية العبادة أو قضية المعبود.
من المعبود على وجه اليقين ؟ وعلى أية صورة يعبد ؟ ….
ولقد مرت على البشرية فترة من الزمن – في الغرب خاصة – كان عدد من الكتاب والمفكرين يقولون للناس: دعكم من قضية العبادة وقضية المعبود، لأنها قضية لا طائل وراءها، عيشوا حياتكم واستمتعوا بها، ولا تعبدوا – إن شئتم – شيئا على الإطلاق.
وظن هؤلاء الكتاب والمفكرون أنهم بذلك يقدمون الحل النهائي للمشكلة ، ويمنحون البشرية أكبر قدر متاح من السعادة في الأرض ويعطون الناس الفرصة التي لم تتح لهم من قبل لكي يعيشوا حياتهم على أفضل وجه بعيدا عن أغلال الدين .. ولتذهب قضية العبادة إلى الشيطان.
وهذا اللون من التفكير يشتمل على وهمين كبيرين في آن واحد
فأما الوهم الأول، الذي ربما لم يكن واضحا لكل الناس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر حين كانت هذه الصيحات تتعالى في الغرب، هو الظن بأن الإنسانية ستسعد وستنطلق بناءة حين تنبذ الدين .
ولقد تقدم الغرب بالفعل تقدما علميا وتكنولوجيا هائلا بعد نبذه للدين، فساعد ذلك على تمكن هذا الوهم من قلوب الناس، وغفل الناس عن أن الدين في ذاته لم يكن هو الذي عوقهم عن الإنطلاق من قبل، إنما هي تفسيرات بشرية خاطئة، هي التي عملت في القرون الوسطى المظلمة .. – في أوروبا – على تعويق حركة البشر نحو النهوض والتقدم، كما غفلوا عن حقيقة أهم من ذلك: هي أن التقدم العلمي والتكنولوجي اللذين حصلت عليهما أوروبا بعد أن نبذت دينها ليس هو المقوم الوحيد للحياة ، وليس هو المقوم الأول ! وأنه وحده لا ينشئ حياة بشرية سليمة ! وتلك هي الحقيقة التي أخذ الناس في الغرب يدركونها بوضوح متزايد في الوقت الحاضر.
حين أدركوا أن الفراغ من القيم الروحية هو المسئول الأول، عن حالات القلق والاضطراب والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية ، وعن شعور الشباب خاصة بالحيرة والضياع، وهي كلها أمور تهدد البشرية في أمنها وسلامتها ورفاهيتها على الرغم من كل التقدم المادي الذي حصلت عليه في القرنين الأخيرين.
أما الوهم الثاني فهو الظن بأن الإنسان يستطيع أن يلقي بقضية العبادة إلى الشيطان ويعيش بلا عبادة على الإطلاق ! وهو وهم ساذج لا يستطيع أن يسيغه من يدرس التاريخ البشري منذ بداياته المعروفة حتى وقتنا الحاضر. “فالعبادة” – في أي صورة كانت – لم تنقطع قط من حياة “الإنسان” في القديم أو الحديث، وحتى حين يقول الإنسان لنفسه: لن أعبد شيئا على الإطلاق . فإنه لا يكون بذلك قد تخلص من قضية العبادة كما يتوهم ، إنما يكون فقط قد غير المعبود ! وجعل نفسه – أو هواه – إلها معبودا تسير حياته بمقتضاه !
جوهر العبادة هي الطاعة والاتباع
إن العبادة ليست محصورة في شعائر التعبد، من صلاة أو نسك أو تقديم قرابين كما يتبادر إلى ذهن الناس أحيانا حين يتحدثون عن العبادة، فما ذلك إلا جانب واحد من جوانب العبادة أو شكل واحد من أشكالها، ولكن العبادة في جوهرها هي الطاعة والاتباع، مع الإيمان بأن المطاع واجب الطاعة لذاته لأي سبب من الأسباب .
الإنسان عابد بفطرته إما لله أو لغيره
والعبادة بهذا المعنى جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان ووجوده على الأرض، لأنها جزء من مكونات نفسه ولا يوجد على هذا المعنى إنسان لا يعبد، وإن زعم لنفسه غير ذلك، ذلك أن الإنسان عابد بفطرته، رضي أو كره، وأدرك ذلك بوعي أو لم يدرك ، وإنما الذي يتغير من إنسان لإنسان ، أو من حالة لحالة، هو ماهية الإله المعبود أو الصورة التي يعبد بها ذلك الإله، فهناك من ناحية إنسان يعبد الله وإنسان يعبد آخر -أو آلهة أخرى – غير الله، أيا كان اسمها وصفتها وطبيعتها، وهناك من ناحية أخرى عبادة صحيحة لله وعبادة منحرفة أو ضالة .. ولا تخرج حياة البشرية ـ في جميع أحوالها – عن حالة من هذه الحالات !
الإسلام يعلمنا هذه الحقيقة: من هو الإله الذي يستحق العبادة
فإن القسم الأكبر من القرآن، سواء ما نزل منه في مكة أو ما نزل في المدينة معني بهذه القضية: من هو الإله الذي يستحق العبادة، وعلى أي صورة ينبغي أن يعبد مع إبراز تلك الحقيقة المشار إليها، وهي أن الانسان عابد في كل حالة من حالاته، فإما أن يكون عابداً لله، وإما أن يكون عابداً لشيء آخر مع الله أو من دون الله، وكلاهما سواء !
ويعلمنا الإسلام أن الله خالق هذا الكون ومدبر أمره هو الذي يستحق العبادة وحده دون شريك ويفتح بصيرتنا وعقولنا على آيات الله في الكون لتدبرها ولنعرف من خلال تدبرنا لها أنه لا يمكن أن يكون لهذا الكون إلا خالق واحد ذلك أن التناسق الملحوظ في بنية هذا الكون وانتظام حركته الدقيقة لا يمكن أن يتأتى إذا اشتركت أكثر من مشيئة واحدة في بنائه وتسييره: (لو كان فيهما إلا الله لفسدتا) [الأنبياء: ٢٢] (إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) [المؤمنون: ٩١] (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور) [الملك:3].
فإذا لم يكن في الإمكان أن يصدر هذا الكون عن مشيئتين مختلفتين، ولم يكن ثمة إلا خالق واحد، فإنه هو وحده الذي يستحق العبادة، وكل من عداه من أشياء وكائنات هي خلق من خلق الله لا تستحق أن تعبد مع الخالق أو من دونه ، ومن ثم فعبادتها باطلة من أساسها، ولا يليق بإنسان عاقل أن يتوجه إليها بالعبادة.
الصورة الصحيحة لعبادة الله
فإذا تقررت هذه الحقيقة فإن القرآن ينتقل إلى القسم الآخر من القضية وهو بيان الصورة الصحيحة لعبادة الله ، فيقرر توحيد العبادة كما قرر توحيد الألوهية من قبل.
إن العبادة الصحيحة لله تتمثل في جانبين متكاملين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولا يغني أحدهما عن الآخر: تقديم شعائر التعبد لله وحده دون شريك، واتباع ما أنزل الله وتحكيمه في واقع الحياة .
فالصلاة لصنم أو شيء أو شخص أو تقديم القرابين إليه أو توجيه الدعاء إليه مفسد للعقيدة ومفسد للعبادة، واتخاذ منهج للحياة غير المنهج الرباني هو كذلك مفسد للعقيدة ومفسد للعبادة على قدم سواء.
وبهذه الطريقة تتوحد العبادة ويتوحد الاتجاه.
فالإله الذي يتوجه إليه الإنسان في صلاته ونسكه، هو ذاته الإله الذي يتوجه إليه وهو يتعلم ، وهو ينشط في طلب الرزق ، وهو يسعى لاستغلال طاقات الكون لتعمير الأرض ، وهو يأكل ويشرب ويمارس نشاطه الجنسي، وهو يتعامل مع زوجته وأولاده في داخل الأسرة، ومع غيره من الأفراد في المجتمع، ومع غيره من المجتمعات والشعوب والدول في السلم أو في الحرب سواء: (قل: إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له) [الأنعام:١٦٢ – ١٦٣].
وليس مقتضى ذلك أن يذكر اسم الله بلسانه وهو يقوم بكل واحد من هذه النشاطات المتعددة، ولا أن يكتب اسمه – تعالى – على الورق الذي يستخدمه في تدوين ما يتعلق بهذه الأشياء، إنما مقتضاه الحقيقي أن يذكره بقلبه ووجدانه إلى جانب ذكره بلسانه، وأن تكون هناك صورة عملية واقعية لهذا الذكر: هي الالتزام في كل ذلك بأوامر الله، وأوامر الله – في الإسلام – قد تعلقت بهذه الأمور كلها وبينت في شأنها ما يحل وما يحرم ، وما يباح وما لا يباح .
كيف يقدر الإنسان الله حق قدره؟
وحين يحدث ذلك فإن شيئا ضخما جدا يحدث في حياة الإنسان .
يحدث بادئ ذي بدء أن يقدم الإنسان إلى خالقه العبادة الصحيحة الواجبة له، فإن الإنسان لا يقدر الله حق قدره إذا عبده في ساعة من نهار في صلاة أو نسك ثم انصرف عن عبادته بقية يومه وبقية عمره ! والله يقول: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:٥٦] بذلك المعنى الواسع للعبادة الذي يشمل الصلاة والنسك والمحيا والممات. ومن ناحية أخرى يكون هذا بمثابة عبادة إلهين اثنين: إله يعبد في المعبد بالصلاة والنسك، وإله آخر (أو ألهة متعددة ولكنها في النهاية واحد) يعبد – بالطاعة والاتباع – في بقية شئون الحياة، والقرآن يقول: (وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) [النحل: ٥١].
جزاء التوجه لله وحده بالعبادة بمعناها الواسع الشامل
واستشعار القلب البشري لعظمة الله الخالق، وقدرته المعجزة، المتبدية في خلق الكون على هذه الصورة البديعة من الدقة والانتظام والتناسق، وخلق الأحياء من نبات وحيوان وإنسان .. كل ذلك يؤدي به ـ أو ينبغي أن يؤدي به – إلى عبادة هذا الإله العظيم بما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ولا يتأتى هذا بعبادته عبادة طائرة في لحظة، والانصراف عن عبادته بقية اليوم وبقية الحياة .
وبصرف النظر عن الجزاء الرباني على تلك العبادة، فإن “الشعور بالواجب” يقتضي القيام بها تلقائيا أداء للأمانات إلى أهلها: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء:٥٨] ومن ذا الذي يستحق العبادة الدائمة الخالصة غير هذا الإله القادر العظيم ؟…
ولكن الله من رحمته يتفضل على الناس بأنهم حين يؤدون إليه هذه الأمانة وهي العبادة بمعناها الواسع الشامل، أو بمعناها الكلي الموحد، فهو يثيبهم عليها جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ويؤمن لهم مستقبل حياتهم كله بعد الموت، وهي الفترة الأطول في حياة الإنسان، والأجدر بأن يسعى إلى تأمينها من كل سوء.
التوجه لله وحده بالعبادة يجلب السعادة والطمأنينة
أما هنا في الحياة الدنيا فإن توحيد العبادة يصنع أشياء كثيرة مهمة في حياة الإنسان .
فهو أولا يمنحه الطمأنينة النفسية التي يفقدها المرء خارج نطاق الإيمان، حيث لا تستطيع أن تمنحه إياها كل عقاقير “السوما” ولا الخمر ولا المخدرات، ولا الإغراق في اللهو أو المتاع الحسي، فهذه كلها تؤكد وجود الحالة التي يريد الإنسان أن يهرب منها، ولكنها لا تزيلها ولا تعالجها، إنما تأتي الطمأنينة من الإيمان ومن ذكر الله كما يقرر القرآن: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: ۲۸].
وهذه الطمأنينة ليست هي الاستسلام البليد للأحداث … إنها الضرب في مناكب الأرض سعيا وراء الرزق، والجهاد في سبيل الله، لإقرار العدل الرباني في الأرض ومجاهدة كل نوع من أنواع الظلم الذي يبغضه الله، وطلب العلم، وتعمير الأرض، مع الاطمئنان في ذلك كله إلى الله، لأنه هو الذي بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، ولأن المؤمن مطمئن إلى أن الله لا يريد به ـ دائما ـ إلا الخير.
ومن هنا يحدث في واقع الأرض سعي وراء الرزق بغير قلق، وطلب للعلم بغير قلق، وجهاد في سبيل الله بغير قلق، وحضارة غير قائمة على القلق، كما حدث ذلك بالفعل مرة في التاريخ على أيدي الأجيال الأولى من المسلمين.
الحضارة المعاصرة والقلق الخلاق
ولقد كان كتاب ومفكرون إلى عهد ليس ببعيد، يمتدحون هذا العصر بأنه عصر القلق … ويسمونه القلق الخلاق ! وقال كتاب آخرون ومفكرون إنه أمر ملازم للحضارة سواء كان ضارا في ذاته أو نافعا، وهذا تشخيص تنقصه الدقة العلمية، فهو ملازم للحضارة التي تعيش في عالم المادة وتهمل جانب الروح، لأنها من جهة تفقد المصدر الذي يعطي الطمأنينة الحقة، ومن جهة أخرى توزع النفس الإنسانية وتمزقها بين إلهين اثنين: إله يعبد في المعبد فترة قصيرة من الوقت، وإله آخر يحكم واقع الحياة، فضلا عن كون هذا الإله الأخير، وهو الأكثر مصاحبة للإنسان، إلها صلداً لا يرحم ولا يوحي لعباده بالطمأنينة والاستقرار.. وفي واقع التاريخ وجدت حضارة مزدهرة من قبل لا تحس بالقلق القاتل، لأنها كانت تعيش مطمئنة بذكر الله!
المصدر
كتاب: “ماذا يعطي الإسلام للبشرية: محمد قطب رحمه الله، ص3-10.
اقرأ أيضا
علاقة المحبة بالإيمان والعبادة
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع