مصيبة الأ مة الإسلامية في وفاة العلامة العمراني

مقدمة

توفي في الثاني من ذي الحجة 1442هـ عن عمر يناهز 102 عامًا العلامة:

وجيه الدين أبو عبد الرحمن محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن علي بن حسين بن صالح بن شايع، العمراني الأصل، الصنعاني المولد والنشأة..

وأسرة العلامة محمد بن إسماعيل العمراني أسرة عريقة في العلم؛ فجده القاضي العلامة محمد بن علي العمراني كان من أبرز تلاميذ القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني، 1وقد ترجم له في البدر الطالع (2/210) ترجمة حافلة.

هذا وقد أجازني العمراني رحمه الله بمرويَّاته التي تتضمن أمهات كتب الحديث -وغيرها- التي من طريق الشوكاني رحمهم الله جميعًا.

ولست بصدد الترجمة لهذا العَلَم رحمه الله تعالى فقد كفانا الكثير من إخواننا مؤونة ذلك..

لكن نعلق على هذا الحدث الجلل بما يلي:

العلماء العاملين هم خير البرية

في الجملة علماء المسلمين على مدار العصور هم خير الخلق وأعدلهم؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ 7 جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ فينتج من مجموع النَّصَّين أن العلماء العاملين هم خير البرية.

وقال النبي صـلى الله عليه وسلم : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». 2[أخرجه البيهقي (20911) وابن بطة في الإبانة (33) وغيرهما من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري يرفعه, وإبراهيم هذا مختلف في صحبته, وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنـه مرفوعًا, ورواه عن النبي صـلى الله عليه وسلم عدد من الصحابة كما في كنز العمال (28918), ونقل عن الخطيب قوله: قال الخطيب: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث, وقيل له: كأنه كلام موضوع، قال: لا هو صحيح سمعته من غير واحد. اهـ والحديث صححه الألباني في المشكاة (248)].

قبض العلماء هو قبض للعلم ذاته

وقبض العلماء هو قبض للعلم ذاته، كما قال النبي صـلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». 3[أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا].

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرًا منها؛ تأسِّيًا بما ثبت عن أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا». قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”. 4[رواه مسلم (918)].

ذكر موتى المسلمين بالخير أمر مشروع

وذكر من يموت بالخير أمر مشروع -لا سيما إذا كان من العلماء-، وقد أمر النبي صـلى الله عليه وسلم بالكف عن الموتى إلا بالخير؛ عن عائشة رضي الله عنـها قالت: ذكر عند النبي صـلى الله عليه وسلم هالكٌ بسوء؛ فقال: «لا تذكروا هلكاكم إلا بخير». 5[أخرجه النسائي في الكبرى (2573) بسند صحيح].

وله شواهد منها حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ». 6[رواه أبو داود (4900) وغيره، وفي سنده ضعف].

ملحوظات على مدح العلامة العمراني رحمه الله تعالى

وقد امتدح الناس العلامة العمراني رحمه الله تعالى، وحُقَّ لهم ذلك، وهذه عاجل بشرى المؤمن أن يشهد له هذا الجمع الغفير.. وثمة ملحوظات على بعض مدحهم؛ نذكر منها:

مدح بعض الناس العلامة العمراني رحمه الله تعالى بابتعاده عن السياسة؛ يقول أحدهم: واللافت بأن العلامة العمراني لا يميل للسياسة، ولهذا احتفظ بمحبة كل اليمنيين ومريديه، العلامة العمراني عُرف بالإسلام المعتدل في كل مسيرته العلمية والعملية لهذا فقد كسب الطرفين من أصحاب المذهب الشافعي والذين يعرفون اليوم باسم أهل السنة، ومن جهة أخرى كسب من يصنفون بأنهم مذهبيًّا من أتباع المذهب الزيدي المتشدد والذين يصنفون بأنهم الأقرب للشيعة. وأفتى فتواه الشهيرة بعدم اعتبارهم خارجين عن الإسلام… ورغم ذلك لا يسلم حتى من يزهد في السياسة والمناصب ومن له رؤية منفتحة على كل المذاهب من الأذى المعنوي وحتى الجسدي ففي ظل الفوضى التي تعيشها اليمن منذ ثورة الربيع العربي تعرض العلامة العمراني لحملة إعلامية دعته لنفي كل ما اتهم به من فتاوى أنه يكفر الآخرين أو يدعو إلى قتالهم. اهـ.

ويقول آخر -واصفًا العمراني-: …في الاضطرابات السياسية التي مرت بها اليمن -وآخرها ثورة 2011 وما تلاها من إرهاصات-  كان يلزم الحياد.. ولم يكن مؤيدًا لطرف ضد طرف.. وكان دائمًا ما يقول: أنا حق علم وفقه وبس.. ولست حق سياسة… اهـ.

وبعيدًا عن حقيقة وصفهم العمراني من عدمه -أو على الأقل عدم دقته- ففي كلامهم هذا ملحظان خطيران:

الأول: إيهام للعامة بأن الصواب هو إرضاء الفُرَقاء مهما كان حجم الخلاف، حتى لو كان في الأصول، وهذا ليس مدحًا؛ لأن الشرع ذمَّ مثل هذا الموقف؛ فعن عَاصِم بْن مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُنَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا، فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: “كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا”. 7[أخرجه البخاري (7178)].

وعن أبي هريرة رضي الله عنـه أن رسول الله صـلى الله عليه وسلم قال: «إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه». 8[متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر: “قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة”. اهـ 9[فتح الباري (10/ 475)].

وقد أخبر النبي صـلى الله عليه وسلم أن السلامة مرهونة بإنكار المنكر -على ما أوجبته الشريعة-؛ عن أمِّ سلمة رضي الله عنـها أنَّ رسول الله صلـى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ؛ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ». قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا». 10[رواه مسلم (1854)].[/mf

 أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر

وبوَّب النووي على هذا الحديث: “باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك”.

وأخبر النبي صـلى الله عليه وسلم أن من أفضل الجهاد: كلمة حق عند ذي سلطان جائر؛ عن أبي أمامة رضي الله عنـه قال: عَرض لرسول الله صـلى الله عليه وسلم رجل عند الجمرة الأولى. فقال: يا رسول الله أيُّ الجهاد أفضل؟ فسكت عنه. فلما رمى الجمرة الثانية سأله. فسكت عنه. فلما رمى جمرة العقبة وضع رجلَه في الغرز ليركب قال: «أين السائل؟» قال: أنا يا رسول الله. قال: «كلمةُ حقٍّ عند ذي سلطان جائر». 10[رواه ابن ماجه (4012) وقال الألباني: حسن صحيح].

قال شيخ الإسلام الـهَرَوِي (ت481هـ): عُرضتُ عَلَى السَّيْف خَمْسَ مَرَّات، لَا يُقَالَ لِي: ارْجِع عَنْ مَذْهَبك. لَكِن يُقَالَ لِي: اسْكُتْ عَمَّنْ خَالفك. فَأَقُوْلُ: لَا أَسكُتُ. 11[سير أعلام النبلاء (14/36،39،42)].

حكم الفِرَق الخارجة عن السنة حكم عامة أهل الوعيد من أهل الكبائر

وفِرَق أهل القبلة كالزيدية والمرجئة.. لم يقل أحد بأنهم خارجون عن الإسلام، لكنهم خارجون عن السُّنَّة مُتوعَّدون بالهلاك والنار؛ لقوله صـلى الله عليه وسلم: «…وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». 12[رواه الترمذي (2641) وحسنه الألباني في الصحيحة (1348)].

فحكم الفِرَق الخارجة عن السنة حكم عامة أهل الوعيد من أهل الكبائر، فهم تحت مشيئة الله، من شاء عذبه، ومن شاء غفر له، ثم مصيرهم إلى الجنة ما داموا مسلمين، إلا من كان منهم كافرًا في الباطن، كأن يكون مكذِّبًا أو شاكًّا، والواحد من هؤلاء قد يخفى عليه كثير من الحق، حتى يظن أن الحق مع طائفته لما يوردونه من الشبهات، وقد يكون مؤمنًا بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا وإنما التبس عليه واشتبه الأمر، فمثل هذا ليس كافرًا قطعًا، بل قد يكون عاصيًا أو فاسقًا، وقد يكون مخطئًا مغفورًا له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه -كما أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية-.

الثاني: في ثنايا مدحهم هذا ترغيب في هجر السياسة، وعدم اتخاذ المواقف اللازمة من الخصوم السياسيين، وأن ذلك هو مقتضى العلم..

ولا شك أن وضوح المنهج والتزام جانب الحق وتكثير أهله والرد على المنحرفين من السياسيين وغيرهم هو من مقتضى الدين والعلم..

نعم قد يتخذ العالم موقفًا فيه مداراة؛ لدفع ضرر ما، لكنه موقف مؤقت ويزول، وليس منهجًا مطردًا، وأيضًا هذا مما لا يُمدح به أحد..

وإنما مدح الناس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في موقفه من القول بخلق القرآن، ولم يمدحوا سائر العلماء الذين أخذوا بالرُّخصة.. لكن التمسوا لهم العذر..

الفرق بين المداراة والمداهنة

والفرق بين المداراة والمداهنة، أن الكل فيه ملاينة، إلا أن المداراة ملاينة فيما يجوز، بل قد يُستحب، أما المداهنة فهي ملاينة فيما لا يجوز شرعًا؛ ولذلك ذمَّها الله عز وجل في قوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا 73 وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾.

الدين الحق المعتدل الوسطي هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيئ

والحاصل أن الدين الحق المعتدل الوسطي يتلخَّص فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في كل شيء:

في منهج النظر والاستدلال.

في العقيدة.

في السلوك والأخلاق.

في منهج النقد والحكم على الآخرين.

في منهج التغيير..

رحم الله العلامة العمراني ورفع منزلته في الدرجات العُلا من الجنة، وأخلف الله تعالى المسلمين خيرًا..

الهوامش:

  1. وقد ترجم له في البدر الطالع (2/210) ترجمة حافلة.
  2. أخرجه البيهقي (20911) وابن بطة في الإبانة (33) وغيرهما من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري يرفعه, وإبراهيم هذا مختلف في صحبته, وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنـه مرفوعًا, ورواه عن النبي صـلى الله عليه وسلم عدد من الصحابة كما في كنز العمال (28918), ونقل عن الخطيب قوله: قال الخطيب: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث, وقيل له: كأنه كلام موضوع، قال: لا هو صحيح سمعته من غير واحد. اهـ والحديث صححه الألباني في المشكاة (248).
  3. أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا.
  4. رواه مسلم (918).
  5. أخرجه النسائي في الكبرى (2573) بسند صحيح.
  6. رواه أبو داود (4900) وغيره، وفي سنده ضعف.
  7. أخرجه البخاري (7178).
  8. متفق عليه.
  9. فتح الباري (10/ 475).
  10. رواه مسلم (1854).
  11. رواه ابن ماجه (4012) وقال الألباني: حسن صحيح.
  12. سير أعلام النبلاء (14/36،39،42).
  13. رواه الترمذي (2641) وحسنه الألباني في الصحيحة (1348).

اقرأ أيضاً:

التعليقات غير متاحة