التعرف الى الله تعالى والتوجه اليه بالحب والتوحيد والقصد والعبادة ليس أمرا طارئا على الفطرة؛ بل هو مركوز فيها ووجهتها التي لا تقر عينها إلا به.
مقدمة
كل مولود يولد على الفطرة. والفطرة بذاتها تتجه إلى الله، عالمةً بوجوده سبحانه، ومؤمنة بأنه إله واحد لا يوجد فى الكون كله سواه.
كيف تهتدى الفطرة إلى خالقها؟
إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا فى كتابه الكريم أنه حين خلق الخلق عرَّفهم بنفسه، وبأنه جلت قدرته هو ربهم الذى خلقهم، والذى ينبغى أن يدينوا له بالعبودية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ (الأعراف : 172).
والرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، يخبرنا كذلك: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟». (1متفق عليه)، ثم يتلو قوله تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (الروم:30).
والحقيقة أن الفطرة البشرية تتيقظ لوجود الخالق فى سنِّ مبكرة جداً، أصغر بكثير مما نظن..! فنحن نظن عادة أن الشخص الكبير وحده هو الذى يتفكر فى وجود الله سبحانه وتعالى وفى وحدانيته. ولكنا إذا لاحظنا حياة الطفل الصغير نجد أنه فى مرحلة معينة من عمره يبدأ يسأل والديه أسئلة لا تنتهى:
من الذى عمل السماء؟ لماذا كانت السماء زرقاء؟ أين تذهب الشمس فى الليل؟ لماذا لا تظهر الشمس لنا فى الليل؟ أين يذهب النور حين يأتى الظلام؟ لماذا تلمع النجوم؟ أين تنتهى الأرض؟ لماذا كانت هذه الزهرة ذات رائحة والزهرة الأخرى ليس لها رائحة؟ من أين جئتُ؟ أين كنت قبل أن أجئ؟.. إلخ.
حقيقة الأسئلة ودلالتها
فما معنى هذه الأسئلة فى الحقيقة وما دلالتها؟
إن دلالتها الحقيقية أن فطرة هذا الطفل قد بدأت تستيقظ، بدأت تتعرف على خالق السماوات والأرض من خلال مخلوقاته المشهودة المحسوسة، بدأت رويداً رويداً تتعرف على حقيقة الألوهية التى أشهدها الله عليها منذ خلقها، وبدأ إدراكها لها ينمو كما تنمو البذرة الكامنة فى باطن الأرض، حتى تترعرع وتخضر. وأن هناك تأثيرات عدة تقع على حس الإنسان فتوقظه إلى حقيقة وجود الله ووحدانيته وتفرده .
عوامل إيقاظ الحس على حقيقة وجود الله
الكون بضخامته وإعجازه
الكون بضخامته الهائلة ودقته المعجزة لابد أن يوقظ الإنسان إلى هذه الحقيقة؛ فهذه الأبعاد الهائلة فى السماوات والأرض، وهذه الأجرام السماوية الضخمة التى لا يحصيها العدّ؛ مَن أوجدها..؟
والكون مع ضخامته هذه دقيق دقة معجزة.. فالليل والنهار يتعاقبان فى دقة متناهية إلى حد أننا نضبط ساعاتنا عليها..! والحقيقة أن الكون كله مضبوط فى دورته الفلكية لدرجة أن “ساعات المراصد” ـ التى هى أدق الساعات التى بين أيدينا، والتى نضبط عليها ساعات الإذاعة وغيرها، والتى تقيس الوقت بجزء على ألف من الثانية ـ هى ذاتها تُضبط على دورة الفلك المتناهية فى الدقة، والتى لا تضطرب دورتها على مر العصور والأجيال، إلى أن يشاء الله..
ثم إن كل كائن من الكائنات التى خلقها الله يتسم بهذه الدقة المعجزة سواء أكان من الكائنات الحية أم الكائنات الجامدة.
هل رأيت إلى الخلية الحية الدقيقة المتناهية فى الصغر حتى إنها لا ترى إلا بالمجهر..؟ ومع ذلك فهى تنمو وتنقسم وتقوم بمهام عجيبة غاية فى العجب، يقف الإنسان إزاءها حائراً، خاشعاً أمام قدرة الله؛ فمن الذى أودعها سر الحياة..؟ ومن الذى هداها لهذا النشاط العجيب الذى تقوم به إلا الله سبحانه وتعالى..؟!
إن الجرثومة لا يمكن أن تُرى بالعين، ومنها نوع دقيق يسمى “الفيروس” لا يُرى حتى بالمجهر العادى، ومع ذلك فأنت تعرف مما درست فى العلوم أنها يمكن أن تصيب الإنسان بأفتك الأمراض ما لم يتحصن ضدها بالأدوية أو الأمصال.
والكائن المتعدد الخلايا ـ وفى قمته الإنسان ـ يكون فى منشئه خلية واحدة ملقَّحة، ثم تظل تنقسم وتنمو حتى تصبح كائناً متكاملاً؛ فأى قدرة تمنحه الحياة والحركة والنشاط غير قدرة الله..؟
وهل رأيت إلى تلك الزهرة الجميلة ذات الرائحة العطرة والألوان المتعددة المتداخلة..؟ من الذى أودع فيها هذا العطر..؟ وكيف تجمعت فيها تلك الألوان..؟
تُرى لو حاولت أنت أن تعطّر زهرة واحدة عطراً يفوح من الصباح إلى المساء دون أن يتبدد ويضيع، ولو حاولت أن تلوّن بكل ما لديك من ألوان زهرة واحدة بحيث تبقى ألوانها ما بقيت الزهرة، فكم يكلفك ذلك من الجهد..؟ وإلى أى مدى تنجح محاولتك..؟
ظاهرة الموت والحياة
ظاهرة الموت والحياة كذلك تلفت حس الإنسان إلى قدرة الله المعجزة التى تحيى وتميت؛ فما الحياة فى حقيقتها؟ إنها سر معجز لا يعلم أحد كنهه ولا يستطيع تفسيره. وكل ما حاوله البشر حتى اليوم هو تفسير بعض ظواهر الحياة من حركة ونمو ووظائف مختلفة تقوم بها الأعضاء. أما الحياة ذاتها: فما هى؟ وكيف توجد فى الكائن الحى؟ ثم كيف توجهه إلى أداء وظائفه التى يقوم بها؟ هذا كله سر مبهم لا يقدر البشر على إدراكه.
وعبثاً حاول البشر ـ بكل علمائهم، وبكل ما لديهم من علم ـ أن يخلقوا خلية واحدة، واحدة فقط، من بلايين البلايين من الخلايا الحية التى يزخر بها الخلق الربانى، والتى أوجدها الله بعلمه وقدرته دون شريك.
آية الرزق
الرزق الجارى على الإنسان، سواء فى صورة مطر هاطل من السماء، أو زرع نابت من الأرض، أو أسماك وطيور وحيوان، أو كنوز ومعادن فى باطن الأرض، أو هواء يتنفسه، أو ريح تُجرى سفنه فى البحر، أو طاقات تدير آلاته كطاقة البخار أو طاقة الكهرباء أو طاقة الذرة أو طاقة الوقود أو طاقة الماء المنحدر من المرتفعات.. كل ذلك مَن يجريه إلا الله؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (الذاريات: 58).
أحداث الحياة
الأحداث التى تجرى فى الكون وفى حياة الإنسان، من فرح وحزن، وضحك وبكاء، وفقر وغنى، وصحة ومرض، وموتى يموتون، ومواليد يولدون فى كل لحظة من لحظات الليل والنهار؛ مَن ذا الذى يُحدثها ويرتبها ويدبرها إلا الله مدبر كل شىء فى هذا الكون؟!
الغيب المجهول
الغيب المجهول الذى لا يعلمه إلا الله يتشوّف الإنسان لمعرفته؛ فلا يستطيع مهما حاول، ويريد أن يعرف كيف ستكون حياته فى المستقبل. بل يريد أن يعرف ماذا يكون نصيبه فى العام المقبل. بل يريد أن يعرف ما يحدث بعد شهر أو أسبوع أو يوم… بل يريد أن يعرف ماذا يحدث بعد ساعة من الزمان بل بعد لحظة واحدة من الزمن المقبل، لا يستطيع أن يعرف ما وراءها، وما تجلبه إليه من خير أو شر؛ فمَن ذا الذى يعلم ذلك الغيب المجهول كله علم شمول وإحاطة واطّلاع إلا الله وحده الذى يخلق كل شىء ويعلمه، ولا يندّ عن علمه شىء فى السماوات ولا فى الأرض..؟!
وكثير من الأمور وكثير، يلقى تأثيره على القلب البشرى فيستيقظ لحقيقة الألوهية. يعرف أن الله موجود، وأنه واحد لا شريك له، وأنه سبحانه متفرد بالكمال والقدرة، وبالجلال والعظمة، وبالسلطان الذى لا تحده حدود. فيكون على الفطرة السوية، ويكون كما خلقه الله فى أحسن تقويم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين : 4).
ويكون مهتدياً مؤمناً، مرضياً عنه فى السماوات والأرض، عمره فى الأرض مبارك بالأعمال الصالحة، وله فى الدار الآخرة جنة عرضها السموات والأرض، ورضوان من الله أكبر.
حين تمرض الفطرة
ولكن الفطرة تمرض أحياناً وتنتكس فيصبح الإنسان أسفل سافلين: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ (التين: 4-6).
يتبلّد الحسُّ أحياناً فينسى آيات الإعجاز فى الكون والحياة. ينسى القدرة المعجزة التى تُجرى الرزق وتُجرى الأحداث وتشمل بعلمها الغيب.
أسباب تبلد الحس عند الإنسان
تكرار المشهد
إن الإنسان حين يمر بتجربة جديدة يكون متفتحاً لها بكل حواسه. فإذا رأى مشهداً لأول مرة، أو سمع شيئاً جديداً لأول مرة، أو ذهب إلى مدينة جديدة أو شارع أو مسكن جديد، فإنه يكون منتبهاً بكل حواسه، يريد أن يتعرف على تفصيلات الشىء الجديد، ويكون له فى نفسه وقْع بالغ لأنه جديد عليه. ولكنه حين يألف المشهد أو المكان، وتتكرر رؤيته له، فإن حواسه تمر عليه بغير انتباه كبير، بل قد تمر عليه بغير انتباه على الإطلاق..!
وكذلك يفعل الإنسان أحياناً مع الله..! ينسى أنه الخالق وأنه المدبر وأنه الرازق وأنه المحي والمميت..! ويمر بهذا الكون فلا يلتفت إلى شىء من الآيات فيه..! لا يلتفت إلى عجزه المطلق إزاء قدرة الله..!
الانشغال بالدنيا
أو يتبلّد حسه أحياناً لسبب آخر؛ لأنه مشغول بطعامه وشرابه وشهواته، مشغول بمتاع الدنيا القريب، فيلهيه ذلك المتاع عن التدبر فى آيات الكون والتقرب إلى خالق الكون والحياة، ويلهيه عن ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب .
اتباع الهوى
أو يتبلّد حسه لأنه لا يريد أن يلتزم بأوامر الله، يريد أن يطغى فى الأرض ويتبع هواه، يريد أن يتجاوز الحلال الذى أحله الله لأنه فى نفسه شراهة لا تقنع بما أحله الله. أو يريد أن يسيطر على الآخرين ويستعبدهم لأهوائه فيعتدى على أموالهم، أو أعراضهم أو دمائهم بغير حق، ويريد أن يكون إلهاً فى الأرض يطاع من دون الله.
الكِبر
أو يتبلد حسه لأن فى نفسه كبراً يستكبر به على عبادة الله .
الفتنة بالنعمة
أو يتبلد حسه لأنه مفتون بما بين يديه، مفتون بعقله أو بجسمه أو بماله أو بأى شىء مما حباه الله إياه، فيعتقد أنه من عند نفسه، وينسى أنه من عند الله..!
خاتمة
يتبلد الحس وتمرض النفس لسبب من هذه الأسباب، أو لغيرها مما يلم بالنفس من انتكاسات وانحرافات، فتنسى اللهَ النسيان كله، أو تشرك به سواه، وتتوهم أن أحداً أو شيئاً ما فى هذا الكون كله له شأن مع الله..!
عندئذ لا يعود الإنسان كما خلقه الله على الفطرة السوية فى أحسن تقويم، وإنما يصبح أسفل سافلين، فيتملكه الشيطان يصرف شئونه بعيداً عن الهداية الربانية، وبعيداً عن رضوان الله.
ولكن الله ـ من رحمته بعباده ـ لا يتركهم هكذا بغير هداية، بل يرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى الهدى ويعيدونهم إلى الحق.
ولقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم النبيين، ويكون بشيراً ونذيراً للناس كافة إلى يوم القيامة. وأنزل عليه القرآن الكريم يهدى للتى هى أقوم، وتكفل سبحانه بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).
وجعله شاملاً لكل ما يرد الفطرة إلى سلامتها، وينفي عنها خبثها وأمراضها، ويدلها على حقيقة الألوهية، ويعرفها بالله الحق، خالق الكون ومدبره، ومالك الأمر كله بغير شريك.
………………………………..
الهوامش:
- متفق عليه.
المصدر:
- ركائز الإيمان، ص9-16.