القرآن يربط الإنسان بربه، وينزل على قلبه كنسبة نزول الماء الى الأرض الهامدة؛ فكما تحيا الأرض هناك يحيا القلب هنا، إن أحسن استقبال خطاب الله اليه. (1استخدم الكاتب ـ رحمه الله وأجزل له الثواب ـ مصطلح “الوجدان”. ونرى أن أقرب كلمة شرعية للوجدان هي «القلب»)
مقدمة
إن الإنسان يتبلد حِسّه على المشهد المكرر فينسى دلالته الحقيقية. ينسى إعجاز القدرة الربانية لأنه ألِف مشهد الليل والنهار، ومشهد الشمس والقمر، والسحاب والمطر، والنبات المخضرّ. ولم تعد هذه المشاهد تهز وجدانه أو تلفت حِسَّه إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، وإلى أنه خالق عظيم مدبر حكيم متصف بالكمال متفرد بالخلق والإبداع.
والقرآن ـ بطريقته الجميلة المعجزة ـ يزيل تلك الغشاوة التى ترين على القلب وتجعل الحس يتبلد. ويعرض آيات الله فى الكون فى صورة حيّة ينفعل بها الوجدان كأنها جديدة يشهدها الإنسان لأول مرة..! وحين ينفعل بها الوجدان ويتأثر، ويتحرك الخيال لتتبع المشهد المعروض، وتتحرك المشاعر بشتى الانفعالات، عندئذ يوجهه إلى أن وراء هذه المشاهد كلها قدرة الله المعجزة، وأن صانعها وبارئها هو الله.. فينبغى إذن عبادة ذلك الإله القادر، والتوجه إليه وحده بالعبادة دون سواه.
بهذه الطريقة الحية الجميلة يتحدث القرآن عن مشاهد الكون التى تصور ضخامة الكون ودقته المعجزة فى ذات الوقت. وفى كل مرة يعقّب بأن الله هو الصانع لهذا كله، فهو الجدير وحده بالعبادة وبالتوجه وبالدعاء وبالخشية وبالرجاء.
آيات فى الكون
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل: 10-18).
معالجة تبلد الحِس
ففى هذه الآيات عرْض لبعض آيات الله فى الكون بطريقة تزيل عن الحِس تبلّده إزاء المشهد المكرور؛ بأن تلفت هذا الإنسان صاحب الحس المتبلد إلى جوانب إما أنه نسيها، وإما أنه لم يلتفت إليها أصلاً. فحين يدركها أو يتذكرها تصبح المشاهد جديدة فى حسه، وينظر إليها برؤية جديدة غير التى كان يراها بها من قبل، فينفعل بها وجدانه وتتحرك عواطفه.
فالإنسان ذو الحس المتبلد قد يرى الماء النازل من السماء فلا يتذكر أن هذا المطر هو الذى يتحول إلى عيون وينابيع وآبار وأنهار يشرب منها. أو هو من الجانب الآخر قد يشرب الماء الذى يجده أمامه ميسراً، وينسى أن هذا الماء لم يوجد فى الأرض من تلقاء نفسه، بل أنزله الله له فى صورة مطر، لا ينزل إلا بقدرة الله، وبحسب القوانين والسنن التى أودعها الله فى الكون، فأجرى بها السحاب وأنزل منه الماء.
فالنص القرآنى يوقظه إلى هاتين الحقيقتين فى آن واحد: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ﴾، كما يلفته أيضاً إلى الشجر النابت من هذا الماء.. فلا يعود المطر النازل من السماء ظاهرة مكررة مألوفة منقطعة فى حسه عن الله الذى أنزله من السماء، إنما تصبح موصولة بقدرة الله، فتحيا فى النفس وتؤثر فيها، بربطها بالله المنعم الوهاب.
ويستمر السياق يعرض أنواعاً من النبات الذى أشارت إليه الآية السابقة، فيذكر الزرع بعمومه، والزيتون والنخيل والأعناب، ﴿وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾.
وهذه الطريقة فى ذكر بعض الأنواع بالتفصيل والإشارة العامة إلى بقيتها تجعل الخيال يتحرك لتقّصِّى ما لم يُذكر بتفصيله بعد أن تتبع المذكور منه بالفعل..! وهكذا يشترك الخيال مع الوجدان فى تصور المشهد، ويعطى له حيوية جديدة فلا يعود هو المشهد المكرر المألوف الذى تبلد عليه الحس..!
مشاهد السماء
ثم يشير السياق إلى الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. وكلها مشاهد مألوفة مما يتبلد عليه الحس بالتكرار، ولكن السياق يذكر أمراً جديداً يغير وضعها فى النفس، ويجعلها كأنها تعرض لأول مرة، ذلك هو قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾.
فالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم لم تعد تلك الظواهر الكونية المعتادة التى ألِفها الحِسُّ ففقدت دلالتها فى النفس،، إنما هى كائنات مسخرة بأمر الله. ولا شك أن هذا المعنى قد غيَّر صورتها تماماً عن الصورة المعهودة التى تبدو فيها هذه الظواهر وهذه الأجرام السماوية كأنها قائمة بذاتها، مستقلة عن أى شىء بحركتها..! كلا..! إنها تقوم بعمل معيَّن؛ تقوم بتكليف ربانى كلفها الله إياه، وإذن فحركتها الدائبة ليست حركة “آليَّة” كما يتصوّرها الحِس المتبلد، إنما هى حركة حيّة ذات غاية وهدف، وكل جزء من هذه الحركة فى ليلٍ أو نهارٍ هو قيام بجزء من التكليف الذى يبلغ غايته يوم يغيّر الله نظام هذا الكون كله فى اليوم الموعود. وذلك فضلاً عن التذكير بنعمة الله فى قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ…﴾ والملحوظ أن جو السورة ـ سورة النحل ـ كلها هو جو تذكير الإنسان بنعمة الله عليه، لكى يتحرك وجدانه لشكر أنعم الله، بالتوجه إليه وحده دون سواه.
ثم يخطو السياق خطوة أخرى بلفْتِ الحِس إلى اختلاف الألوان فيما خلقه الله على ظهر الأرض من كائنات: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾.
ونلحظ هنا كذلك نوعاً آخر من إثارة الخيال لتتبع المشهد؛ فالآية تقول: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ ﴿مَا﴾ بدون تخصيص شىء بعينه، نباتاً كان أو حيواناً أو غيره.. فهنا ينطلق الخيال يتتبع كل ما ذرأ الله فى الأرض من الأشياء المختلفة الألوان، فتصبح هذه الأشياء حية فى الوجدان، وتتخذ صورة أخرى غير ما كانت عليه فى عهد التبلد والنسيان.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
هل يمكن أن يمر الإنسان بالبحر بعد قراءة هذه الآية دون أن يتحرك وجدانه ؟
إن البحر هنا كله حركة وحياة، مرتبط بحِس الإنسان بصلات قوية؛ فمنه يستخرج اللحم الطرىّ ليأكل، والحلية ليتزين، وفيه تمخر الفلك لتنقل البضائع والأرزاق.. إنه ليس ماء وأمواجاً فحسب، إنه عالَم كامل ملئ بالحركة والنشاط، وكله من فضل الله. أفلا نشكر الله على فضله..؟
ثم يذكر السياق من المشاهد الكونية الجبال والأنهار والطرق والعلامات والنجوم، بذات الأسلوب الذى يلفت إليها الحس ويحرك الخيال، ويذكر فى كل مرة بأنها نعمة من نعم الله على الإنسان.
الحقيقة الكبرى
وبعد هذا العرض الحى لتلك المشاهد، الذى يُخرج الحس من تبلّده، فيعود يستعرض الأشياء كأنها جديدة عليه، وينفعل بها ويتحرك معها.. بعد هذا العرض كله يعقب بالحقيقة الكبرى التى يريد أن ينبه الإنسان إليها: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾؟
ويجئ السؤال بعد إثارة الوجدان بآيات الله فى الكون على هذا النحو، فيتلقى إجابته من داخل النفس مؤكدة لا لبس فيها: لا يا رب! ليس الذى يخلق كالذى لا يخلق! سبحانك أنت الخلاق العظيم.
ويختم السياق بما يزيد الوجدان إثارة ويزيد النفس ارتباطاً بالله: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
والآن، وقد استعرضنا هذا النموذج مفصلاً، تستطيع على ضوئه أن تقرأ النماذج الأخرى المشابهة فى القرآن الكريم، ونكتفى بإثبات نموذجين اثنين منها:
﴿المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الرعد:1-4).
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ (الروم: 17-25).
خاتمة
يبقى عطاء القرآن لا ينقطع، وتبقى خاصيته الكريمة التي ذكرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه الحبل الواصل من السماء؛ يربط الإنسان بربه ويوصله به.
وفي هذا المقال مثال لهذا وأنموذج. ولكن عطاء هذا الكتاب فياض لا ينتهي.
………………………………
هوامش:
- استخدم الكاتب ـ رحمه الله وأجزل له الثواب ـ مصطلح “الوجدان”. ونرى أن أقرب كلمة شرعية للوجدان هي «القلب».
المصدر:
- كتاب ركائز الإيمان، ص17-22.
اقرأ أيضا: