الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين … أما بعد: فإن ما تمر به الأمة الإسلامية اليوم من تداعي الأمم الكافرة عليها تريد هدم دينها وطمس هويتها ليتوجب على أهل العلم الربانيين في هذه الأمة أن يتنادوا ويتجمعوا للقيام بنصرة الدين وإنقاذ الأمة مما يراد بها من الأخطار الجسيمة.
وينبغي للعلماء والدعاة الربانيين القائمين بنصرة هذا الدين أن ينطلقوا في قومتهم هذه من أسس راسخة في هذا الدين، تلكم الأسس التي انطلق منها سلف هذه الأمة من الصحابة والمجاهدين من بعدهم وقدوتهم في ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده وعلمه وعمله.
ومن أهم هذه الوصايا ما يلي:
وفي هذه الورقة أحاول جاهدا إن شاء الله تعالى في بيان بعض الوصايا المهمة في تكوين العلماء والدعاة المؤثرين في هذه الأمة مستفيدا من بعض ما سجله بعض المفكرين المعاصرين الذين نحسبهم على منهج نقي في العلم والعمل في هذا المجال وما يفتح به الله عز وجل من إضافات وتعليقات أسأل الله عز وجل أن ينفع بها وأن نكون من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وألا نكون من الذين يقولون ما لا يفعلون.
أولا: صحة المنهج ونقاء المفاهيم
صحة المنهج ونقاء المفاهيم المستمدة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم الصحابة الراسخين رضي الله عنهم وفي ذلك تحديد للمرجعية؛ وبتحديد المرجعية (الكتاب والسنة بفهم الصحابة) تتحدد وتتضح الأهداف لطالب العلم والداعية ويكون الكتاب والسنة مخدومة وبقية فنون العلم خادمة لفهم الكتاب والسنة و ما يثمران من أعمال وأحوال، ولذا ينبغي للعالم والداعية ألا تستغرقه علوم الآلة وفروعها وينسى الهدف.
ومن أول سمات المنهج الصحيح في العلم والدعوة البدء بتصحيح العقيدة، والانطلاق من توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له (توحيد النسك_ توحيد الحكم والتشريع_ توحيد الولاء والمحبة).
ثانيا: الإخلاص لله عز وجل
الإخلاص لله عز وجل في طلب العلم والعمل به والدعوة إليه وأن يكون المقصد ابتغاء مرضات الله تعالى والدار الآخرة، وأن لا يكون القصد شيئا من هذه الدنيا الفانية سواء كان هذا مالا أو جاها أو منصبا أو أي شيء من أعراض الدنيا الفانية. وهذان الأساسان (الإخلاص والمتابعة) هما المذكوران في قوله تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108] فقوله (أدعو إلى الله) يدل على الإخلاص أي أدعو إلى التوحيد أريد وجه الله، ولا أدعو إلى نفسي أو مذهبي أو جماعتي. وقوله (على بصيرة) يدل على صحة المنهج والفهم والوعي. وهذان الأساسان قال عنهما الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليها)1(1) [اعلام الموقعين: 1/87] ..
وصحة الفهم يقوم على ركنين: 1-صحة فهم أحكام الشريعة. 2-صحة فهم الواقع الذي يراد تنزيل الأحكام الشرعية عليه، وتفصيل ذلك في المسألة التالية:
ثالثا: الانطلاق في فهم النوازل والأحداث والموقف منها من ثلاثة أنواع من الفقه
1-فقه الشرع. 2-فقه الواقع. 3-فقه التنزيل.
وفقه الشرع: يقوم على ركنين:
1-علوم الغاية (المقصودة لذاتها) وتشمل [العقيدة_ التفسير_ الفقه_ الحديث].
2-علوم الوسائل (وهي مقصودة لغيرها) وتشمل [اللغة_ وعلوم الحديث_ علوم القرآن_ أصول الفقه_ التاريخ].
أما فقه الواقع: فيقوم على فقه الواقعة المراد تنزيل الحكم الشرعي عليها والإحاطة بها من جميع جوانبها وملابساتها لأن الحكم (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) .
ويمكن معرفة فقه الواقع من المصادر التالية:
1-الإعلام مع الحذر مما فيه من التلبيس.
2-البحوث والدراسات والاحصائيات المتعلقة بالواقعة نفسها.
3-العادات والأعراف.
4-البعد التاريخي للواقعة.
5-التجربة الشخصية.
6-العلوم الإنسانية والاجتماعية (إدارة_ اقتصاد_ اجتماع_ علم نفس_ سياسة).
7-الشورى تلاقح الأفكار واجتماع العقول لفهم الواقعة.
ونظرا لأهمية الوعي بالشرع وبالواقع وفقه التنزيل فسنخصص الفقرة الأخيرة من هذا البحث إن شاء الله تعالى في الحديث عن مفهوم الوعي وكيف يكتسب وأن الأمة تعيش أزمة وعي.
رابعا: الاهتمام بالملكة التي هي ثمرة العلم
الاهتمام بالملكة التي هي ثمرة العلم من علم نافع وعمل صالح وفقه للواقع فمعيار التقدم في العلم ليس بكمية الشهادات ولكن بتحصيل ثمرته فالرسوخ في العلم ليس بكثرته ولكن بثمرته لذا فإن الفقه في الدين لا يبنى على كثرة الشهادات والاجازات والحفظ.
خامسا: معرفة البيئة زمانا ومكانا والظروف والسياقات التي تحيط بأقوال العلماء وفتاويهم
معرفة البيئة زمانا ومكانا والظروف والسياقات التي تحيط بأقوال العلماء وفتاويهم حينما يفتون في مسألة أو نازلة لأن ذلك يفيد في معرفة مقصد العالم من حكمه وفتواه ونقض ما يرد من تفسير خاطئ لها مثال ذلك: قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الطائفة المنصورة في زمانه: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) وأنه إنما أراد أهل الأثر المعظمين لنصوص الوحيين مقابل أهل البدع والكلام الذين يقدمون عقولهم وأراءهم الفاسدة على النقل الصحيح وليس مقصوده بأهل الحديث أهل العلم بالصناعة الحديثية المهتمين بالحكم على الأحاديث وأحوال الرجال فهؤلاء منهم وليس كلهم.
وكقول ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44]: كفر دون كفر وأنه قال ذلك في معرض رده على الخوارج الذين يكفرون حكام بني أمية الجائرين فمن الخطأ إنزال تفسيره هذا على حكام زماننا المبدلين لشرع الله.
سادسا:
العناية بالأولويات في العلم في طلبه ونشره وأن لا يقدم المستحب على الواجب ولا الكفائي على العيني.
سابعا:
تناول العلم بشمولية وأنه ليس قاصرا على معرفة الحلال والحرام في الأحكام الشرعية فحسب بل هو متناول لكل الدين عقائده وشرائعه وشعائره كما في قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) [الجاثية:18] والشريعة هنا الدين كله.
ثامنا:
إن ظهور آثار العلم وبركات العلماء على أنفسهم وأمتهم تتجلى أكثر ما تكون في أوقات الأزمات والفتن والمصائب الفردية منها والجماعية حيث يميز الله فيها الخبيث من الطيب وضعيف الإيمان من قويه كما في قوله تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران:179] فالعبرة ليست بكثرة العلم ولكن بظهور آثاره في الأزمات.
تاسعا:
السعي للحصول على الحكمة وسؤالها الله عز وجل قال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269] والحكمة هي ذروة ثمرات العلم . وحقيقتها الربط بين الأشياء وتركيب جزئيات المركب والنظر إلى الأمور بفقه الموازنات والنظر بشمولية وتوازن ولذا قيل إن الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه. ومن الحكمة فقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه الاستضعاف. وليس العالم من يعلم الخير من الشر ولكنه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين عند التعارض، وهذا شأن الراسخين في العلم.
عاشرا:
عدم العجلة في كسب العلوم والتدرج في ذلك والبدء بالأهم ثم المهم ويحذر من الطفرات وحرق المراحل.
حادي عشر:
استقلالية العلماء وزهدهم في الدنيا وبعدهم عن السلاطين وأعطياتهم ومناصبهم أمر أساس للعلماء الربانيين لذا نجد علماء الآخرة يتوادون ويتعاونون وعلماء الدنيا يتباغضون ويتحاسدون.
ثاني عشر:
لهم منهج في الحوار والردود في مسائل الخلاف فلا يلجؤون إلى ذلك إلا عند الحاجة والمصلحة وإلا فإنهم يكتفون بعرض المفاهيم الصحيحة والمنهج القائم على الكتاب والسنة وفقه الصحابة وإن اضطروا للحوار والردود فإنهم يكتفون بقدر الحاجة إلى ذلك متوخين أدب الحوار والقيام لله تعالى وتحليهم بالعدل والإنصاف والأدب مع المخالف. والحذر من أن تتحول الحمية لدين الله إلى حمية للنفس.
ثالث عشر:
أئمة الدين يحذرون من العجب وتضخم (الأنا) والغرور بالنفس ولا تراهم إلا هاضمين لأنفسهم ينسبون كل علم وتوفيق وفضل لله عز وجل ويظهر عليهم افتقارهم إلى الله عز وجل وأن الله سبحانه لو وكلهم إلى أنفسهم ولو طرفة عين لضاعوا وعجزوا.
رابع عشر:
يحيطون بلغات المجتمع الذي يدعون ويعلمون فيه الناس ويحيطون بأعرافهم وعاداتهم لأهمية ذلك في تحديد الأولويات وفهم الواقع الذي يؤثر في إنزال الأحكام والحكم على النوازل.
خامس عشر:
يحرصون في أنفسهم ومن يعلمون على ثقافة الفهم لا ثقافة الحفظ فحسب فالفهم هو الأساس عندهم.
سادس عشر:
يجمعون في مخاطبة الناس بين مخاطبة العقل ومخاطبة العاطفة وترسيخ المفاهيم والأخلاق.
سابع عشر:
قبل أن يخاطبوا الناس تراهم يخططون ويحضرون لخطبهم ومحاضراتهم ووعظهم تحضيرا جيدا ويخططون في كيفية إيصال المفاهيم الصحيحة للناس. وعدم التخطيط والتحضير قبل مخاطبة الناس يجعل الخطاب باهتا عديم أو ضعيف الفائدة باهت الهدف لا يغير فهما ولا سلوكا.
ثامن عشر:
يعتنون بأنفسهم علما وعملا وسلوكا ويحرصون على التربية والتزكية الذاتية في العناية بالسرائر والبواطن وأعمال القلوب تخلية وتحلية.
تاسع عشر:
مدركون لأثر سلوك العالم والداعية في نفسه وفي بيته في التأثير على الناس سلبا وإيجابا وهذا ما يسمى بالتربية بالقدوة.
عشرون:
هم علماء ملة وليسوا علماء سلطة يداهنون الحكام ويسارعون في أهوائهم كما أنهم ليسوا علماء عامة يداهنون بما يوافق أهواءهم لا سيما في أوقات الأزمات والفتن والنوازل. فمداهنة العامة عندهم كمداهنة االسلاطين.
حادي وعشرون:
كثرة ذكرهم لله عز وجل وكثرة استغفارهم له سبحانه ولجؤهم إليه لا سيما عندما تنغلق المسائل ويصعب بيان وجه الحق فيها.
ثاني وعشرون:
يجمعون بين تحصيل العلم والعمل به وإعطائه وتبليغه للناس ويصبرون على ذلك كما جاء ذلك في سورة العصر.
كما أنهم يدركون أن التحصيل لا يكفي فيه قراءة الكتب وإنما بمصاحبة العلماء والنهل من علمهم ومناهجهم وسمتهم وسلوكهم.
ثالث وعشرون:
النظر للدين بشموليته وتوازنه وأنه شامل لكل جوانب الحياة وليس إلى جانب واحد وهذه شمولية النظرة أما شمولية التطبيق فهي خاضعة للعلم بالأمر المراد تطبيقه كما أنها خاضعة للقدرة على تنفيذه حسب الحال والزمان والمكان، ويرون التدرج في التطبيق والبدء بالأهم فالمهم وهذا يصدر من فهمهم لفقه المآلات وفقه الاستضعاف.
رابع وعشرون:
الحرص على امتداد علم العالم ودعوة الداعية خارج الزمان والمكان الذي هو فيه حتى يبقى أثره وأجره بعد موته ومن وسائل ذلك: أ-التصنيف والتأليف. ب-أن يكون له طلبة يحملون علمه ودعوته ويبلغون ذلك للآخرين. ج-وسائل الإعلام التي تسجل تراث العالم والداعية وتعيد نشره خارج الزمان والمكان.
خامس وعشرون:
العالم الرباني يربي طلابه على الاستقلالية في الرأي والتفكير مع المحافظة على الأدب مع شيوخهم فالعالم المتجرد يغرس في طلابه اتباع الدليل لا التقليد الأعمى ويربي فيهم ملكة النقد والإضافة والمبادرة فهم يخرجون قادة متبوعين لا عبيدا تابعين.
سادس وعشرون:
العالم والداعية المتجرد قريب من الناس في مظاهرهم وعاداتهم التي لا تخالف الشرع ولا يتميزون عنهم بمظهر أو عادات خاصة فالعالم يعرف بعلمه وقدوته في الخير لا بمظهره.
سابع وعشرون:
العالم الداعية متواضع يألف ويؤلف ومن علامة توفيق لله لمن يعلم الناس ويدعوهم أن يرزقه الله سبحانه التواضع وأن يجنبه الغرور والتكبر فالربانيون من عباد الله ينكرون ذواتهم ويهضمون أنفسهم. وهم بحاجة إلى الحذر من آفة الكبر والعجب لا سيما حينما يتعرضون للمدح والثناء إذ هو ذبح بلا سكين.
ثامن وعشرون:
توجيه خطاب الدعوة لكل الأمة وشرائحها، حيث تعود كثير من أهل العلم والدعوة توجيه خطابهم للمصلين وأهل الطاعة مع أن العصاة بحاجة أكثر إلى الدعوة وقد ينفع الدعوة والأمة أكثر من غيره ولو كان عاصيا كما جاء في الأثر: (وإن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر)2(2) [البخاري: 3062]..
تاسع وعشرون:
من وسائل تأثير العلماء والدعاة على الناس القرب منهم ومن همومهم حيث يحتاج الناس إلى من يواسيهم ويقرب منهم أكثر ممن يعظهم ويبكيهم من غير تهوين من الوعظ. ولغة الابتسامة في مجالسهم أبلغ تأثيرا في نفوسهم من المواعظ مع البعد عنهم.
ثلاثون:
الإمامة في الدين ليست في الشهرة والشهادات العليا والخطب الرنانة وكثرة العلوم ولكنها في أعمال القلوب قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين وهما عملان قلبيان يدلان على قوة التعبد لله تعالى في الباطن والظاهر.
حادي وثلاثون:
قوة الاستعانة بالله تعالى وصدق التوكل عليه من أهم صفات العلماء الربانيين القائمين بنصرة دين الله وذلك لما لهما من الأثر في الصبر والتضحية وسقوط هيبة المخلوق والخوف منه لأن أكثر ما يذل العالم والداعية ويجعله يحجم عن قول الحق الخوف على الرزق والأجل فإذا توكل العالم على الله عز وجل وأيقن أن ذلك كله بيده سبحانه فوض أمره إلى ربه وأحسن الظن به ومضى ثابتا في طريقه.
ثاني وثلاثون:
من الصفات النبيلة للعالم والداعية المؤثر الحلم والأناة والرفق والعقل الثقيل والوقار والسكينة فكم لهذه الصفات من الأثر على نفس الداعية وعلى غيره من المدعوين وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: (التؤدة كلها خير إلا في أمور الآخرة)3(3) [أبي داود:4810 وصححه الألباني].، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه)4(4) [مسلم: 2594]..
ثالث وثلاثون:
العلماء الربانيون الذين يجمعون بين العلم بالشرع والعلم بالسنن الإلهية والعلم بالواقع والوعي فيه يمنحهم الله ملكة الاستشراف ومعرفة الاحتمالات المستقبلية ومآلات الأمور فهم ليسوا أسرى اللحظة الراهنة ولا الرؤية الجزئية ولا ردود الأفعال وضغط الواقع.
رابع وثلاثون:
العلماء الربانيون معظمون لنصوص الوحيين وفهم الصحابة لهما وقافون عندها لا يقدمون عليها عقلا ولا رأيا ولا ذوقا ولا سياسة.
خامس وثلاثون:
العلماء الربانيون يملكون الشجاعة في قول الحق والإفتاء في قضايا الأمة بعد استفراغ الجهد في تحصيلها وتوثيقها بالعلم الشرعي والوعي بالواقع ولا سيما في شدة الحاجة إليها وقت الأزمات.
سادس وثلاثون:
العلماء الربانيون يكثرون من الاستخارة والاستشارة ويكرهون الانفراد بالرأي.
سابع وثلاثون:
العلماء الربانيون يعرفون بالتثبت من كل قول أو فعل ويحذرون القول بلا علم ولا يتحدثون إلا بعلم وعدل وإنصاف مستحضرين قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36] وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]. فهم يحبون الكلام بعلم وعدل ويكرهون الكلام بظلم وجهل.
ثامن وثلاثون:
لهم خبيئة من عمل صالح لا يعلم بها إلا الله عز وجل ويحرصون على إحسان العمل أكثر من حرصهم على الإكثار منه.
تاسع وثلاثون:
العلماء الربانيون رجاعون إلى الحق إذا تبين لهم ولا يتعصبون لأنفسهم ولا لشيوخهم.
أربعون:
يحذرون من الحيل غير الشرعية والتأويلات الباطلة التي تهدم أحكام الشريعة.
حادي وأربعون:
العلماء الربانيون فطنون واعون لمكر الأعداء من كفار ومنافقين فليسوا بمغفلين ولا غافلين عن أساليب العدو في المكر والاستخفاف والتلبيس ولهذا فإن العدو لا يستطيع أن يوظفهم أو يستخدمهم في تمرير فساده وظلمه كما يفعله مع بعض الغافلين عن مكرهم من العلماء والدعاة.
ثاني وأربعون:
العلماء الربانيون لا يستطيع المستفتي من أهل الحيل والمكر والخداع أن يحصل منهم على فتوى توافق هواه أو تبرر ظلمه وفساده مهما وضعها في قوالب مزخرفة يخدع بها العالم ويوظفها في مآربه.
ثالث وأربعون:
يتحاشون من إبداء الرأي أو الإفتاء أو الحكم وهم في حالة الغضب الشديد أو الحزن والغم الشديدين أو في حالة نعاس وإرهاق وانشغال بال.
رابع وأربعون:
الزهد في الدنيا والترفع عنها وعدم أخذ مال أو أجر على بذل العلم ونشره أو الدعوة والوعظ إلا أن يكون فقيرا مضطرا فيأخذ ما يعوله ويعول أهله ليتفرغ لنشر العلم والدعوة قال سبحانه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص:86] والعلماء هم أشراف الناس وهم ورثة الأنبياء ومن ولاة الأمور فلا يليق بهم أن يهينوا أنفسهم وعلمهم بالركون إلى الدنيا وأهلها.
خامس وأربعون:
يدارون ولا يداهنون والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة هي التنازل عن شيء من الدنيا لحفظ الدين ودرء الشر عنه وأهله بينما المداهنة عكس ذلك وهي التنازل عن شيء من الدين للحفاظ على الدنيا.
سادس وأربعون:
يمتاز نضوجهم وتكوينهم العلمي والفكري بفعل التراكم العلمي والتدرج وليس بالطفرات وحرق المراحل والتزبب قبل التحصرم.
سابع وأربعون:
تمتاز مصنفاتهم ومؤلفاتهم بالعمق والتأصيل العلمي والجمع بين العلم والعمل، وبين الأحكام والمقاصد، وبين الجزئيات والكليات، كما تمتاز بحسن تشخيص المشكلات وتنوع حلولها وبالإنصاف والعدل مع المخالف.
ثامن وأربعون:
يجردون محبتهم وولاءهم ونصرتهم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين يوالون ويعادون في الله سلما ومحبة لأوليائه وعداوة وحربا لأعدائه يرفعون راية التوحيد ويوالون ويعادون عليها لا تعلو فوق راية التوحيد أية راية وطنية كانت أو قومية أو حزبية لذا تراهم يكرهون التعصب والحزبية المقيتة ويحبون الاجتماع والائتلاف ويكرهون الفرقة والاختلاف، حذرين مما حذرهم الله منه في قوله: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) [هود:113].
تاسع وأربعون:
لهم صحبة دائمة مع كتاب الله عز وجل تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا ينهلون منه هداياتهم وموازينهم ومفاهيمهم وأحكامهم وأعمالهم.
خمسون:
العلماء الربانيون على مستوى عال من الوعي بأحوال أمتهم، على بصيرة بسبيل المؤمنين وبصيرة بسبيل المجرمين مدركين لواقعهم وفقه المرحلة التي يعيشونها يقول مجاهد رحمه الله تعالى في تعريفه ل(لربانيين): (الربانيون فوق الأحبار لأن الأحبار هم العلماء ولكن الرباني يجمع مع العلم البصيرة بالسياسة والتدبير العام لأمر الرعية وما يصلحهم في الدين والدنيا)5(5) [تفسير الطبري]..
مسألة الوعي وأهميته
ونظرا لأهمية الوعي وكونه صفة أساسية للعالم الرباني، ونظرا لما نعيشه اليوم من ضعف في الوعي عند كثير من المنتسبين للعلم والدعوة فأرى التفصيل في هذه الفقرة حول مسألة الوعي وأهميته كما وعدت في أول البحث فأقول وبالله التوفيق:
إن أمتنا اليوم لا ينقصها علماء وفقهاء ودعاة، ولا ينقصها زهاد وعباد، ولا ينقصها مربون، ومحاضن تربوية، ولا ينقصهم أهل غنى ومال يبذلون في وجوه الخير، ولا ينقصهم مجاهدون مضحون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، إنما الذي ينقصنا اليوم الوعي والبصيرة في واقعنا وواقع أعدائنا والوعي بسبيل مكرهم وكيدهم والحذر منهم ومن توظيفهم لنا في مخططاتهم ونحن لا نشعر بسبب ضعف الوعي لدينا. وقد كان الوعي قديما في منهاج الدعوة الإسلامية .
وفي القرآن والسنة أمثلة لذلك:
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وتعامله مع الأعداء في قمة الوعي والبصيرة بل إن القرآن فيه من النصوص والتوجيهات للمؤمنين ما يدل على أهمية الوعي والبصيرة بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قال تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108] أي على وعي ونور وهدى وقال سبحانه بعد أن قص علينا ما حل بالأمم السابقة من العذاب: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12] وجاء في القرآن نصوص كثيرة تأمر بأخذ الحذر من الكفار وكيدهم وخداعهم فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء:71] وورد قوله سبحانه: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) في صلاة الخوف مرتين، وقال سبحانه: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)[الروم:60] وقال سبحانه: (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55] ومن ذلك علم الله عز وجل بالمنافقين وفضحهم بالقرآن ولا سيما ما ورد في سورة التوبة التي فضحتهم وبينت كيدهم ونفاقهم وفضحت مسجد الضرار وأهدافه ولذا سميت بالفاضحة.
وجاء في قواميس اللغة (وعاه) أي عقله وعمل به وحفظه وقبله ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب ورب مبلغ أوعى من سامع)6(6) [البخاري:1741] ..
ومما يدخل في مفهوم الوعي في واقعنا المعاصر:
1-الوعي بالواقع العام للأمة: وكيف تشكل هذا الواقع تاريخيا وسياسيا واقتصاديا.
2-الوعي الفكري: وإدراك أهم الأفكار الكبرى المؤثرة في الواقع وكيف تشكلت.
3-الوعي السياسي: وألاعيب السياسة والسياسيين وأعداء الأمة.
4-الوعي الاقتصادي: والحرب الاقتصادية التي يمارسها الأعداء على الأمة.
5-الوعي بالذات: وهو الوعي بحقيقة النفس ومثالبها والوعي بواقع الناس في المجتمع وما هم عليه من بعد أو قرب من الإسلام قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165] وقال تعالى: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) [النساء:79].
مخاطر ضعف الوعي:
إن أخطر ما ينجم عن قلة الوعي في الأمة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات هو توظيف أعداء الأمة ضعاف الوعي وأصحاب الغفلة واستخدامهم في تنفيذ مخططاتهم وتمرير كيدهم ومكرهم، ومن ذلك توريطهم في موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله وحرف بوصلة التغيير عن مسارها الصحيح.و كذلك ضعف أو انعدام ملكة الاستشراف والضبابية في رؤية المستقبل عندهم.
تنبيهات حول الوعي
لا علاقة للوعي بالدراسات الأكاديمية والشهادات الجامعية بل إن كثير من هذه الدراسات تزيد الدارس جهالة وتحوله من جاهل معترف بجهله إلى جاهل يظن أنه عالما وداعيا.
كما أنه لا علاقة بين الوعي والذكاء فالذكاء شيء والوعي شيء آخر وكذلك الحافظ الممتلأ من العلوم لا يعني أنه صاحب وعي.
كما أن لا علاقة بين الوعي وكثرة العبادة والزهد والورع فكما أن عدم الوعي لا يقدح في الإخلاص فإن الإخلاص والتضحية والعبادة لا يعني وجود الوعي والبصيرة.
وبعد:
فهذا ما يسره الله عز وجل من الكتابة عن هذا الموضوع المهم الذي أشعر بحاجتي إليه قبل غيري وذلك لفقدي لكثير من الصفات الواردة فيه لعله أن يكون حافزا لي ولإخواني في التحلي بها اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين . اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين . والحمد لله رب العالمين
الهوامش
(1) [اعلام الموقعين: 1/87] .
(2) [البخاري: 3062].
(3) [أبي داود:4810 وصححه الألباني].
(4) [مسلم: 2594].
(5) [تفسير الطبري].
(6) [البخاري:1741] .
اقرأ أيضا
الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء
إلى علماء الأمة ودعاتها .. اتقوا اللَّهَ وكونوا مع الصّادقين