هناك حق الأمة وواجب الأمة.. فالبعض ينسى نفسه وربما قصر في عبادته نتيجة انشغاله بالأمر العام، فهو يفكر في الدعوة، ويهتم بالمسلمين في كل مكان ، لكنه ينسى نفسه هو، وربما ينسى واقعه القريب المحيط به في انشغاله بالواقع البعيد الذي هناك، فتكون النتيجة أنه يفقد التوازن، فلا ينفع ولا يفيد في أمر عام إلا على حساب أمر أو واجب خاص.

فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة

هناك نوع من العزلة، يأتي ضمن النفس الإنسانية الواحدة، وهو: فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة، ونعني بذلك أن الشاب يعيش في انفصام أو في معركة أو في تجاذب وتنافر بين واجب النفس وبين واجب الأمة، مع أننا نحمد الله على أن الشباب المسلم بدأ يتنبه، ويعي ضرورة أن يكون عمله وفكره وتطلعاته على مستوى الأمة جميعاً، لا لنفسه فقط، وهذا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرسل الكرام والصحابة، فقد كانوا دعاة خير للإنسانية جمعاء، وكانوا يفكرون في أمر العامة كما يفكرون ويجتهدون في أمر الخاصة، وكانوا يعرفون زمانهم، وتعلمون كيف كان واقعهم كان فيه قلة الأخبار، وقلة الاتصال، وقلة وسائل المعرفة والاطلاع، ومع ذلك فقد كانوا يحيطون بما تستدعي الحاجة أن يحيطوا به من أخبار فارس والروم والحبشة والقبط، ومعرفة القبائل، ومعرفة الناس بحسب ما تقتضيه الدعوة في مرحلتها وفي طبيعتها.

ومع ذلك كانوا يوازنون بين واجب العامة وبين واجب الخاصة.

فالإنسان يقول: يجب علي أن أعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجب علي أن أطلب العلم بنفسي، ويجب علي أن أنقذ نفسي من النار، وأن أفعل كل عمل يقربني من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن أهتم أيضاً بحقوق النفس الواجبة كحق الزوجة أو الوالدين أو الأهل عامةً وما أشبه ذلك، فهذه حقوق يريدها الإنسان في نفسه، ويجد أنه من الواجب أن يقوم بها لنفسه.

وهناك حق الأمة وواجب الأمة.. فبعض الشباب ينسى نفسه وربما قصر في عبادته نتيجة انشغاله بالأمر العام، فهو يفكر في الدعوة، ويهتم بالمسلمين في كل مكان ، وهذا واجب يُشكر عليه ، لكنه ينسى نفسه هو، وربما ينسى واقعه القريب المحيط به في انشغاله بالواقع البعيد الذي هناك، فتكون النتيجة أن هذا الشاب يفقد التوازن، فلا ينفع ولا يفيد في أمر عام إلا على حساب أمر أو واجب خاص.

نماذج في التوازن

الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك كان صحبه الكرام الذين اهتموا بأمر هذا الدين والدعوة ونشرها في الآفاق والجهاد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما كانوا قط مقصرين في الواجب الفردي الشخصي.

فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- يقوم الليل، وكان يؤدي النوافل، بل كان يؤدي حقوق الأهل وواجب الزوجات، وكان يستقبل الوفود، وكان يعاشر الناس جميعاً بأفضل وأحسن المعاشرة وكذلك صحبه الكرام، وهذا لم يتعارض قط مع الواجبات العامة أو مع أداء المهام العامة للأمة.

وكذلك نجد سير العلماء رضي الله تعالى عنهم ، فقد كانوا في غاية العلم والعبادة والاتباع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وفي نفس الوقت نجد أنهم كانوا يهتمون بأمر العامة، وبإنكار المنكر، وبإقامة دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والنصح للحكام والإنكار عليهم، وبالاهتمام بما يجري في الأسواق، وما يظهر من البدع في الآفاق.. كل ذلك نجدهم معتنين به ومهتمين به دون أن يطغى جانب على جانب.

ومع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق النفوس وجعل لها خصائص.. فبعض الناس يصلح للجهاد ولا يصلح للعلم، وبعضهم يصلح للعلم ولا يصلح للجهاد، وبعضهم يصلح للدعوة ولعرضها وبسطها وجلب الناس إليها، ولا يصلح لإنكار المنكر؛ لأنه يضعف عن ذلك، وبعضهم يصلح لإنكار المنكر ومواجهة المفسدين؛ ولكنه لا يستطيع أن ينشر الدعوة وأن يبينها لأحد… وهكذا..

ومع وجود ذلك، إلا أنه وجدت أيضاً نماذج من القدوة والأسوة الحسنة ممن استطاعوا أن يستكملوا هذه الخلال، ويستجمعوا هذه الصفات الطيبة.

الشخصية المتكاملة وحاجة الأمة إليها

الأمة الإسلامية في هذه الحقبة أحوج ما تكون إلى تلك النماذج، التي تتكامل فيها جوانب الشخصية المسلمة، فتستطيع أن تعبد ربها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتقوم بالواجب على النفس، ثم تقوم بالواجب العام من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم تعرف كيف توازن بين هذه الواجبات، وكيف توفق بين العلم وبين الدعوة، وكيف تجمع بين الصبر وبين اليقين، وكيف توائم بين العصر الذي يصعب استيعابه بأحداثه وبأفكاره وبآرائه وبين تاريخها وماضيها وتراثها وبين العلم الشرعي الذي هو أشرف العلوم وقد ورَّثه لنا سلفنا الصالح من علوم العقيدة والتوحيد والفقه والحديث والتاريخ، وغيره من العلوم العصرية.

فلا بد أن يوجد في هذا الشباب الطيب المبارك من يجتهد في استكمال هذه الجوانب ما أمكن، وذلك لكي يقدم للأجيال المعاصرة نماذج حية وقدوات مباشرة ملموسة محسوسة في تكامل الإسلام؛ لأن الشباب المسلم إذا تكاملت شخصيته، فإنه يستطيع أن يظهر ويبرز في الوجود، ويثبت الوجود الإسلامي -كما كان السلف الكرام رضوان الله تعالى عليهم- في هذا العصر على تفرق المسلمين وعلى ذلتهم وقلتهم، وعلى ما يعانون فيه من العبودية للشرق أو الغرب.

إن هذا الدين دين شامل متكامل، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة:208] وعلينا أن ندخل في هذا الدين كله، وأن نطلب العلم من أصوله ومن أبوابه المشروعة في الحلقات العلمية، وأخذه من العلماء العاملين المتفقهين في الدين، وفي الوقت نفسه لا نألو جهداً ولا نقصر في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل نجعل العلم سلاحاً للدعوة، وتكون الدعوة وسيلة لنشر العلم، كما يجب علينا أن نعي واقعنا وزماننا، كما قال بعض السلف الصالح: رحم الله امرأً عرف زمانه واستقامت طريقته.

ومن معرفة الزمان أن تعرف هذا العالم جملة، وما يموج فيه من أفكار، وما يضطرب فيه من الفتن والضلالات، وتعلم بأن الحل في يدك، وأنك تستطيع أن تقدم لهذه الإنسانية التائهة الحائرة الحل الذي لا يملكه غيرك أبداً، وهو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

كما يجب علينا أن نوفق وأن نوازن بين الواجب على النفس وبين الواجب للناس جميعاً، فإنه يجب علينا أن نعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن نحافظ على الواجبات، ونتقرب بما استطعنا -أيضاً- من النوافل بحسب الإمكان، وأن نعبد الله ونذكره ونشكره؛ حتى تكون حياتنا زكية، وتكون أعمالنا زكية خالصة.

ثم ندعو الناس -أيضاً- ونصبر على أذاهم ونأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، ولا نغلب جانباً على جانب.

أما إذا اعتزل الشاب الناس بالكلية، أو اعتزل جانباً من جوانب الحق والخير بالكلية أو شبه الكلية، فإنك ستجد الشخصية غير المتزنة، وستجد أن هذا الإنسان إن وعى عصره وواقعه وجهل العلم والفقه الشرعي بأدلته، فإنه قد يتخبط في الفتوى ويقول على الله تبارك وتعالى بغير علم، وإن وعى جانب العلم الشرعي وتفقه فيه ولم يعش عصره وواقعه، فإنه لجهله بعصره هذا قد يضع تلك الأدلة في غير موضعها، فيستدل على أمور من غير انطباق أدلتها عليها -أي ما يسمى تحقيق المناط في أصول الفقه- فالعلم الذي لديه لم ينتفع به؛ لأنه لم يضعه في مناطه الصحيح.

التوازن في التخصصات الإسلامية

إن الأصل هو التكامل، وهو الذي نسعى إلى تحقيقه؛ ولكن:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه     وجاوزه إلى ما تستطيع

فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق النفوس وأعطاها إمكانيات، فـخالد بن الوليد رضي الله عنه أُعطي السيف، فهو سيف الله، فكان مجاهداً بينما أعطي معاذ رضي الله عنه العلم، وأعطي أبي بن كعب رضي الله عنه القراءة، وأعطي عمر رضي الله عنه القوة في الحق، وهكذا كل واحد من الصحابة، وهم النموذج الأسمى لنا، وكل منهم يسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له شيئاً، وكل ميسر لما خلق له، وأعطي له ذلك حتى تتكامل هذه الجهود.

ونحن نحاول أن تتكامل هذه الصفات في الإنسان، فإن لم تتكامل فيه، تكاملت في الأمة ما استطعنا، ولو أن هذه الجهود تكاملت وتعاونت، واجتمعت على الحق وعلى الكتاب والسنة والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لوجدنا أن كل طاقة تفيد، وأن كل خبرة تنفع، وأن كل اختصاص يوضع في محله، ولكن جاء التنافر، وجاء الاختلاف من أنفسنا نحن، وليس ناتجاً من جهة ما جعله الله من خصائص وما أودعه من طاقات، لا! فهذه فطرة وسنة جعلها الله تعالى كذلك، وليست هي السبب في الحقيقة، بل السبب يعود إلينا نحن في أن الإنسان يأخذ جانباً من الحق ويغفل عن الجانب الآخر، مثلهم كمثل العميان مع الفيل، وكثير من الشباب المسلم اليوم ينطبق عليهم هذا المثل.

وذلك أن واحداً أمسك بأذن الفيل، فقال: هذا جلد، والثاني أمسك برجله، فقال: هذا جذع شجرة، والثالث أمسك الخرطوم، فقال: هذا أنبوبة، وكل واحد وصف الفيل بحسب ما لاحظه؛ لكن لو رأوا الفيل كله، لكان وصفهم له واضحاً.

فهذا المثال الساذج يكاد ينطبق على واقع الشباب، فالذي ينشغل بالجهاد -مثلاً- ينكر على المشتغل بالعلم، والمنشغل بالعلم ينكر على المشتغل بالدعوة… وهكذا، مع أن كلنا على حظ وخير، وإن اجتمعت هذه الصفات في شخص لكان خيراً عظيماً.

فالصحابة رضي الله عنهم جمعت فيهم على الأقل هذه الصفات الثلاث، وهكذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه، وكذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، وهكذا العلماء الذي أقاموا هذا الدين وأسسوه، وهذه الخلال والصفات ليست متضادة ومتناقضة، لكننا نحن بأخطائنا في الدعوة نناقض بينها.

 التوازن بين معرفة الواقع البعيد والقريب

المقصود بذلك أن الأمة الإسلامية الآن تعيش قضايا يمكن أن تسمى بالقضايا الساخنة، يعني القضايا التي تهمنا يومياً -تقريباً- نسمعها ونتابع أحداثها، كقضية الجهاد الأفغاني، قضية إخواننا المسلمين في أفغانستان ، وقضية إخواننا المسلمين في ظل الحكومات الشيوعية ، مثلما في أوروبا الشرقية، وقضية المجاهدين المسلمين في سوريا ، وفي فلسطين ، وفي أماكن كثيرة، فهذه قضايا مهمة.

وجميل وحسن أن نفقه وأن نعي ما يخططه أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك البلاد، وأن نكون مع إخواننا بما نستطيع؛ لكن لا يحسن بنا أبداً أن ننسى ما يخططه لنا الأعداء هنا في بلدنا أو مدننا؛ بل في جامعتنا أحياناً، فإذا كانت الدعوة هنا لها أعداء، وهناك لها أعداء، فإنه يجب أن نفكر في الأمرين بتوازن.

ولنضرب على ذلك مثلاً:

الجزائر تعاني التغريب، وتعاني الإنكار والتمرد والجحود على أحكام الله، وتعاني معاناة شديدة من كل الاتجاهات؛ فالمسلم الجزائري الذي يشتغل ويفكر ويجعل كل همه مع المسلمين في الفلبين جزاه الله خيراً لا أحد يستطيع أن ينكر عليه ذلك؛ لكن يجب عليه ألا يغفل عن الجزائر وما يحاك وما يدبر ضدها؛ لأن الأخ الذي في الفلبين وفي أفغانستان لا نطلب منه أن يدع الجهاد هناك وينشغل بأمر الجزائر ؛ بل نقول: جاهد هنا، وأيضاً ادع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن لم يكن إلا الدعاء، وأما أنت هنا فيجب عليك أن تعرف الواقع الذي تعيش فيه، ولهذا لو أننا نحدث أهل الجزائر عن المشاكل الإسلامية البعيدة، ونترك لهم واقعهم هذا القريب، لما وجدنا عندهم أي تجاوب، وأقل شيء يشعرون به أننا لا نقدم لهم شيئاً جديداً بطبيعة الحال.

وأيضاً يأتي أعداء الدعوة ويقولون: هؤلاء لا يعيشون قضايا المجتمع ولا يعيشون قضايا الأمة، وهذه هي الورقة التي يلوح بها أعداء الإسلام من العلمانيين والمجرمين في كل مكان، يقولون: أنتم تنسون قضايانا وأحداثنا، وتنسون مجتمعنا، وتنسون التضخم، وتنسون التنمية، ولذلك يجب أن نقطع الطريق على هؤلاء ونوازن بين هذا الواجب في المجتمع القريب وبين ما للمجتمع البعيد.. والكل جسد واحد لا ريب في ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية جسد واحد، فيبدأ الإنسان بنفسه وبمن يعول، ولا بد من هذا التوازن.

المصدر

محاضرة: “العزلة الفكرية والشباب المسلم” د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي .

اقرأ أيضا

الأمة الإسلامية بين أسباب السقوط وعوامل النهوض

المد والجزر في تاريخ الإسلام .. الدافع للتمكين

الوسطية والتوازن في الشجاعة والحذر

العدل والتوازن في الجهاد في سبيل الله

 

التعليقات غير متاحة