إن القرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي، وتجعلا من أمة مستسلمة، منخذلة ناعسة، أمة فتية متلهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية وسخطاً على النظم الجائرة.
اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية
لأسباب تاريخية عقلية، طبيعية قاسرة، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية، تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية، وفضائل خلقية، ومبادئ إنسانية، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة، وثارت على الطبيعة الإنسانية، والمبادئ الخلقية، وشغلت بالآلات، واستهانت بالغايات، ونسيت مقصد الحياة، وبجهادها المتواصل في سبيل الحياة وبسعيها الدائب في الاكتشاف والاختبار مع استهانتها المستمرة بالتربية الخلقية وتغذية الروح وجحود بما جاءت به الرسل، وبإمعانها في المادية، وبقوتها الهائلة مع فقدان الوازع الديني، والحاجز الخلقي، أصبحت فيلاً هائجاً، يدوس الضعيف، ويهلك الحرث والنسل.
عندما تراجع المسلمون عن دورهم
وبانسحاب المسلمين من ميدان الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وإمامة الأمة، وبتفريطهم في الدين والدنيا، وجنايتهم على أنفسهم وعلى بني نوعهم، أخذت أوربا بناصية الأمم، وخلفتهم في قيادة العالم، وتسيير سفينة الحياة والمدنية التي اعتزل ربَّانُها، وبذلك أصبح العالم كله – بأممه وشعوبه ومدنياته – قطاراً سريعاً تسير به قاطرة الجاهلية والمادية إلى غايتها، وأصبح المسلمون – كغيرهم من الأمم – ركاباً لا يملكون من أمرهم شيئاً، وكلما تقدمت أوربا في القوة والسرعة، وكلما ازدادت وسائلها ووسائطها، ازداد هذا القطار البشري سرعة إلى الغاية الجاهلية حيث النار والدمار والاضطراب والتناحر والفوضى الاجتماعية والانحطاط الخلقي والقلق الاقتصادي والإفلاس الروحي، وها هي أوربا تستبطئ الآن أسرع قطار، وتريد أن تصل إلى غايتها بسرعة الطائرة بل بسرعة القوة الذرية.
استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم
وليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها وتزاحمها في سيرها وتعارضها في وجهتها وتناقشها في مبادئها وفلسفتها الجاهلية، ونظام حياتها المادي لا في أوربا ولا في أمريكا، ولا في أفريقية وآسيا، والذي نرى ونسمع من خلاف سياسي ونزاع بين الأمم فإنما هو تنافس في القيادة، وتنازع فيمن يكون هو القائد إلى هذه الغاية المشتركة.
الشعوب والدول الآسيوية
أما الشعوب والدول الآسيوية والأمم الشقية فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا في الحضارة والسياسة، وتدين بما تدين به هذه الشعوب في الأخلاق والآداب والاجتماع وتعتقد ما تعتقده عن الحياة والكون، وتتحلى به من سيرة وخلق وتهذيب، إلا أنها لا ترضى أن يتولى أمرها النزلاء الأجانب ويقيموا عليها الحجر كما يقام على السفيه، وأن تكون للأوربيين عليها دول وإمبراطوريات ينعمون في ظلها ويرتعون في جنباتها، ولا يكون لها مثلها في الشرق وأفريقية وآسية، ولا تستمتع حتى في داخل بلادها بما استمتع به الأوربيين ماديتهم وتنقم منهم أخلاقهم وسيرتهم وتنعى عليهم فلسفتهم ومبادئهم فلعل ذلك لا يخطر منها على بال، بل قد زين لها كل ما تتصف به الأمم الأوربية فحلا في عينها.
وكلما سنحت لهذه الأمم فرصة الاستقلال وملكت زمام أمورها تجلت أخلاقها ومبادئها وظهرت سيرتها الجاهلية في صورتها الطبيعية الحقيقية، فإذا هي أفظع صورة وأبشعها في التاريخ، قساوة قلب وضراوة بالدم الإنساني وهتكاً للأعراض ونهباً للأموال وقتلاً وتدميراً، وقد ظهرت من بعض هذه الشعوب الآسيوية على أثر استقلالها من الحكم الأجنبي فظائع ومنكرات تستبشعها الوحوش والسباع ، فقد عاملت بعض الشعوب المواطنة بعصبية دينية وسياسية، معاملة عز نظيرها في التاريخ، رضعاء يقتلون ويُقطعون إرباً إرباً، ونساء تهتك أعراضهن ثم يقتلن من غير رحمة ولا حياء، وآبار تسمم وبيوت تهدم ونيران تشعل وقنابل تقذف، وإذا دخلوا قرية فاتحين منتشرين أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ووضعوا فيها السيف، وعاث الوحوش في الدماء والأعراض حتى أقفرت القرى، وامتلأت الآبار بالسيدات اللاتي آثرن الموت على هتك الأعراض، هذا عدا نساء قتلن بهمجية وطرق فظيعة لم تسبق في التاريخ، إلى غير ذلك من الأفاعيل التي يشك فيها الناس في البلاد الإسلامية والمتحضرة.
هذا غير ذلك الاضطهاد الديني والمقاطعة الاجتماعية التي تلقاها تلك الطوائف في بلادها، وما تلقى ثقافتها وديانتها من مطاردة ومهاجمة من تلقاء هذه الشعوب فتحرم الحرية الثقافية واللسانية وترغم على لغة مصطنعة دائرة، ويحاول الأقوياء أن يمحوا كل أثر من آثار حضارتها وثقافتها ويختلقوا عليها الأكاذيب والجنايات، ويمثلوا قصة الحمل والذئب كل يوم، فيعزل رجالها من الوظائف وتسد في وجوههم أبواب المعاش والتجارة والحرف، وتقفل دكاكينهم ومحالهم التجارة وتصادر أملاكهم وأموالهم بعلل واهية مضحكة.
الحل الوحيد للأزمة العالمية
والحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة.
إن تحول القيادة من بريطانيا إلى أمريكا ومنهما جميعاً إلى روسيا لا يغني غناء ولا يغير من الموقف شيئاً، فإن هذا التحول ليس إلا نقل المجداف من اليمين إلى الشمال إذا تعبت الأولى أو بالعكس، فما دام المجداف واحداً فلا فرق بين يمينه وشماله، وليست بريطانيا وأمريكا وروسيا إلا أيدي رجل واحد تتداول دفة الحياة، وتتناوب تجديف السفينة على خط واحد إلى جهة واحدة.
إن التحول المؤثر الواضح هو تحول القيادة من أوربا – بالمعنى الواسع الذي يشمل بريطانيا وأمريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من الأمم الآسيوية والشرقية – التي تقودها المادية والجاهلية، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة ودينه الحكيم.
هذا هو التحول الذي يغير وجه التاريخ ويحول مجرى الأمور وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي ترقبه.
إن حقاً على العالم الإسلامي أن يُمني نفسه بهذا المنصب الخطير، ويطمح إليه، وإن حقاً على كل بلد إسلامي وشعب إسلامي أن يشد حيازيمه لذلك، وإن حقاً على كل مسلم أن يجاهد في سبيله ويبذل ما في وسعه، فهذه هي المهمة الشريفة التي نيطت بالأمة الإسلامية يوم برزت إلى عالم الوجود، ويوم ظهرت نواتها في جزيرة العرب.
العالم الإسلامي على أثر أوربا
من الغريب الواقع أن المسلمين قد أصبحوا في الزمن الأخير في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الإسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوربية وجنوداً متطوعين لها، بل صار بعض الشعوب والدول الإسلامية يرى في الشعوب الأوربية التي تزعمت حركة الجاهلية منذ قرون ونفخت فيها روحاً جديدة، وركزت أعلامها على الشرق والغرب، ناصراً للمسلمين، حامياً لذمار الإسلام المستضعف، حاملاً لراية العدل في العالم قوَّاماً بالقسط.
ورضي عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية بدل أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي، وسرت فيهم الأخلاق الجاهلية ومبادئ الفلسفة الأوربية سريان الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك، فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها، ترى تهافتاً على الشهوات ونهماً للحياة، نهم من لا يؤمن بالآخرة، ولا يوقن بحياة بعد هذه الحياة، ولا يدخر من طيباتها شيئاً. وترى تنافساً في أسباب الجاه والفخار وتكالباً عليها فعل من يغلو في تقويم هذه الحياة وأسبابها، وترى إيثاراً للمصالح والمنافع الشخصية على المبادئ والأخلاق، شأن من لا يؤمن بنبي ولا بكتاب، ولا يرجو معاداً، ولا يخشى حساباً، وترى حباً للحياة وكراهة للموت، دأب من يعد الحياة الدنيا رأس بضاعته، ومنتهى أمله ومبلغ علمه، وترى افتتاناً بالزخارف والمظاهر الجوفاء كالأمم المادية التي ليس عندها أخلاق ولا حقيقة حية، وترى خضوعاً للإنسان، واستكانة للملوك والأمراء ورجال الحكومة والمناصب وتقديسهم شأن الأمم الوثنية وَعَبَدَةِ الأصنام.
المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل
ولكن برغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم، ومزاحمتها في وضع العالم، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة، والتي يحرّم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية.
هذه هي الأمة التي يمكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوروبا في الشرق والغرب وأن تحبط مساعيها.
رسالة العالم الإسلامي
لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها.
وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى، والتي لخصها أحد رسلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرن العشرين انطباقها على القرن السادس المسيحي، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية.
فلا يزال الناس اليوم عاكفين على أصنام لهم – من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة ومنصوبة – ولا تزال عبادة الله وحده مغلوبة غريبة، ولا تزال الفتنة قائمة على قدم وساق، ولا يزال إله الهوى يعبد، ولا يزال الأحبار والرهبان والملوك والسلاطين وأصحاب القوة والثروة والزعماء والأحزاب السياسية أرباباً من دون الله تقرب لها القرابين وينصب لها الجبين.
وكذلك العالم اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والانتقال من مكان إلى مكان، واتصال الشعوب والأمم بعضها ببعض أضيق بأهله منه بالأمس، قد ضيقته المادية التي لا تنظر إلا إلى قدمها ولا تؤمن إلا بفائدة صاحبها، ولا تعرف غير العكوف على الشهوات وعبادة الذات، وقد خنقته الأثرة التي لا تسمح لاثنين بالعيش في إقليم واسع، والوطنية الضيقة التي تنظر إلى كل أجنبي شزراً وتجحد له كل فضل وتحرمه كل حق.
ثم ضيق خناق هذه الحياة المادية المسيطرون السياسيون الذين يحتكرون وسائل الحياة والرزق والقوت، ويضيقون هذه الحياة لمن شاؤوا ويسعونها لمن شاؤوا، ويبسطون الرزق – زعموا – لمن شاؤوا ويقدرونه لمن شاؤوا، فأصبحت المدن الواسعة أضيق من جحر ضب، وأصبح الناس في بلادهم في شبه حجر كحجر السفيه واليتيم وضاقت على الناس الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وأصبح الناس في أغلال وأصفاد من المدينة والمملكة مُهددين في كل وقت بمجاعات مصطنعة وحقيقية، وحروب خارجية وداخلية، وإضرابات واضطرابات أسبوعية ويومية.
نعم ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام!
ولا تزال في هذا العصر المتنور الواعي المثقف أديان تعبث بعقول الناس وتسخرهم كالحمير والبقر، وتزين لأتباعها قتل مئات من البشر لأجل بقرة ذبحت في عيد الأضحى، أو شجرة مقدسة عُضدت في قرية من القرى.
وهنالك أديان بغير اسم الأديان لا تقل في نفوذها وسلطانها ولا تقل في جورها وعدوانها وعبثها بعقول أتباعها وفي عجائبها عن الأديان القديمة، وهي والنظم السياسية والنظريات الاقتصادية التي يؤمن بها الناس كدين ورسالة، كالجنسية والوطنية، والديموقراطية والاشتراكية، والدكتاتورية والشيوعية، وهي أقل مسامحة لمن لا يدين بها وأشد قسوة على منافسيها، وأضيق عطفاً من الأديان الجاهلية، والاضطهاد السياسي اليوم أفظع من الاضطهاد الديني في القرون المظلمة، فإذا تغلب حزب من الأحزاب الوطنية أو ساد مبدأ من المبادئ السياسية. أو انتصر فريق على فريق في الانتخاب، سد في وجه منافسه الأبواب وعذبه أشد العذاب، وما حرب أسبانيا الأهلية التي دامت مدة طويلة، وسفكت فيها دماء غزيرة، وما حرب الصين التي قامت بين الجمهوريين والشيوعيين من أهل الصين، وحرب ((كوريا)) التي قامت بين الجنوبيين والشماليين، إلا نتيجة اختلاف في العقيدة السياسية والنظريات الاقتصادية.
فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس واشتد تذمر الناس منها، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام، لو نهض العالم الإسلامي، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال.
الاستعداد الروحي
ولكن العالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر المدينة التي جادت بها أوربا على العالم، وبحذق لغاتها وتقليد أساليب الحياة التي ليست من نهضة الأمم في شيء، إنما يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها، وينتصر بالإيمان والاستهانة بالحياة والعزوف عن الشهوات، والشوق إلى الشهادة والحنين إلى الجنة، والزهد في حطام الدنيا وتحمل الأذى في ذات الله صابراً محتسباً قال الله تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) فقوة المؤمن وسر انتصاره في إيمانه بالآخرة ورجائه لثواب الله، فإذا كان العالم الإسلامي لا يرمي إلا إلى ما تراه أوربا من العرض القريب، ولا يطمح إلا فيما تطمح فيه أوربا من حطام الدنيا، ولا يؤمن إلا بما تؤمن به أوربا من المحسوسات والماديات، كانت أوربا بقوتها المادية أحق بالانتصار والسيادة من العالم الإسلامي الذي يتخلف عنها في القوة المادية تخلفاً شائناً ولا يفوقها في القوة المعنوية.
لقد أتى على العالم الإسلامي حين من الدهر وهو مستخف بهذه القوة المعنوية لا يحتفل بها، ولا يحتفظ بالبقية منها، ولا يغذيها، حتى نضب معينها في قلبه، فلما خاض العالم الإسلامي في المعارك التي تحتاج إلى الإيمان، والصبر والثبات، وتحمل الشدائد والنكبات، وزلزل بعض الزلزل، ولجأ إلى القوة المعنوية الكامنة في نفوس المسلمين، كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، هنالك عرف أنه قد جنى على نفسه جناية عظيمة بإهمال هذه القوة الروحية وتضييعها، وبحث في جعبته فلم يجد شيئاً يسد مكانها ويغني غناءها.
وخاض العالم الإسلام في معارك حاسمة، وهو يرى أن المسلمين تقوم قيامتهم، وسوف يهرعون للدفاع عن الإسلام وحماية بلادهم المقدسة، ويغضبون لله ورسوله وحُرماته، وإن الأقطار الإسلامية تشتعل ناراً وتتوقد حمية وحماسة، فإذا الحادث لم يؤثر في العالم الإسلامي التأثير المنتظر، وإذا النظر ضئيل والسخط خافت، وإذا العالم الإسلامي كعادته – في غدواته وروحاته – منهمك في لذاته وشهواته، كأن لم يحدث كبير شيء، فعرف أن الحملة الدينية قد ضعفت في العالم الإسلامي، وأن شعلة الجهاد قد انطفأت أو كادت، وهنالك عرف الناس ضعف العالم الإسلامي وخذلانه وهوانه على أنفسهم.
فالمهم الأهم لقادة العالم الإسلامي، وجمعياته وهيئاته الدينية وللدول الإسلامية غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله، والإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى، لا تدخر في ذلك وسعاً، وتستخدم لذلك جميع الوسائل القديمة والحديثة. وطرق النشر والتعليم، كتجوال الدعاة في القرى والمدن. وتنظيم الخطب والدروس، ونشر الكتب والمقالات، ومدارسة كتب السيرة، وأخبار الصحابة، وكتب المغازي والفتوح الإسلامية، وأخبار أبطال الإسلام وشهدائه، ومذاكرة أبواب الجهاد، وفضائل الشهداء، وتستخدم لذلك الراديو والصحافة وكتب الأدب، وجميع القوى والوسائل العصرية.
والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي، وتجعلا من أمة مستسلمة، منخذلة ناعسة، أمة فتية متلهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية وسخطاً على النظم الجائرة.
إن علة العالم الإسلامي هو الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها، والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة والهدوء الزائد في الحياة، فلا يقلقه فساد، ولا يزعجه انحراف، ولا يهيجه منكر، ولا يهمه غير مسائل الطعام واللباس، ولكن بتأثير القرآن والسيرة النبوية – إن وجدا إلى القلب سبيلا – يحدث صراع بين الإيمان والنفاق، واليقين والشك، بين المنافع العاجلة والدار الآخرة، وبين راحة الجسم ونعيم القلب، وبين حياة البطالة وموت الشهادة، حينئذ يقوم في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، بل في كل أسرة إسلامية في كل بلد إسلامي (فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) هنالك تتجدد ذكرى بلال، وعمار، وخباب، وحبيب، وخُبيب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، وأنس بن النضر، هنالك تفوح روائح الجنة، وتهب نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء …
الاستعداد الصناعي والحربي
ولكن مهمة العالم الإسلامي لا تنتهي هنا، فإذا أراد أن يضطلع برسالة الإسلام ويملك قيادة العالم فعليه بالمقدرة الفائقة، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة، وفي كل حاجة من الحاجات، يقوت ويكسو نفسه، ويصنع سلاحه، وينظم شؤون حياته، ويستخرج كنوز أرضه وينتفع بها، ويدير حكوماته برجاله وماله، ويمخر بحار المحيط به بسفنه وأساطيله، ويحارب العدو ببوارجه ودباباته وأسلحة بلاده، وتزيد صادراته على وارداته، ولا يحتاج إلى الاستدانة من الغرب، ولا يضطر إلى أن يلجأ إلى راية من راياته وينضم إلى معسكر من معسكراته.
أما ما دام العالم الإسلامي خاضعاً للغرب في العلم والسياسة والصناعة والتجارة، يمتص الغرب دمه، ويحفر أرضه فيستخرج منها ماء الحياة، وتغزو بضائعه أسواق العالم الإسلامي وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء، وما دام العالم الإسلامي يستدين من الغرب الأموال، ويستعير منه الرجال، ليديروا حكومته، ويشغلوا الوظائف الخطيرة ويدربوا جيوشه ويستورد منه البضائع ويجلب منه الصنائع، وينظر إليه كأستاذ ومرب، وسيد ورب، لا يبرم أمراً إلا بإذنه ولا يصدر إلا عن رأيه، فلا يستطيع أبداً أن يواجه الغرب فضلاً عن أن يناهضه ويغالبه.
هذه هي الناحية العلمية والصناعية التي أخل بها العالم الإسلامي في الماضي فعوقب بالعبودية الطويلة والحياة الذليلة، وابتلي العالم الإسلامي بالسيادة الأوربية الجائرة التي ساقت العالم إلى النار والدمار والتناحر والانتحار، فإن فرط العالم الإسلامي مرة ثانية في الاستعداد العلمي والصناعي والاستقلال في شئون حياته كتب الشقاء للعالم وطالت محنة الإنسانية وبلاؤها.
المصدر
كتاب: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” أبو الحسن الندوي، ص225-239.
اقرأ أيضا
أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان