ليست الجاهلية مرحلة زمنية كان عليها العرب قبل الإسلام فقط، بل هي مرض عضال يقع في أي زمن ولها مسائل معلومة من تشبه فيها بعرب الجاهلية أصابه الداء، ولما قال المهاجرون يا للمهاجرين وقال الأنصار: يا للأنصار، قال صلى الله عليه وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)، هذا والطائفتان أفضل الناس بعد الأنبياء.
الميزة الرابعة: أنها حضارة ذات قيم وموازين خاصة ومعايير مستقلة، ولكل قيمة مفهومها الإسلامي الخاص الذي تختلف به عن سائر الحضارات
فليست القوة في الإسلام هي القوة العسكرية أو القوة البدنية وحدها، بل فيه ما هو أقوى لا سيما القوة النفسية، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله في المسند بسند صحيح (أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فاستقرت، فعجبت لذلك الملائكة فقالت: يا رب هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال نعم الحديد)، واستمر الحديث في عرض القوى الكونية بعد الحديد كالنار والريح وأخيرا سألت الملائكة ربها (هل خلقت أقوى من ذلك؟ قال: نعم، ابن آدم ينفق النفقة بيمينه لا تعلم بما شماله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فليست الشدة هي ما كان يفعله الرومان في مصارعاتهم المشهورة، ولا هي أيضا في الهيمنة الأمريكية المعاصرة.
وبهذا المفهوم الإسلامي يكون البقاء للأتقى وليس للأقوى، كما يصوره داروين في انتخابه الطبيعي.
وليس المفلس من فقد ماله فقط، بل هو من ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا كما بينه الحديث، كما أن الغنى ليس عن كثرة أعراض الدنيا، وإنما الغنى غنى النفس، وليس الفساد هو الرشوة وسرقة المال ونهب الثروات فقط، بل هو كل خلل في الدين أو في الكون أو في المجتمع … الخ.
قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء ٢٣]، وقال: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم: ٤١]، وقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص :4].
صحيح أن فساد فرعون كان موجها إلى بني إسرائيل وليس للمسلمين والسود واللاتين كما تفعل الجاهلية الأمريكية، وأن فرعون لتأخره لم يسم ذلك فوبيا كما يقول الأمريكان “الإسلامو فوبيا”، أي أن جاهلية فرعون كانت متأخرة ليست كالجاهلية الأمريكية اليوم!
وقد عاب السياسة الفرعونية بعض الكتاب قياسا على ما فعله الغرب وأذنابه بالمسلمين، فقالوا لو أن فرعون لم يقتل أبناء بني إسرائيل بل وضع لهم مناهج فرعونية وابتعثهم إلى المناطق الفرعونية…. إلخ، أي لو قتلهم معنويا لنجح.
الجاهلية قيم وموازين ومؤسسات
وليست الجاهلية مرحلة زمنية كان عليها العرب قبل الإسلام فقط، بل هي مرض عضال يقع في أي زمن ولها مسائل معلومة من تشبه فيها بعرب الجاهلية أصابه الداء، ولما قال المهاجرون يا للمهاجرين وقال الأنصار: يا للأنصار، قال صلى الله عليه وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)، هذا والطائفتان أفضل الناس بعد الأنبياء.
ومن الجاهلية والتنابز بالألقاب ما نسمعه اليوم من قولهم فلان خضيري أو طرش بحر أو صانع أو صفر سبعة أو صلي أو هتيمي أو بلحطي وما أشبه ذلك.
والجاهلية لا يلزم منها تكفير المعين، بل المعاصي من أمور الجاهلية كما ترجم البخاري رحمه الله في الصحيح، والقاعدة في هذه هي كما ذكر شيخ الإسلام، “كلما ضعفت أنوار النبوة ظهرت ظلمات الجاهلية”.
وليس النصر هو إنزال الهزيمة بالعدو فقط، بل له في الإسلام معنى أشمل وهو رد الظالم عن ظلمه فذلك نصر له، كما ثبت في السنة، وإذا انتصرت على نفسك وشهواتك وشيطانك فأنت المنتصر.
وأكبر النصر هو الثبات على الحق ولو كنت وحدك، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51] وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء، فرأى النبي وليس معه أحد، ومع ذلك هو منصور إذ استقام في نفسه وبلغ غيره.
وليس الضعفاء هم ما هو معلوم عند الناس، ويستوجبون الموت كما يقول المالتوسيون، وأصحاب ما يسمونه القتل الرحيم، وعلى ذلك سارت النازية فكان “هتلر” يتخلص من الجرحى الألمان لأنهم يكلفون بعلاجهم دون أي جدوى مادية.
وإنما للضعيف في الإسلام فوائد معنوية عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم)، وأكبر ما تسعى إليه أمم الأرض قديما وحديثا هو الغلبة على العدو والرفاهية المادية، وهما إنما يحصلان بهؤلاء الضعفاء، وبعض من ظاهره معاق فيه مزايا أخرى، وقد كان الشيخان الفاضلان الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن حميد كفيفين.
ولیست ريادة العالم هي التفوق الصناعي وإنتاج الأسلحة المسماة (ذكية) أو بيولوجية، ولا بالتقدم المادي والرقي العمراني، وإنما الريادة والإمامة بالصبر واليقين، قال تعالى عن بني إسرائيل: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
الكثرة والقلة بين المفهوم الأرضي والمفهوم الشرعي
وليست الكثرة والقلة بمفهومها الأرضي هما المعتبران، بل بالمفهوم الشرعي والمقياس الشرعي.
فالرياضيون يقولون: إن العدد الكبير هو الكثير، ولا نجادل في ذلك.
والمصرفيون وأصحاب البنوك يقولون إنه لا بد من كثرة السيولة.
والخبراء الاقتصاديون يقولون لا بد من كثرة الناتج من المزروعات والمواد الأخرى. والماديون عموما يزنون الأمور بميزان الوفرة المادية. وهكذا.
غير أن الشرع جاء لذلك بمفهوم أشمل وربما كان عكس ما يظنون:
فقد قال عليه الصلاة والسلام: (سبق درهم مئة ألف درهم).
وقال: (ثلاث أحلف عليهن ما نقص مال من صدقة) الحديث.
وقال: (إن الربا وإن كثر أمره إلى قل).
وقال تعالى: (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة: 100].
وأوضح ابن القيم ذلك بمثال محسوس وهو التفكر في عدد الكلاب وعدد الغنم، مع أن الكلبة تلد ستة والشاة تلد واحدا، والجزار يذبح الغنم يوميا ولا يذبح الكلاب.
ومع ذلك تجد الغنم أكثر عددا من الكلاب: فالعبرة إذن بالبركة، فقد لا يجد المؤمن شيئا يتصدق به، وقد لا يجد إلا صاعا ملء الكف من رديء التمر فيسخر منه المنافقون ويلمزونه ويقولون: (إن الله عن صدقة هذا لغني).
والبركة أمر مشاهد محسوس ولذلك يفر كثير من المؤمنين من العمل في البنوك الربوية ولو كانت تدفع راتبا أكثر ويعملون أعمالا حلالاً قد ينالون فيها نصف ذلك الراتب لكنه مبارك.
الغش في ميزان الإسلام والجاهلية
وليس الغش مختصا بالفاكهة والحبوب وما أشبه ذلك، بل يشمل أمورا كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أكبر الغش الغش في الديانات”.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من راع يموت وهو غاش لرعيته إلا كان من أهل النار). والغرب اليوم مفتون بمنتوجاته الصناعية لاسيما في الأسلحة والسيارات، ومع ذلك يكتشف هو أو أولياؤه ما فيها من غش وكذب، ألم يقل قائد سلاح الجو الإسرائيلي إن المظلة الأمنية أكذوبة. فما ظنك بما تبيعه أمريكا لدول الخليج؟..
وقد ظهر أخيرا أن صواريخ باتريوت الأمريكية مغشوشة وأن الناس يخافون منها أكثر من صواريخ الحوثيين.
ومن الغش أن يغش أحد في النصيحة أو في الاستشارة أو يسكت عن نصح من أوجب الله له النصح.
ومن الغش الذي يمارسه بعض الناس في الشرق والغرب أنهم يكتبون على البضاعة: صديق للبيئة أو طبيعي، أو عالي الجودة أو متميز، والواقع بخلاف ذلك.
وليس الربا هو مجرد أكل أموال الناس بالباطل مقابل ربح مركب أو بسيط، وإن كان ذلك عند الله عظيما، لكن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم.
وليست السنة هي ألا يُسقي الناس ولا يهطل الغيث، بل أشد من ذلك أن تمطر السماء ولكن لا تنبت الأرض شيئا كما في الحديث.
وليست الخسارة هي ضياع المال فقط، بل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة كما ذكر الله، وكل إنسان خاسر إلا من استثناه الله كما في سورة العصر.
وليس العمى هو كف البصر فقط، بل أشد منه عمى القلب عن الحق قال تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج: 46] .
وليست الدعاية هي ترويج البضاعة بالكذب والتدليس والخداع فقط، بل كل دعوة تفتقر إلى الصدق والوضوح وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جرير بن عبدالله البجلي على النصح لكل مسلم، فكان يقول للبائع إذا اشترى منه شيئا: اعلم أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك!
وليست الكرامة هي خرق قوانين الطبيعة كما يقول الغربيون، أو خرق العادات الجارية كما يقول الصوفية، بل هي أعم من ذلك، وأعظم كرامة للإمام أحمد بن حنبل هي ثباته في المحنة، وأعظم كرامات الإمام البخاري هي تأليف الصحيح.
العظمة والعظماء في ميزان حضارة الإسلام
وليست العظمة في امتلاك الثروة أو الجاء أو المنصب، بل هي في التقوى، ولهذا كان بلال أعظم من أبي جهل.
واليوم نجد الدكتور رافل العراقي، وعلي التميمي العراقي، وتركي الحميدان وأمثالهم من العظماء، وكذا كل سجين في “غوانتانامو” أو في أي مكان هم الأعظم، والمباحث الأمريكية (إف بي أي) هي الوضيعة وكل مباحث في العالم.
وقد طالب فرعون قومه أن يقارنوا بينه وبين موسى ليروا أيهما أعظم، فقال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف : 51-52]
وعلى الطريق نفسه اقترح المشركون أن يُنزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، وقالوا: يا محمد اطرد عنا الموالي حتى نجلس معك.
وقبل ذلك كان قوم نوح قد قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [هود:27].
وبهذا المقياس الجاهلي العنصري تقيس أمريكا اليوم فتضع نفسها على رأس العالم الأول وتضع المسلمين ضمن العالم الثالث، وقد كان هرقل على كفره أعقل من هؤلاء حين قال: “هكذا الأنبياء يتبعهم ضعفة الناس ثم تكون لهم العاقبة”.
وليس الفرح هو في جمع الحطام الفاني، بل هو في الهداية والاستقامة، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58] .
وليس الأمن هو الاستقرار المعيشي، بل أعظم منه توحيد الله وعبادته لا شريك له، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام : 82] .
وليس إلقاء النفس في التهلكة هو الإقدام والانغماس في صفوف العدو، بل هو ترك الإنفاق في سبيل الله وترك الجهاد لإعلاء كلمة الله، قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، واقرأ كيف فسرها أبو أيوب رضي الله عنه.
وليس الموت هو فقد الحياة فقط، بل أعظم منه ترك الهدى وترك الحق، قال تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام :122].
ونهى الله عن قول إن الشهداء أموات، وقال عليه الصلاة السلام: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت).
قال أحمد شوقي في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أخوك عيسى دعا ميتا فأنشره … وأنت أحببت أجيالا من العدم
والجهل موت فإن أوتيت معجزة … فابعث من الجهل أو فابعث من الرمم
وهكذا معايير كثيرة كالسعادة والسلام، والفخر، والرقوب، والظلام، وأمثال ذلك مما غيره الإسلام أو وسع مفهومه.
والمعايير الإسلامية منضبطة، تحدث عنها العلماء وحددوا ضوابطها، وإنما يريد الغرب وأذنابه أن يجروا المسلمين إلى ما هم فيه من مصطلحات متناقضة ومعايير غير منضبطة، يفسرها كل أحد على ما يهوى، ومن هذه المعايير (الحشمة، الاعتدال، المعقولية، الترشيد، الشفافية، العدالة الانتقالية، الإرهاب) وأمثال ذلك من المصطلحات المطاطة والمعايير الفضفاضة.
المصدر
كتاب: “المسلمون والحضارة الغربية” للشيخ سفر الحوالي ص 158 – 165.
اقرأ أيضا
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها تقوم على الحجة والبرهان
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها حضارة توحيدية
بين الحضارة النيّرة والحضارة ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ المظلمة .. مختارات من “المسلمون والحضارة الغربية” (9)