يطرق القرآن شتى مداخل النفوس؛ ومن أعظمها ظاهرة الموت والحياة وحقيقتهما، والغيب القادم والمنتَظر. ولذا وجب التوقف والتفكر واستماع خطاب رب العالمين وهو يحدثنا عن هذه الحقائق الكبرى. (1استخدم الكاتب ـ رحمه الله وأجزل له الثواب ـ مصطلح “الوجدان”. ونرى أن أقرب كلمة شرعية للوجدان هي «القلب»)
مقدمة
يتحدث القرآن كثيراً عن ظاهرة الموت والحياة ليهز الوجدان بهذه الظاهرة المعجزة التى كثيراً ما يمر الإنسان بها دون أن يلتفت إليها، أو دون أن يعطيها حقها من الاهتمام، مع أنها جديرة ـ حين يلتفت إليها ـ أن تبعث فى نفسه هذا التساؤل:
من الذي خلق الحياة في الخلية الحية سواء أكانت نباتية أم حيوانية إنسانية..؟ أي قدرة معجزة هي التي جعلت تلك الخلية تتحرك وتنمو وتكبر وتتشكل في أشكال شتى..؟ أمِن ذات نفسها..؟ فلماذا إذن لا تتصرف الخلية الميتة على نفس الصورة..؟ أليس هناك سر معجزة في هذه الخلية الحية..؟ أليس الخالق سبحانه هو الذي أودع فيها ذلك السر المعجز: سر الحياة..؟!
ثم حين تموت تلك الخلية الحية، ويموت الكائن الحي: أين تذهب الحياة التي كانت سارية فيه..؟ إننا نقول في بساطة إن ذلك الكائن قد مات، سواء أكان نباتاً أم حيواناً أم إنساناً؛ ولكن هل الأمر بهذه البساطة في الحقيقة..؟ أليست ذات القدرة المعجزة التي وهبت الحياة للكائن الحي هي التي استردتها منه وتركته ميتاً بلا حياة..؟!
عجز العلم والبشري
إن العلم يحدثنا عن بعض مظاهر الحياة والموت.. يقول لنا إن مظاهر الحياة في الكائن الحي أنه يتغذى، وأنه ينمو، وأنه يتحرك، وأنه يتكاثر. ويقول لنا إن موت الكائن الحي هو وقف تلك الأعمال كلها، فلا يعود يتغذى أو ينمو أو يتحرك أو يتكاثر.
نعم..! ولكن العلم لم يقل لنا، ولا يستطيع حتى اللحظة أن يقول لنا ما سر الحياة ذاتها، وما الذى يجعل الخلية الحياة تتصرف على هذا النحو، وعلى هذا النحو بالذات..؟
ثم إذا سألنا العلم: لماذا تموت الخلية ولا تظل حية أبداً..؟! لم يستطع أن يجيبنا إلا بأن الخلية تهرم وتضعف ثم تموت..!
نعم..! ولكن لماذا يحدث ذلك..؟! لماذا لا تستمر في الحياة..؟ إن كل كائن حي يتشبث بالحياة ولا يحب أن يموت أبداً. حتى الذبابة إذا أردت أن تقتلها تفر منك لتبعد عن الموت.. ولكن لماذا تموت كل الكائنات..؟ ترى لو كان أمر حياتها بيدها هل كانت تتخلى عن الحياة أبداً..؟ كلا..! ولكنها تموت لأن الله قضى عليها الموت..! وهذا هو السر الحقيقي وراء كل الأسباب الظاهرة للعين..!
الموت والحياة إذن كلاهما من عند الله. كلاهما مشيئة ربانية وقدر رباني.
وهذا هو الذي يغيب عن الوجدان حين يتبلد حِس الإنسان على المشاهد المكرورة. ويغيب عن العقل حين تنطمس بصيرة الإنسان لسبب من الأسباب الكثيرة التي ذكرناها من قبل، فيقول كما يحكي القرآن عن الدهريين: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ﴾ (الجاثية: 24). أو يقول إن “الطبيعة” هى التى تخلق الحياة وتسلبها من الكائن الحي كما يقول “دارون”..!
ويجيء القرآن فيزيل تلك الغشاوة عن النفوس، ويتحدث عن ظاهرة الموت والحياة حديثاً يهز الوجدان فيصحو من تبلده، ويتيقظ لحقيقة الألوهية التي يرجع إليها الموت والحياة. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (الملك : 1-4).
فالله الذي بيده الملك، والذي هو على كل شيء قدير، هو الذي خلق الموت والحياة، وما يستطيع غيره سبحانه أن يخلق الموت والحياة، فهما ـ بأسرارهما المعجزة ـ لا يقدر عليهما إلا من كان بيده مللك كل شيء، وكانت له القدرة التي لا يحدُّها شيء، ولا يعجزها شيء..!
وهذا الإله القادر ـ سبحانه ـ الذي خلق الموت والحياة بقدرته، قد خلقهما لحكمة ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، فاقتضت مشيئته أن يعيش الإنسان فترة معينة من الزمن على هذه الأرض، يعمل فيها وينشط ويتحرك ثم يموت، ليُبعَث مرة أخرى ويحاسَب على أعماله.
وكذلك قضى ـ لحكمة يريدها ـ أن تموت الكائنات الحية كلها بعد فترة معينة من الحياة، هو الذي يقدّرها سبحانه لكل واحد من الأحياء، التي تبلغ ملايين الملايين من المخلوقات منذ أنشأ الله الحياة على الأرض، إلى أن تقوم الساعة في اليوم الموعود.
مَن وراء الموت والحياة..؟
والسياق القرآنى يلفت النظر إلى ظاهرة الحياة والموت فى وسط الحديث عن آيات القدرة فى الكون، ليوقظ الحِسّ المتبلد إلى أن هذه الظاهرة من الضخامة والإعجاز بحيث تقترن بآيات الخلق المعجزة التى لا يقدر عليها إلا الله، فمن قِبلها أشار إلى أن الله بيده الملك وأنه على كل شىء قدير، ومن بعدها يعود إلى ذكر الخلق: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ ثم حين يقول: ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾، فهو يدعو الإنسان إلى النظر فى الكون الواسع، يتملاه بخياله، ويتأمل فيه بفكره، ليرى: هل هناك اضطراب أو خلل أو نقص فى هذا الخلق الذى خلقه الله..؟: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ﴾..؟
وحين يتملى الإنسان ببصره وخياله وفكره هذا الكون الواسع وآيات القدرة فيه، ينفعل وجدانه بعظمة الله، وقدرته المعجزة، فإذا السياق القرآنى يطالبه بأن يرجع البصر كَرَّة أخرى، ليبحث عن النقص أو الخلل فى خلق الله..! فهل يستطيع شيئاً من ذلك..؟ أم يعود البصر عاجزاً حسيراً لا يقدر على هذه المهمة: ﴿يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾..! وعندئذ يكون الوجدان قد بلغ أقصى انفعاله، ووصل إلى غاية تأثره، فيقر إقراراً لا مهرب له منه بعظمة الله وجلاله، وقدرته التى لا تحدها حدود.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ (المؤمنون : 12-19).
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 21).
خاتمة
عاجزٌ هو الإنسان أمام الموت.. عاجز عن ظاهرة “توقف الحِسّ” ثم ظاهرة “الحياة” ثم حقيقة الرجوع الى الله. ويجب أن توجعه هذه الظاهرة وتوقظه وترده الى الله سبحانه. ولهذا كانت من أعظم المداخل للنفس والتي تكررت في كتاب الله الذي تكفَّل بإيقاظ الإنسان وإحيائه؛ من استجاب منهم لله واستمع الى خطابه.
………………………………
هوامش:
- استخدم الكاتب ـ رحمه الله وأجزل له الثواب ـ مصطلح “الوجدان”. ونرى أن أقرب كلمة شرعية للوجدان هي «القلب».
المصدر:
- كتاب ركائز الإيمان، ص22-24.