للحضارة الإسلامية ميزة عظمى تفتقر إليها المجتمعات، ولا تزال الحضارة الغربية متأخرة عنها ألا وهي الثروة الفقهية الهائلة التي تبين الأحكام التفصيلية لكل حادثة، مع إتاحة الفرصة الكاملة للاختلاف والاجتهادات ووجهات النظر، في حدود القواعد الشرعية والأصول الكلية، ومع المرونة الكاملة في التطبيق ومراعاة المصالح والمفاسد وتغيرها بحسب أحوال الأمة.
الميزة الثالثة: ربانية التشريع
وهي ثروة لا نظير لها قط، وتواردت عليها عبقريات كثيرة على امتداد التاريخ، وذهل لها القانونيون في هذا العصر، حتى أن السنهوري لم يملك إلا الإقرار بعظمتها وسعتها، وتأثيرها في القوانين واضح جلي، أما الغرب المظلم فإنه لم يعرف التقنين المكتوب إلا في القرن التاسع عشر الجريجوري لما كتب نابليون قوانينه بعد الثورة الفرنسية، واقتبس نابليون من أحكام الفقه المالكي كثيرا لا سيما مختصر خليل، وهذه الثروة الفقهية الكبيرة أصلها من الكتاب والسنة.
والإنجليز إنما يعملون بنظام السوابق وليس بالقانون المكتوب.
وكانت الكنيسة قبل نابليون تعتمد على كثير من الشريعة الإسلامية، كما بين شيخ الإسلام في “الجواب الصحيح”.
ومن المزاعم المتهافتة قول بعض المستشرقين إن الفقه الإسلامي منقول عن القانون الروماني، وهذا افتراء صريح يمكن رده بسهولة من المقارنة بين الفقهين، كما يمكن القول بأن أحدا من الفقهاء المسلمين كأبي حنيفة مثلا لم يسمع بالقانون الروماني فضلا عن النقل منه.
وانظر مثلا إلى اللوائح التي وضعها الامبراطور “جستنيان” المشهورة عندهم باسم “لوائح جستنيان” وهي ساذجة ضحلة بدائية، إذا قورنت بفقه السلف المتعمق الأصيل، كما قضی به عمر بن الخطاب مثلا.
أول دستور مكتوب هو صحيفة المدينة
ولم يترجموا شيئا منها لما ترجم النساطرة وأشياعهم، الفلسفة اليونانية في “بيت الحكمة”. والتاريخ الدستوري في العالم يشهد أن أول دستور مكتوب هو الصحيفة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ورواها الإمام أحمد وغيره، ومنها اقتبس الغرب بعد قرون أول دساتيره، وأفاد منها الدستور الأمريكي جدا، ولا تزال حرية الاعتقاد أحد منجزات القانون الدولي إلى اليوم، كما أن عبارة الفاروق رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدهم أمهاتهم أحراراً” لا تزال مادة من مواد الدستور الأمريكي، لا سيما ما أسموه وثيقة الحقوق المدنية، وإنما غير الأمريكان عبارة الفاروق إلى “يولد الناس كلهم أحراراً متساوين” هب أن ذلك مجرد توارد خواطر، فأيهما الأسبق؟
ثم أفادت من ذلك عصبة الأمم ثم هيئة الأمم في عصرنا الحاضر.
ولكي تصل أوربا إلى هذه العقيدة التي دعا إليها الإسلام، كان عليها أن تخوض حروبا دينية شرسة لا سيما بين البروتستانت والكاثوليك.
القرآن الكريم يؤسس قواعد ما يسمى اليوم القانون الدولي
ومن الخطأ اعتبار مطالب “جروسيوس” فاتحة القانون الدولي، فهو إنما طالب الدول النصرانية الأوروبية، أن تترك الصراع فيما بينها وتجتمع يدا واحدة لحرب الأتراك “أي المسلمين”.
وقبله كان القرآن الكريم قد بين كثيرا من قواعد ما يسمى اليوم القانون الدولي، انظر مثلا ما ذكره سبحانه في سورة براءة عن المواثيق الدولية، وما في سورة الممتحنة من أحكام العلاقة بين المسلمين والكفار في المعاملات كالبر والزواج، وما في سورة الحشر من أحكام أخرى كالجلاء والقطع، والسير في الإسلام هي التطبيق العملي لذلك.
وقد عجبت مؤتمرات المستشرقين مما كتبه الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتابه المشهور “السير” وقالوا إنه أول کتاب في القانون الدولي.
وقد أراد الغرب عن طريق الأمم المتحدة فرض ثقافته وحضارته على الدنيا كلها، فألزم الدول كلها بقانونه الدولي والإنساني.
الغرب لا يحترم ما وضعه من قوانين
والقانون الدولي إذا تجرد عن صفة الإلزام أصبح مجرد فتوى كما قاله “هيجل” والمسلمون يفرقون بين القضاء والفتوى وهم بذلك واقعيون لا يجنح بهم الخيال كما جنح بـ “عمانوئيل كانت”، وكتبة ميثاق الأمم المتحدة، إذا أحسنا بهم الظن، فقد كان “كانت” وأتباعه يؤمنون بما يسمى السلام العالمي أو التقدم المطلق، وهو خلاف سنه الله ودفعه الناس بعضهم ببعض، علما أنه عكس الواقع التاريخي للأمم.
ولما استخفت إسرائيل بالقانون الدولي واستخدمه الطواغيت الخمسة لخدمة أمنها ومصالحهم، فقد قيمته ولم يعد للالتزام به معنى اللهم إلا إذا اعتبروا الاتفاقيات الثنائية بين الدول جزءا من القانون الدولي، فيجب على كل دولة الالتزام بما وقعت عليه.
والجديد في القوانين الدولية المعاصرة، هو تغيير الألفاظ والمصطلحات، مثل كلمة الرسل المعروفة في “السير” وأنهم لا يقتلون، والعرف الدولي الآن يسميهم “الدبلوماسيين” أو “السفراء والقناصل” وكذلك ما يسميه فقهاء المسلمين “الذراري” يسمونه اليوم “الأطفال” وما يسميه المسلمون “المعصومين” يسمونهم “اليوم” الأبرياء وهكذا على أن الفضل للمتقدم، والعبرة إنما هي بالمعاني لا بالمباني!
على أن القانوني الفرنسي “دوجي” قال بعد معاناة تشريعية طويلة “لا يشرع للخلق إلا من خلقهم”.
وبتأثير الإسلام خرجت أوروبا من العصور المظلمة إلى عصرها الحديث، وفيه عرفت القانون الدولي.
متى بدأ العصر الحديث؟
يختلف الباحثون الغربيون متى بدأ العصر الحديث، أي متى خرجت أوروبا من عصر الظلمات إلى العصر الحديث الذي ابتدأ بما يسمونه عصر النهضة الأوربية وأهم أقوالهم قولان:
1- أنه بدأ منذ تمرد الامبراطور “فردريك” على الكنيسة، وهؤلاء يسمون فردريك “أول المحدثين”، وهو امبراطور إيطالي أمره البابا أن يشن حملة صليبية على المسلمين، لكنه لم يفعل فحرمه البابا ثم إنه قام بحملة وقابل السلطان الكامل الأيوبي، وعقد معه هدنة وتكلم معه بالعربية دون حاجة المترجم، وقالت الكنيسة : إنه أسلم -والله أعلم- وسمته “الزنديق الأعظم” والشيء المتفق عليه بين المؤرخين لحياته أنه كان يجيد العربية وأن بلاطه كان عربيا، وأن طراز البناء في أيامه -بل كل العادات- كانت عربية، أي: إسلامية، حتى الكنائس بنوها على شكل المساجد.
٢- إن العصر الحديث بدأ بفتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني “محمد الفاتح”، والمهم أن الإسلام أو التأثر به هو سبب خروج الغرب من عصر الظلمات، ولا يستطيع أي مؤرخ غربي يحترم فنه إنكار ذلك.
الحركة البروتستانتية والثورة على الكاثوليكية
وأعظم حركة نصرانية هي الحركة البروتستانتية حيث دعا من يسمون “الإصلاحيون الأوائل” إلى الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية، وأعلن مارتن لوثر احتجاجه عليها في بنوده الخمس والتسعين التي علقها على كنيسته “ويتنبرج”، وكان الكاثوليك قد طغوا دينياً وماديا وأصدروا صكوك الغفران لتمويل الحملات الصليبية، واحتكروا حق تفسير الكتاب المقدس، وجعلوا لأنفسهم حق المغفرة وحق التحلة وتحكموا في الأباطرة والملوك، كما فعلوا بهنري الرابع، والعلماء والفنانين وغيرهم، وأحرقوا من خالفهم وهو حي كما فعلوا بجردانو برونو، وقالوا إن من يخالف التعاليم البابوية إنما هو مهرطق متأثر بالقرآن والمحمدية، كما فعلوا بسرفت الذي أحرق حيا.
غير أن البروتستانتية انتشرت، وقام لها دول مما أدى فيما بعد إلى ظهور ما يسمى “الإصلاح الكاثوليكي” أي: إصلاح البابوية من داخلها، ومن المجمع عليه أن البروتستانتية ابتدأت بحركة تحطيم الصور والتماثيل في الكنائس لا سيما أيام الامبراطور البيزنطي “ليو الثالث” ولا شك أنه تأثر بالمد الإسلامي العظيم، حيث حرم ذلك المسلمون، وذكر المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة أنهم رأوا كنيسة فيها تصاوير فقال صلى الله عليه وسلم: (أولئك شرار الخلق عند الله).
واليوم أصبحت “هوليود” تمثل موسى عليه السلام، وأصبح في الغرب تماثيل موسى وعيسى عليهما السلام، أي أن شرك قوم نوح انتقل إلى الأمريكان من طريق البابوية، فلا عجب أن تنتشر البروتستانتية لدى كل العقلاء، ولا سيما بريطانيا وأمريكا وكندا واستراليا، وأن يكون منهم الفرقة المسماة “الموحدين” الذين كفروا بالتثليث الكاثوليكي، ولديهم بعض الحق كما قال الحسن بن أيوب قديما.
بداية الحركة التنصيرية
ولما رأى الكاتوليك انحسار دينهم داخل أوروبا وتقدم العثمانيون فيها اجتهدوا في نشر دينهم خارجها، فقاموا بما يسمى الكشوف الجغرافية، وصدروا دينهم إلى المسلمين عن طريق التنصير وفرحوا بوقوع المسلمين في شباكهم واختلقوا فكرة الحوار بعيدا عن القرآن، وجعلوا مقر الحوار الإسلامي النصراني “روما”!
وتبعا لهذا الشرك قامت السياسة المعاصرة على المكيافيلية والبراجماتية، وتقول إنها فن الممكن، أما السياسة الشرعية فتقوم على الأخلاق، ولا سيما العدل وعلى فن الصعب أو “المعجز”، خذ مثلا حال الامبراطوريتين الفارسية والرومية، فقد ظلتا قرونا تتصارعان دون أن تقضي إحداهما على أخرى، ولكن المسلمين مع قلة العدد والعدة قضوا على الامبراطوريتين كليهما في ربع قرن، وهذه معجزة واقعية مشاهدة.
دور الأمة في اختيار حكامها
ومن التوحيد ومن السياسة الشرعية أن البيعة في الإسلام حق للأمة بالشوري، واختيار الأكفاء واجب شرعي وليس ذلك بمجرد ولاية العهد أو انتخاب أكثرية الناس، كما يزعم الرافضة والديمقراطيون.
وولاية العهد التي يوصي بما الإمام السابق هي مجرد توصية لها اعتبارها ولكن الأمة غير ملزمة لها، وقد كذب شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة الرافضة في دعواهم أن بيعة عمر بن الخطاب إنما كانت لأن أبا بكر جعل الأمر من بعده لعمر، ونص على أنها كانت باتفاق المهاجرين والأنصار عليها.
وهكذا يكون التشريع والحكم وكل شيء لله وحده لا شريك له في الأصل، وإنما يفوض الله سبحانه من يطبق ذلك من أهل العلم والإيمان.
المصدر
كتاب: “المسلمون والحضارة الغربية” للشيخ سفر الحوالي ص 153 – 158.
اقرأ أيضا
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها حضارة توحيدية
من خصائص الحضارة الإسلامية: أنها تقوم على الحجة والبرهان
بين الحضارة النيّرة والحضارة ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ المظلمة .. مختارات من “المسلمون والحضارة الغربية” (9)