قضية المسلمين اليوم قضية سياسية بالدرجة الأولى ، ومفاصل هذه القضية كلها مفاصل شرعية لا بد من حلها وتحديدها وإزالة الغبش عنها.
الخطاب الديني والخطاب السياسي
هناك فرق بين الخطاب الديني والخطاب السياسي ..
فالخطاب الديني: هو خطاب شرعي موروث وله أسسه بعقائده وأحكامه وطرق اجتهاده المنضبطة ، ولا يجوز لأحد كائنا من كان ولا تحت أي ظرف من الظروف أن يغير فيه شيئا (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، وهو أمانة ورسالة يجب إيصالها الى الخلق كما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحل لأحد التلاعب بها تحت أي ضغط أو ظرف سياسي ولا أن يترك منها أنملة …
وأما الخطاب السياسي: فهو خطاب من باب السياسة الشرعية المعروفة عند علماء الأمة.. فهو خطاب يسعى لتحصيل مصالح المسلمين بحسب حالة ضعفهم وقوتهم ويسعى لحمايتهم من البطش وأن يحمي دعوتهم بقدر المستطاع ، وذلك بحسب الحالة السياسية الموجودة وإمكانات الاستفادة الممكن تحصيلها ، وفي هذا يفرَّق بين أنواع الأعداء ما بين الأشد ضراوة وخبثا وبين الأقل عداء والمُبقى على ما استطاع من الصلات ، ويفرق بين المريد اجتثاث المسلمين وبين من لا يرغب في هذا بل يرى لهم حقوقهم ولا يرى جواز إهدارها ، كما كان الفرق بين من يريد اجتثاث المسلمين كأبي جهل وبين من يقول: (رجل رأى لنفسه دينا فما لكم وما له) ومن يقول: (اتركوا محمدا وشأنه فإن أصابته العرب فكان ما تريدون ، وإن ظهر عليهم فعزه عزكم وملكه ملككم) ومن يقول: (دعوه فسوف يكون لكلامه هذا شأنا) ، ويفرق بين من يبذل الجوار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالمطعم بن عدي ومن يرفض هذا .
الجمود السياسي وإضاعة مصالح المسلمين
لكن هناك من لم يفرق بين الخطاب الديني والخطاب السياسي ..
فهناك من يتمسك بخطابه العقيدي فيصونه ويعصم عقيدته ولكن لا يحمي نفسه ولا أهله ولا توجهه ، وهناك من يتنازل عن خطابه العقيدي ليفوز – بزعمه – بالسياسة ، وتكون مشاركته مرهونة بالتنازل عن عقيدته ، رغم أن هذا الطلب لا يطلب من الشيوعي الملحد ولا من المسيحي !.
والأمر ليس كذلك ، فالخطاب الديني العقدي يجب أن يكون كاملا وحرا وصحيحا لا يتأثر ولا يتأرجح تبعا لمواقف سياسية تزايد عليه ، ولا يسمح بتغيير الخطاب الديني أو التنازل عن ثوابته تبعا لمواقف سياسية متغيرة ومصالح متأرجحة .
وفي نفس الوقت ينبغي عدم الجمود السياسي وإضاعة مصالح المسلمين بزعم المحافظة على الخطاب العقدي الصحيح .
فالأمر ليس كذلك بل لا بد أن يكون الخطاب الديني مستقلا صحيحا كما قرره الشرع وبلا مساس به ولا بثوابته وألا يصير خادما لأوضاع أو مواقف آنية أو غير آنية ..
ويجب في نفس الوقت مرونة الخطاب السياسي وأن يستجيب لأوضاع المسلمين المرحلية بحسب قوتهم وضعفهم وأن يكون مقصوده تحصيل مصالح المسلمين والحفاظ عليها .
اختيار الأقل سوءا للحفاظ على مصالح المسلمين وحمايتهم
وفي هذا الصدد يكون للمسلمين الحرية في اختيار الأقل سوءا من المطروح عليهم في فترة ضعفهم ..
فلو تعددت بدائل أمام المسلمين من رؤساء أو مشاركات برلمانية يكون وجه هذه المشاركة فيها أنها تمثل شريحة من الأمة لها توجهاتها ومن حقها الحفاظ على مصالحها وتوجهاتها ، وألا يكون هذا على حساب الخطاب الديني ، وألا يمنع من بيان الحق ورفع الالتباس وتعرية العدو .
بل ويجب ألا يعطي هذا شرعية دينية للأنظمة .
ويجب بيان حقيقة الأوضاع وأن يفهم المسلمون أن هذا ليس هو الوضع الشرعي ولا الديني المطلوب لكنه مجرد سعي للحفاظ على مصالح المسلمين أو حمايتهم من البطش ، وأن يكون واضحا للعدو كما يكون واضحا للأمة الخطاب الديني الصحيح وعدم إعطاء الشرعية للأوضاع العلمانية..
فمن صّعب فهم هذا الأمر فقد يُفهم هذا في الأوضاع الطائفية كما فى لبنان أو العراق أو غيرها بأن يكون للمسلمين وللسنة تمثيلهم الذي يحمي مصالحهم ويختارون من الآخرين من يقترب من مواقفهم ، أو من يكون أقل عداء من غيره بحسب الترتيب الذي يراه المسلمون للحفاظ على أوضاعهم.
وكما يفهم هذا الأمر أكثر من خلال أوضاع المسلمين كأقليات في الغرب ومشاركتهم لمنع وصول اليمينيين المتشددين الذين يتخذون مواقف عدائية ضد المسلمين ويحرمونهم من حقوقهم، ومحاولة إيصال من يقترب من مواقف المسلمين أو يتعاطف مع قضاياهم ، فلو كان للمسلمين قدرة على الاختيار لكان عليهم فعل ذلك ..
ويفهم أيضا من تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المطعم بن عدي وعتبة بن ربيعة وأمثالهما وبين أبي جهل وأمثاله .
وقد يفهم كذلك من تأييد الصحابة في الحبشة للنجاشي ضد من خرج يناوئه ، وأنهم لو استطاعوا نصرته بأكثر مما كان متاحا لفعلوا .
وكما يفهم أيضا من وضع دار الندوة – وهذا على فرض وجود وضع حقيقي وليس تزويرا يستطيع فيه المسلمون أن يمثلوا ويحققوا مصالحهم ويحموا أنفسهم من البطش .
وهم في هذا ليسوا مسئولين عن التشريعات الموجودة ، لأنهم لا يقبلون إلا شريعة الله تعالى ، ولكنه كما يقول شيخ الإسلام عن هذه الأوضاع إن كان فى حالة الحكم أو قريبا منها: (أن يحكم بما يستطيع من العدل) ، وعلى هذا يقترب من شرع الله تعالى بقدر المستطاع ويحكم بما يتوافق معه كحال ضرورة لا حال استقرار ولا يزعم أن هذا هو الوضع الشرعي.
السعي لإنهاء أوضاع الضرورة والتغلب
وفي الأوطان الإسلامية السليبة المحكومة بغير شرع الله تعالى يجب على المسلمين عدم الركون إلى مثل هذا كوضع نهائي .. ليس كذلك بل عليهم العمل للوضع الإسلامي الشرعي الصحيح وأن يمتلكوا من القدرة والكفاءة ما يكونون جديرين وأكفاء بتحكيم الشريعة باجتهادات منضبطة بأصول الفقه بحيث تشمل جميع المساحات الحديثة التي كف عنها الاجتهاد بعد تنحية الإسلام من حاكمية الحياة ، وأن يمتلكوا كذلك من القدرة على معالجة قضايا التنمية والتحديث والتطوير وامتلاك القوة والقدرة والتكنولوجيا، والقدرة كذلك على معالجة القضايا الشائكة كقضايا الأقليات والمياه وحماية الحدود وتحقيق العدل الاجتماعي وتحقيق الازدهار والرخاء ، وتحقيق مشاركة الأمة عبر وضع مؤسسي تتحقق به قاعدة الشورى لتحقيق تمثيل الأمة ومشاركتها في الحكم، كما كان الوضع زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين ، وإنهاء أوضاع الضرورة والتغلب لصالح وضع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
ضوابط المشاركة السياسية
وفى هذا السياق نكرر ذكر ضوابط الأمر:
(1) ألا يكون الخطاب السياسي على حساب الخطاب الديني العقدي الصحيح ولا يتعارض معه، فلا يصنع المسلمون كما يفعل البعض من التنازل لصالح عقائد الشيعة الرافضة والتساهل في سبهم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أو التنازل للنصارى بأنهم من أهل الجنة بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) الآية على أساس فهم محرَف لم يقل به أحد من أهل العلم بل ويمس أصل الدين وقد يكفر صاحب هذه المقالة لمعارضته المباشرة لنصوص قاطعة في هذا الأمر..
فلا يتنازل المسلمون لا عن عقائد أو سنن أو فرائض أو محرمات إطلاقا .
(2) ألا يعطي شرعية للأوضاع العلمانية والقومية .
(3) ألا يكون الخطاب الديني تابعا ومبررا للخطاب السياسي .
(4) ألا يمنع هذا من تعرية الباطل ورفع الالتباس .
(5) ألا يمثل الخطاب السياسي أي التباس عند عموم وجماهير الأمة .
(6) أن يكون المقصود هو تحصيل مصالح المسلمين وحمايتهم من البطش. فتكون المشاركة على وجه أنها تمثيل لقطاع من الأمة له الحق في التعبير عن نفسه وعن مصالحه .
(7) أن تكون هذه الأوضاع أوضاعا جادة وحقيقية وليست تمثيليات وتزوير .
(8) ألا يركن المسلمون إلى هذه الأوضاع على أنها أوضاع نهائية بل يسعون إلى إقامة الوضع الشرعي الصحيح والكامل .
(9) أن يعتزلهم المسلمون إلا فيما هو إطار لحماية مصالح المسلمين وتحقيق تمثيلهم .
(10) ألا تكون المشاركة إقامة للدستور العلماني واحتراما لهم واستخذاء أمامهم بل يكون عند المسلمين من القدرة أن يأخذوا هذا الحق انتزاعا بقوة كتمثيل لقطاع من الأمة ولا يتنازل عن شيء من هذا الدين.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ، وهوالمسئول سبحانه وتعالى أن يعز هذه الأمة وأن يرفع لواءها تهدي الحيارى وتنير الطريق لكل ضال وتائه .. (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وصلى الله وسلم وبارك على أكرم الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
اقرأ أيضا
الفرقان بين الإسلام والعلمانية
“امتلاك القوة” خطوة للخروج من التبعية والتمكين للشريعة