السويداء في عين العاصفة

حربٌ لم تُعلَن لكنها اشتعلت في قلب الجنوب… فهل السويداء اليوم على أبواب الانفصال أم أمام لحظة إعادة تشكيل لسوريا ما بعد الأسد؟

تُمثّل أحداث السويداء الأخيرة أكثر من مجرد صدام طائفي عابر؛ إنها نقطة مفصلية تكشف حجم التصدّع داخل الجغرافيا السورية، والتعقيدات العميقة في تشابك المصالح المحلية والإقليمية. هذا الملف يرصد التحولات الكبرى التي فجّرتها هذه الأزمة، ويعيد رسم خريطة الصراع من دمشق إلى الجليل.

صراع الجنوب بين التفكك والسيادة

تُجسِّد اشتباكات السويداء الأخيرة واحدةً من أكثر المحطات دمويةً وتعقيدًا في مسار الأحداث في سوريا بعد سقوط النظام السابق. فقد تداخلت الاشتباكات الطائفية بين مقاتلين دروز وبدو، مع تدخلات حكومية مباشرة وضرباتٍ إسرائيلية غير مسبوقة وصلت إلى قلب دمشق، لتكشف هشاشة الترتيبات الأمنية في الجنوب وعُمق التداخل الإقليمي والدولي. يعرض هذا المقال التحليلي نظرة معمقة لمجريات الأحداث، دوافعها، وأثرها المستقبلي.

خلفيّة سريعة للسويداء ومكانتها الجيوسياسية

تتمتع السويداء بأهميةٍ استراتيجية حيث تقع على بعد نحو 100 كيلومتر فقط من دمشق، وهي منطقة إستراتيجية قريبة من الحدود الأردنية، وتشكل المحافظة ذات الأغلبية الدرزية نحو 3% من سكان سوريا، مع امتدادات اجتماعية في لبنان وفلسطين المحتلة، كما يمنحها موقعها على طريق مشروع “ممر داوود” الإسرائيلي المزعوم موقعًا حسّاسًا في حسابات الأمن الإسرائيلي والسوري معًا.

بقيت السويداء شبه مستقلّة أمنيًّا منذ 2012؛ إذ رفضت فصائلها الاندماج في الأجهزة النظامية السابقة، مكرِّسةً نموذج منطقة خارجة عن السيطرة داخل الدولة. وحاليًّا تعطل الانقسامات في السويداء وشمال شرق سوريا جهود الحكومة السورية لتوحيد البلاد، ما يطيل أمد الأزمة ويؤثر في استقرار سوريا ككل.

القوى الفاعلة وتشابك المصالح في السويداء

تشهد المحافظة انقسامًا حادًّا بين قوى متعارضة “عسكرية – دينية” تطالب برؤى مختلفة لحل الخلافات وإعادة الأمن والاستقرار إلى المحافظة، حيث علّقت بعض القوى المحلية آمالًا على دعم خارجي من “إسرائيل” التي أعلنت سابقًا رفضها التدخل المباشر في شؤون السويداء، داعيةً إلى تفاهم داخلي، لكنها في الوقت ذاته أبقت خيار التدخل مفتوحًا:

الفصائل الدرزية المحلية وتحوّلاتها

نشأت كتائب محلية لحماية القرى منذ عام 2013، وتحوَّلت لاحقًا إلى شبكات مسلحة تدافع عن الهوية الدينية وتناهض معظمها أي وجود عسكري خارجي غير منسَّق:

رجال الكرامة: أقدم الحركات الدرزية (تأسست في عام 2013)، وقد تحوّلت من حركة دفاع عن شباب السويداء ضد التجنيد الإجباري إلى قوة مسلحة رافضة لسيطرة الدولة. بعد اغتيال مؤسسها وحيد البلعوس في عام 2015، تشظّت إلى تيارين:

الجناح الأم (بقيادة يحيى الحجار): حافظ على موقف رافض لتسليم السلاح، وخسر نصف عناصره تقريبًا بعد انشقاق أبناء البلعوس.

حركة “شيخ الكرامة” (بقيادة ليث وفهد البلعوس): انشقّت في عام 2018، وأصبحت بعد سقوط نظام الأسد حليفًا استراتيجيًّا للحكومة الجديدة، ودعت صراحةً لرفض التدخل الإسرائيلي ودعم وحدة سوريا.

المجلس العسكري (تأسس في فبراير 2025) كأخطر الفصائل، إذ يجمع ضباطًا سابقين في جيش الأسد وعناصر مدعومة سابقًا من روسيا وإيران. ويُتّهم بتنفيذ مجازر ضد البدو وقوات الحكومة، ويدير عمليات تهريب سلاح ومخدرات، بينما يتلقى دعمًا ماليًا من “قسد” للتشبث بمشروع حكم ذاتي درزي.

أحرار جبل العرب: (بقيادة سلمان عبد الباقي)، ويحاول لعب دور الوسيط بين دمشق والفصائل، رافضًا فكرة “الحماية الدولية” للدروز، ومؤكدًا انتماء السويداء لسوريا الموحدة. لكن نفوذه تراجع مثل عشرات المجموعات العائلية الصغيرة ومن أبرزهم “صقور السويداء” و”قوات الفهد” التي انحرفت نحو الابتزاز وتهريب المخدرات، فيما تعمل بقايا الميليشيات المنهارة (مثل “قوات العرين”) في الظل.

المرجعيات الدينية وانقسام الخطاب الروحي

تتقاسم ثلاث عائلات تاريخيًّا -الجربوع، الحناوي، والهجري- قيادة المشهد الروحي في السويداء، لكن انقسامهم الحاد يعكس تصدعًا أعمق في رؤية مستقبل المحافظة:

1- الحناوي والجربوع: يوسف الجربوع (وريث عائلة تاريخية في مشيخة العقل منذ 200 عام) يقود مساعي الحوار مع دمشق، مؤمنًا بأن وحدة سوريا هي الضامن الوحيد لاستقرار الدروز، لكن جهوده تحطمت مرارًا أمام رفض خصومه لاتفاقاته. بجانبه يقف حمود الحناوي (80 عامًا) الذي يحافظ على خطاب متوازن، ويرفض فكرة التقسيم لكنه يبتعد عن الصدام المباشر، ما يحدّ من تأثيره رغم مكانته.

2- في الضفة المقابلة، يشكل حكمت الهجري محورًا للرفض. بخطاب يخلط بين المطالبة بـحماية دولية واتهام دمشق بـالإرهاب، ويستقطب الفصائل الرافضة للوحدة (كالمجلس العسكري) وتجار السلاح الذين يخشون فقدان نفوذهم. وقد أدى تحالفه مع هذه القوى لتوظيف موقفه الديني إلى أداة جيوسياسية تخدم مشاريع الانفصال. لافتٌ أن الهجري -الذي دعم نظام الأسد سابقًا- يصطف اليوم مع من يرفضون دخول قوات الحكومة، بل ويهاجم اتفاقيات الجربوع علنًا.

القبائل البدوية والنزاع التاريخي

تتمركز في البادية الجنوبية الشرقية، ولديها خطوط تهريب عبر الحدود الأردنية. دخلت في احتكاكات متقطعة وقديمة مع الدروز بسبب نزاعات على المراعي واتهامات متبادلة بالخطف والسطو، ما عزّز البعد الطائفي للنزاع.

تعود جذور الاشتباكات الحالية في السويداء إلى عام 2018، عندما شن تنظيم “داعش” هجومًا شرسًا على المحافظة أسفر عن مقتل مدنيين. آنذاك، اتهم أهالي السويداء البدو بتسهيل دخول التنظيم إلى قراهم. ومنذ تلك الحادثة، تتجدد الاشتباكات بين بعض أهالي السويداء والبدو في مناطقها الشرقية بين الحين والآخر.

غذّت هذه النزاعات عوامل متعددة، منها تدخل الميليشيات الإيرانية، وخلافات حول عمليات التهريب وإتجار المخدرات والأسلحة، بالإضافة إلى اعتداءات متبادلة. ومع تراجع سلطة الدولة وانتشار السلاح المنفلت وازدهار اقتصاد المخدرات والسلاح في الجنوب، شرعت جميع الأطراف –العشائر العربية والبدو والفصائل المحلية– في تسليح نفسها. وشهدت الأشهر الأخيرة عدة حوادث خطف متبادلة بين فصائل السويداء والبدو. ورغم تدخل قوى وفعاليات محلية لحل هذه الخلافات، فإن أحداث نهاية أبريل في أشرفية صحنايا وجرمانا (حيث منعت قوى بدوية أرتالًا من السويداء متوجهة إلى جرمانا) شكلت نقطة تحول. فقد عطّلت تلك الأحداث جهود الوساطة، وأدت إلى قطيعة شبه كاملة بين الطرفين في المحافظة، وسط تصاعد حاد في التوتر والهجمات المتبادلة وحوادث الخطف.

الحكومة السورية واختبار استعادة الهيبة

ترى الحكومة السورية في السويداء تحديًّا حقيقيًّا أمام وحدة وتماسك الدولة السورية يتطلب الحزم في وجه مخططات التقسيم والتفكك، وتتمثل أهدافها المعلَنة تجاه المحافظة بعدة نقاط رئيسة:

  • استعادة السيطرة على كل الجغرافيا.
  • مركزية السلطة: ترى القيادة أن أي نموذج للحكم الذاتي في السويداء سيغري مناطق أخرى بالمطالبة بامتيازات مماثلة.
  • مكافحة تهريب المخدرات والسلاح عبر معبر نصيب الحدودي
  • رسالة لقسد: النجاح في بسط السيطرة جنوبًا يُستخدم رافعةً تفاوضية ضد قسد في الشرق، لتأكيد رفض الفيدرالية.

سابقًا، تعاونت دمشق مع جهات أخرى لتأمين السويداء. ولتحقيق وجودها، عيّنت الدولة عشرات الأشخاص من السويداء في جهاز الأمن الداخلي ليكونوا ممثليها “الحكوميين” في إدارة شؤون المحافظة – التي ظلت خارج السيطرة المباشرة للدولة لاعتبارات عدة، منها:

تجنُّب الدولة الدخول في صراع مسلح داخل السويداء وتبنيها الحلول السياسية.

وجود قوى محلية تنسّق مع الدولة، ما يهدد بإشعال اقتتال داخلي إذا ما دعمت الدولة طرفًا ضد آخر.

التدخل الإسرائيلي المتكرر عبر التصريحات التي تطرح إسرائيل كـ “حامية للدروز” في سوريا.

في الوقت ذاته لم تخف دمشق رغبتها في بسط سلطة الدولة على المحافظة الجنوبية وضرورة دخول مؤسسات الدولة لممارسة مهامها الأمنية والخدمية، حتى جاءت الاشتباكات الأخيرة بين البدو والدروز والتي رأت فيها دمشق اختبارًا لهيبتها ومصداقيتها.

التدخل الإسرائيلي: الحماية أم التفكيك؟

تملك علاقة حسّاسة مع الدروز في الجولان والجليل، وتذرعت بـ “التزام أخلاقي بحمايتهم في سوريا” لتوجيه ضربات ضد قوات الحكومة فور دخولها السويداء يوم 15 يوليو، لكنها في الوقت ذاته تسعى لتحقيق أهداف أخرى غير معلنة تتمثل في:

أبعاد داخلية: يحتاج نتنياهو الحفاظ على دعم الدروز داخل إسرائيل.

الإبقاء على حكومة مركزية سورية ضعيفة نسبيًّا، ولا سيما في الجنوب، مع تمكين الدروز من الحفاظ على قدر من الحكم الذاتي.

تخيير الدولة الجديدة بين التقسيم والتفكيك أو الوصول إلى تفاهم وتطبيع مع سوريا، مع اعتراف الشرع بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

الدور الأمريكي: الوساطة المشروطة

لعبت واشنطن دور الوسيط عبر مبعوثها توم باراك، وتبنّت وقف إطلاق نارٍ ثلاثي الرعاية (أمريكي–تركي–عربي) وتسعى الإدارة إلى منع تفكك الجنوب وإبقاء إيران خارج المعادلة، مع الحفاظ على قنوات التهدئة مع تل أبيب.

 ديناميكيات الاشتباك

اندلعت الأزمة صباح الأحد 13 يوليو بمواجهات بين البدو والدروز إثر حادث سلب بحق تاجر درزي على طريق دمشق، وتصاعدت يوم الاثنين (14 يوليو إلى اشتباكات دامية أسفرت عن مقتل 30 مدنيًّا وإصابة 100).

لقد شكّلت ظاهرة الأسلحة غير المنضبطة في المنطقة، والثأر المتراكم بين البدو وجزء من أهالي السويداء، المحرّك الرئيسي لاندلاع هذه الاشتباكات. وقد رأت الدولة السورية في هذا الوضع فرصة ملائمة للتدخل لفرض الأمن، كما عبّرت عن رغبتها في دخول المحافظة فعليًّا لأول مرة منذ توليها السلطة. فالاتفاقات الأمنية السابقة بين الفرقاء اعتمدت على قوى عسكرية محلية ترتبط بعلاقات جيدة مع الدولة.

المواقف المتضادة بين الحكومة والفصائل

وبالفعل، تقدم الجيش السوري نحو السويداء في 15 يوليو لـفرض الأمن وسيطر على المدينة بعد اشتباكات عنيفة مع الفصائل الدرزية المحلية، وعقب رفض الرئاسة الروحية بقيادة الهجري دخول الدولة السورية، والذي طالب بحماية دولية، ما فتح الباب لغارات إسرائيلية وصفها وزير الدفاع كاتس بـ “التحذيرية”. ورغم إعلان دمشق اتفاق وقف إطلاق نار مساء 15 يوليو بدعم من شيخ العقل الجربوع، استأنفت إسرائيل قصفها في 16 يوليو مستهدفة دمشق نفسها، بما في ذلك محيط القصر الرئاسي ومبنى قيادة الأركان، فيما نفى الهجري الاتفاق وأعلن مواصلة القتال لـ “تحرير المدينة”، كما شهدت الحدوث السورية توافد دروز من إسرائيل عبر الحدود.

القصف الإسرائيلي وانسحاب الحكومة

تداعيات القصف الإسرائيلي غيرت مسار القتال من مواجهة درزية–حكومية إلى اشتباك درزي–بدوي بعد أن انسحبت الحكومة السورية تحت ضغط القصف الجوي، ما أحدث فراغًا أمنيًّا استغلته العشائر للانتقام من انتهاكات الفصائل الدرزية ضد السكان البدو في السويداء. وفي 19 يوليو أعلنت دمشق اتفاقًا لوقف إطلاق النار برعاية أمريكية ووساطة إقليمية، يهدف لإنهاء أزمة السويداء. إنَّ بنود الحكومة السورية ركزت على استعادة السيادة الكاملة، عن طريق:

  • نشر قوى أمنية داخل المحافظة.
  • إشراك أبنائها في المهام الإدارية.
  • نزع السلاح تدريجيًّا مع احترام الخصوصية الدينية.
  • إعادة تفعيل مؤسسات الدولة وإنشاء لجان للتحقيق في الانتهاكات.

لكن الرئاسة الروحية للدروز بقيادة حكمت الهجري نشرت رواية مناقضة عبر فيسبوك تضمنت:

  • قصر وجود القوات الحكومية خارج حدود السويداء.
  • منح الفصائل المحلية صلاحية إخلاء العشائر من القرى الحدودية خلال 48 ساعة.
  • حصر المهام الأمنية بأبناء المحافظة دون رقابة دمشق.

دمشق وامتحان السيادة

وقعت دمشق أمام سوء تقدير وثقة مفرطة في رد فعل إسرائيل على نشر قوات سورية بالجنوب الأسبوع الماضي؛ حيث فسرت الإدارة السورية الرؤية الأمريكية حول ضرورة حكم سوريا كدولة مركزية، كضوء أخضر أمريكي إسرائيلي رغم التحذيرات الإسرائيلية المتكررة.

لم تدرك الإدارة السورية خطورة الموقف الإسرائيلي الحقيقي. فإسرائيل التي تخطط للسيطرة على مناطق جنوب دمشق كمنطقة نفوذ لها، أو لتقسيم سوريا، ما زالت ترفض الانسحاب إلى خطوط الهدنة لعام 1974 إلا في حال قبول الإدارة السورية بالخيار الأول أي السيطرة. ورغم تبني الإدارة موقفًا متحفظًا، فإن ذلك لم يُجدِ نفعًا، بل شجع إسرائيل على التمادي لدرجة قصفها مؤسسات سيادية سورية.

هذا يعكس سوء تقدير للنوايا الإسرائيلية ووَهْمَ إمكانية تحييد دولة الاحتلال، والتي ستعمل على تقسيم سوريا حال فشل خيار السيطرة. ولا بُدَّ من مواجهة هذه السيناريوهات، بالاعتماد على وحدة الشعب السوري وتجنب الانزلاق لمواجهات ومغامرات غير محسوبة قبيل عزل القوى المحلية المراهنة على إسرائيل.

لقد مثل انسحاب القوات الحكومية من السويداء تحت القصف الإسرائيلي خسارة استراتيجية. فسيطرة ميليشيات الهجري على المحافظة بعد ساعات من الانسحاب يغير صورة الحكومة من “ضامن للأمن” إلى “طرف عاجز”. وتتجلى هذه الهشاشة في العجز حتى الآن عن وقف القتال بين العشائر والفصائل الدرزية رغم الاتفاق الأخير الذي جرى برعاية إقليمية – دولية.

وفي ظل غياب أي أفق واضح لآليات تنفيذ الاتفاق الأخير وبنوده، تتعدد سيناريوهات الوضع الحالي بين نجاح الدولة في إعادة فرض الاستقرار ودخول مؤسسات الدولة تدريجيًّا بما يضمن بقاء المحافظة تحت مظلة الدولة السورية ولو جزئيًّا، أو تنفيذ جزئي للاتفاق يحافظ على التوتر الأمني والسياسي ويبقي السيطرة الفعلية بيد الفصائل المحلية في وضع شبه مستقل، أو انهيار كامل للاتفاق مع تصعيد عسكري كبير واحتمال تدخلات إقليمية أعمق تتحول معها المحافظة إلى ساحة صراع دائمة.

السيناريوهات المحتملة لمستقبل السويداء

لا تزال تفاصيل الاتفاق ومصير السويداء غامضا. ورغم كشف الاتفاق عن رغبةٍ إقليميةٍ ومحليةٍ في تهدئة الأوضاع، فإن إجبار طرفي الصراع الرئيسيين –الدروز والعشائر العربية– على تنفيذ بنوده يبدو صعبًا دون نشر الجيش السوري، الذي ما زالت إسرائيل تفرض حظرًا كاملًا على دخوله إلى المنطقة. في هذا السياق، تقتصر فرص نجاح الاتفاق على خيارات محددة أبرزها:

عودة انتشار حكومي شبه كامل يضمن أمن مدينة السويداء وبعض أريافها، وهو ما يتطلب إذن إسرائيلي مشروط (فرصه متوسطة).

منطقة عازلة غير رسمية بإشراف إسرائيل تبقي فصائل الدروز حراسًا محليين وتقيّد حركة الجيش السوري بجنوب البلاد مع عودة شبه رمزية لمؤسسات الدولة الخدمية فقط، وانتشار أمني في محيط المحافظة (فرصه مرتفعة).

حكم ذاتي درزي موسع ترفضه دمشق وتراه خطًا أحمر يؤثر على وحدة التراب (مستبعد).

تصعيد إقليمي أوسع مرتبط بعودة القوات الحكومية بقوة قد تُشعل إسرائيل جبهة دمشق مجددًا مع كل خرق لـلخطوط الحمراء (مستبعد في الوقت الحالي).

تداعيات التسونامي: من السويداء إلى القامشلي

لا تقتصر هزات السويداء على الجغرافيا الدرزية. في الشمال الكردي، تتابع “قسد” الأحداث باهتمام بالغ، وتستخلص درسًا واضحًا: “التسوية مع دمشق لن تحمي حقوق الأقليات”. هذا يفسر:

التصعيد العسكري المفاجئ في الرقة ودير حافر (استعراض قوة بعد أيام من أحداث السويداء).

تشديد المطالبة بالحكم الذاتي في مفاوضاتها مع النظام.

التلميحات الخافتة عن إمكانية إحياء تحالفات مع تل أبيب.

أما واشنطن، فمع أنها لا تزال ترفع شعار “سوريا موحدة”، فإن الضغوط داخل الكونغرس تتجه نحو ربط أي دعم بضمانات لحماية الأقليات.

خيارات الحكومة السورية المستقبلية

تواجه الحكومة السورية تحديًّا جسيمًا في إدارة ملف السويداء وتداعياته الاجتماعية والسياسية طويلة الأمد. وفي ظل الخروج المتوقع للمحافظة عن نطاق سيطرة الدولة المباشرة حاليًّا، فإن هذا الوضع يفرض على الحكومة استكشاف خيارات متعددة للتعامل مع المشهد الجديد:

مسار القوة

إعادة الانتشار مع عمليات أمنية محدودة والتضييق على الفصائل المحلية (يواجه خطر الانزلاق إلى حرب واستفزاز تل أبيب).

مسار التسوية

قبول نموذج أمن داخلي محلي بإشراف الحكومة، مع شراكة تنموية لإعادة الإعمار وتعويض المتضررين، وفتح باب التجنيد الطوعي للدروز في وحدات خاصة ضمن الجيش الوطني.

المسار المختلط

ضغط عسكري محدود لتفكيك الفصائل الأكثر تشددًا، بالتوازي مع تفاوض على صيغة مجالس محلية موسعة الصلاحيات.

المستقبل السوري: بين فكي الكماشة

إن المشهد المدمر الذي تقترحه التقارير العبرية -سوريا المجزأة إلى كانتونات درزية في الجنوب، وكردية في الشمال، وسنية في الوسط- أصبح خطرًا واقعيًّا يدفع إليه استعداد تل أبيب لاستثمار الأزمات الطائفية، بالإضافة لصحوة هوياتية لدى الأقليات بعد صدمة السويداء.

لكن هذا التقسيم لن يكون حلًا سلميًّا، بل قد يكون بوابة لجحيم جديد: صراع على الحدود، تدخلات إقليمية متقاطعة، وتحديات جوهرية أمام مشروع الدولة.

خلاصة

تجاوزت اشتباكات السويداء حدود حادث محلي لتكشف التوازنات الدقيقة في سوريا ما بعد الأسد. فهي حرب محدودة لكنها محوريّة، تحدّد مدى قدرة السلطة المركزية على فرض هيبتها من دون انجرار إلى صدامٍ مباشر مع إسرائيل، وتختبر في الوقت نفسه مصداقية التزام تل أبيب بحماية طائفةٍ عبر قصف عاصمةٍ مجاورة.

وما بين صرامة دمشق وهواجس الدروز ومعادلات إسرائيل والولايات المتحدة يبقى شكل الحل النهائي في السويداء مؤشرًا حاسمًا على مستقبل خريطة السلطة في سوريا كلّها: دولة مركزية مع جيش موحّد أم لوحة فسيفسائية من كيانات مستثناة على الهوامش. وإن استمرار التعثّر سيُبقي الجنوب منصّة تجاذب إقليمي مفتوحة ويفتح الباب على جولات عنفٍ تالية، ما يُهدّد بتقويض أي مسار وطني شامل لاستعادة السيادة والاستقرار.

المصدر

الملتقى الاستراتيجي، محمد الشافعي.

اقرأ أيضا

الثورة السورية..تباشير ومحاذير.(٣)

الثورة السورية..تباشير ومحاذير (٤)

الثورة السورية..تباشير ومحاذير (٥)

التعليقات غير متاحة