الفرار الى الله ضرورة تفرضها العبودية، وتفرضها حقيقة الآخرة القادمة للجميع والراحل اليها الجميع، وتفرضها ظروف الأمة المتردية؛ فبها النجاة والعز في الداريْن.
مقدمة
إن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة الإسلامية وما حل بها من مصائب وويلات وفتن عظيمة على مستوى كثير من الأفراد والمجتمعات ليأخذ به الأسى والتوجع مأخذاً بعيداً حتى إن اليأس ليوشك أن يحيط به لولا عظيم الأمل في وعد الله عز وجل على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». (1البخاري (6/ 632) الفتح، مسلم (13/ 66) النووي)
ومما يُذهب اليأس ويعزي النفوس أيضاً معرفة المسلم بسنن الله عز وجل، في عباده، وإدراك أن ما أصابنا من المصائب والفتن العظيمة إنما هو من عند أنفسنا، وبسبب ذنوبنا، وبما طرأ على حياتنا من بُعد عن الله عز وجل، ونسيان للآخرة، وانغماس في الملذات، وإقبال على الدنيا والجري وراءها والانغماس في متاعها، مما انتشر بسببه كثير من المعاصي والفتن التي انجرف فيها الكثير إلا من شاء الله.
وما دام أن الداء قد عُرف والمرض قد شُخّص فلا يبقى أمام من ينشد النجاة لنفسه ولأمته إلا مباشرة العلاج؛ وذلك بالفرار إلى الله عز وجل، والإنابة إليه، والاعتصام به سبحانه كما أمر في كتابه العزيز بقوله: ﴿فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]، وهذا الفرار يعني ترك أسباب سخطه إلى أسباب مرضاته، والفرار من عقوبته إلى معافاته، ومنه إليه سبحانه. كما جاء ذلك في دعاء سيد المرسلين والمتقين، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». (2أبو داود في الصلاة (1427) والترمذي في الدعوات)
الأسباب الدافعة لتناول الموضوع
من أجل ذلك جاءت فكرة الاهتمام بهذه القضية المهمة من الوقفات التربوية القرآنية، وعلى هدي من تلك الآية الكريمة. ودافعي لذلك أسباب لعل من أهمها:
انفتاح الدنيا الشديد
وتغلّب الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام، وطيب وخبيث؛ فحصل التنافس الشديد على حطامها، وصار الحب والبغض من أجلها، بل والقتال عليها. نسأل الله السلامة.
وحصلت الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا، وتحولت هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة. لذا فمن موجبات النصيحة التحذير من فتنة الدنيا وغرورها، والفرار منها إلى الله عز وجل والدار الآخرة، وتنبيه الغافلين وحثّهم على التوبة والاستعداد للرحيل إلى دار البقاء والحياة السرمدية.
ظهور المنكرات
وذلك في أغلب البلدان، وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالرجوع إليه وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك ببعث الناصرين لدينه والصابرين على ما أصابهم في ذلك ابتغاء رضوان الله عز وجل.
ظهور الفتن المتلاطمة في هذا الزمان
والتي يرقق بعضها بعضاً، ورؤية المتساقطين فيها ما بين هالك فيها بقلبه أو بلسانه أو بيده؛ حتى أصبح المسلم يخشى على نفسه في أي لحظة أن يزل فيها ويسقط، وصار هِجِّيراه قولَ: «ربّ سلّمْ سلّمْ» و ﴿لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ [هود: 43].
وغدت هذه الفتن من الكثرة بحيث أصبح من يريد لنفسه النجاة لا يدري بأيها يبدأ بالمقاومة، أم مِن أيها يفر إلى الله عز وجل؛ أمِن فتنة الدنيا وزينتها ومناصبها، أم من الفتنة بالعلم وآفاته ومبطلاته، أم من فتنة البدع والمعاصي التي طمَّت وعمَّت، أم من الفتنة العمياء التي تدور رحاها اليوم بين المسلمين حيث دب فينا داء الأمم من الفرقة والشحناء والأهواء والحزبيات الكريهة، حتى صار كل حزب بما لديهم فرحين؟
وإن مما يزيد هذه الفتنة عمًى وشدة أنها في صفوف الطائفة المنصورة؛ طائفة أهل السنة والجماعة. وإن لم يتداركنا الله برحمته، ويسعى المخلصون من أهل السنة في إخماد هذه الفتنة فإن أمام الأمة ليلَ فتنةٍ طويلاً ثقيلاً يفرح به أعداء الإسلام ويستبشرون بذلك في مزيد من التسلط والاستعلاء. ولعل في طرح هذا الموضوع إسهاماً متواضعاً في التماس أسباب النجاة من هذه الفتنة الصماء والداهية الدهماء، وغيرها من الفتن.
الغربة الشديدة على الإسلام وأهله
وهي في أكثر بلدان المسلمين، حيث نُحّيَ شرع الله، وتسلط الأعداء على أهل الغربة بالنكال والأذى؛ فقلّ النصير والمعين، ونجم النفاق؛ حتى استوحش أهل الغربة من هذه الحال؛ فكان لا بد من التواصي معهم على الحق والصبر، لعل الله عز وجل، أن يثبت القلوب، وينجي من الفتن، ويكشف الكربة، وينصر حزبه المؤمنين.
التماس سبيل النجاة
التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات، ولفْت الأنظار إليهما بعد أن ابتعد كثير من الناس عنهما، والتأكيد أنه ما من خير إلا دلاّ عليه، وما من شر إلا حذّرا منه. قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، كما أن السنة النبوية ما تركت من فتنة ولا شر يأتي على هذه الأمة إلى قيام الساعة إلا وألمحت إليه، وحذَّرت منه، وحددت سبيل النجاة منه؛ فلا عذر لنا في ترك ما فيه حياتنا وسبيل نجاتنا: كتابِ الله عز وجل وسنةِ نبيه.
خاتمة
ثمة شيء آخر يتعلق بهذا الأمر ألا وهو لفت الأنظار إلى ذلك الانقياد العظيم من سلفنا الصالح لهدي الكتاب والسنة في الفرار من الشرور والفتن وضرورة الاطلاع الدائم على تلك المواقف العملية الموفقة من سلفنا الصالح إزاء الفتن، والزوابع، وضرورة الاقتداء بهم في تلك المواقف النبيلة المهتدية بالكتاب والسنة.
………………………………
الهوامش:
- البخاري (6/ 632) الفتح، مسلم (13/ 66) النووي.
- أبو داود في الصلاة (1427) والترمذي في الدعوات.