لا يخفى على اللبيب العاقل أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه، فمن كان عالي الهمة شريف النفس نزع إلى المعالي، ومن كان ممن جذبته الدنيا إليها وكبّلته بحبها نزع إلى ما يزيده حباً فيها وتعلقاً بها، والبون بين الفريقين شاسع.

النوازع: ذكرها وبيانها

رأيت أن أتكلم عن نوازع خمسة وهو ما تنزع إليه النفس وترغبه وتشتهيه:

1 – طلب العلم الشرعي.

2 – كثرة العبادة وإحسانها.

3 – الدعوة إلى الله تعالى.

4 – الجهاد في سبيل الله.

5 – طلب المال الصالح.

وهي إن حاكت في صدر المسلم كلها أو بعضها منعته الرقاد، وأورثته السهاد، فلا يعود يطيب له العيش حتى يُحكم أمره فيها، ويختار منها ما يوفقه الله تعالى إليه، وقد يمنّ الله عليه بجمعها أو بجمع غالبها، فيكون إماماً قدوة.

النازع الثالث: الدعوة إلى الله تعالى

هذا مطلب لكثير من الملتزمين، وهو تأدية لحق العلم بالدعوة إلى الله تعالى، وهو أمر واجب في هذا العصر الذي ضلّ فيه كثير من الناس، واتّبعوا أهواءهم وشهواتهم، ونكصوا على أعقابهم، ونكثوا البيعة مع الله تبارك وتعالى.

وللدعوة (شروطها، ووسائلها، ومقوماتها، وآدابها) رسائلُ كثيرة، ولكن الذي هو مطلوب البحث ذكر بعض الأمور التي يتم بها للداعية أمر دعوته من حيث التوازن والاعتدال.

جوانب التوازن في الدعوة

أولاً: التوازن بين الدعوة وأداء القربات

حال خوض الداعية غمار الدعوة لا ينسى أن يوازن بين التقرب إلى الله بأداء بعض العبادات البدنية وبين الدعوة كما كان – صلى الله عليه وسلم – يفعل؛ وذلك لأن الدعوة بدون قُرَب جفاف، والقُرَب بدون دعوة تضييع، والجمع بينهما حال الأنبياء والرسل.

قال التابعي معاوية بن قُرّة: (من يدلني على رجل بكّاء بالليل بسام بالنهار)1(1) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 482..

فهو يبكي بين يدي الله تبارك وتعالى حال قيام الليل، ويضحك في وجوه الناس في النهار تألُّفاً وتحبُّباً.

وقد سُئل أبو أسامة عن الإمامين الكبيرين الفُضَيْل بن عياض وأبي إسحاق الفزاري فأجاب بما يصلح إيراده هاهنا، إذ قال: (كان فضيلٌ رجل نفسه، وكان أبو إسحاق رجل عامّة)2(2) المصدر السابق: 2/ 679..

وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (أتمنى أن أكون في الصحاري والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني، ثم قال: أراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يديّ أكثر من خمسمائة، وتاب على يدي أكثر من مئة ألف، وهذا خير كثير)3(3) ((نزهة الفضلاء)): 3/ 1447..

ثانياً: عدم الانجراف مع الناس حال دعوتهم

ولست أقصد أن ينجرف معهم في معاصيهم؛ لأن هذا خارج موضوع البحث، ولكني أقصد ألا ينجرف – حال دعوة الناس – إلى أن يكثر الهَذَر معهم، ويسترسل في اللغو والمزاح فيفقد تأثيره وبريقه، فلا يُقبل بعد ذلك غالب كلامه، ولله در الشاطبي رحمه الله حيث قال:

هو المجتبي4(4) المختار: ((ترتيب القاموس)): (ج ب ي) يغدو على الناس كلهم … قريباً غريباً مستمالاً مؤمّلاً

نعم هو قريب منهم بدعوته وغريب عنهم حال هذرهم ولغوهم.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (فأما ما تؤثره كثرة الخلطة فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يَسْود، ويوجب له تشتتاً وتفرقاً، وهمّاً وغمّاً وضعفاً، وحملاً لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى من لله والدار الآخرة؟

هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلّت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس، وهل كان على أبي طالب – عند الوفاء – أضر من قرناء السوء؟ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد …

والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات …

فإن أعجزته المقادير عن ذلك فليسلّ قلبه من بينهم كسلّ الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية، وما أصعب هذا وأشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فبين العبد وبينه5(5) أي بينه وبين أن يحصل على تلك الحالة مخالطته للناس. أن يصدق الله تبارك وتعالى، ويديم اللّجَأ إليه، ويلقي نفسه على بابه طريحاً ذليلاً، ولا يعين على هذا إلا محبة صادقة، والذكر الدائم بالقلب واللسان، ولا يُنال هذا إلا بعدة صالحة، ومادة قوة من الله عز وجل، وعزيمة صادقة، وفراغ من التعلق بغير الله تعالى)6(6) ((تهذيب مدارج السالكين)): 245 – 246، بتصرف يسير..

ولله در الشافعيّ حيث يرشد تلميذه يونس بن عبد الأعلى فيقول: (يا يونس، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقُرناء السُوء، فكن بين المنقبض والمنبسط)7(7) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 741..

وهذا وَهْب بن مُنَبِّه رحمه الله قد جاءه رجل فقال: (قد حدثت نفسي أن لا أخالط النّاس، قال: لا تفعل، إنه لابدّ لك من النّاس ولا بد لهم منك، ولهم إليك حوائج ولك نحوها، ولكن كن فيهم أصمّ سميعاً، أعمى بصيراً، سكوتاً نطوقاً)8(8) انظر ((نزهة الفضلاء)): 1/ 442..

ثالثاً: الإقلال من مخالطة المدعوِّين إلا لغرض صحيح

وهذا لأن الداعية قد يلتبس عليه الأمر فيخالط المدعوّين لسبب وبدون سبب، ويكثر من زيارتهم كثرة تفضي به إلى أن تكون زيارته عادة وليست عبادة، فيضيع الغرض الصحيح الأوّل من الزيارة، نعم كثرة الزيارة لغرض صحيح أو لإصلاح مدروس أمرٌ لا غبار عليه بل هو من المندوبات.

قال الحميدي رحمه الله:

لقاء الناس يفيد شيئاً … سوى الهَذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء الناس إلا … لأخذ العلم أو إصلاح حال

رابعاً: الإقلال من مخالطة الدعاة إلا لغرض صحيح

قد يعتاد الداعية زيارة إخوانه الدعاة كثيراً فيضيع وقته وأوقاتهم، ويأخذ من وقت المدعوِّين بدون حق، فيجب على الداعية ألا يكثر من زيارة إخوانه الدعاة إلا لغرض صحيح من تنسيق في أعمال الخير، أو تخطيط لغزو بعض القلوب الصَّدئة ونحو ذلك.

ويحسن بالدعاة ألا يتأثروا من قلة زيارة إخوانهم لهم؛ إذ المعيار هو الأخوّة وتقارب القلوب، وليس الدليل على المحبة كثرة الزيارة، فقد جاء يوسف القاضي إلى الإمام إبراهيم الحربي فقال له: يا أبا إسحاق، لو جئناك على مقدار واجب حقِّك لكانت أوقاتنا كلها عندك. فقال: (ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب)9(9) المصدر السابق: 2/ 982..

خامساً: التوازن في الحرص على الناس

بعض الدعاة بسبب كثرة مخالطته للناس ومعرفته بمشاكلهم قد يضعف شعوره بمشاكلهم وتجاوبه معها، وبعض الدعاة على العكس من ذلك يكاد يتمزق كلما سمع مشكلة أو رأى منكراً، والمطلوب التوازن.

فقد حث الله سبحانه وتعالى رسوله الأعظم – صلى الله عليه وسلم – على ألا يهلك نفسه حسرة على قومه فقال: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) (الشعراء:3).

وقال سبحانه: (فلعلك باخع نفسك على ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (الكهف:6).

والبَخْع: الهلاك.

ولكنه قد غلب الناس في هذه الأزمنة تبلد شعورهم بمشاكل المسلمين، فيا حبّذا أن يتوازن هذا الأمر في الداعية، فلا يتأثر تأثراً يفضي به إلى عدم القدرة على العمل وإلى الإحباط واليأس، ولا يضعف هذا الشعور في نفسه فيتبلد حسه.

كان أويس القَرَنيّ (إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الفضل من الطعام والشراب، ثمّ قال: اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عُرياً فلا تؤاخذني به)10(10) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 324..

سادساً: التوازن بين كره التصدي والشهرة وبين وجوب قيادة الناس

الداعية يكره التصدر والشهرة بطبعه لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكن ماذا يفعل إن تعينّ عليه نصح الجمهور وإرشادهم للحق، فإنه لا ينبغي له الفرار من الميدان بدعوى كراهية الشهرة والتصدر، كما أنه لا ينبغي له طلب الشهرة وإرادة التصدر لئلا يجرح إخلاصه.

قال تعالى: (واجعلنا للمتقين إماماً) (الفرقان:74).

وقال سبحانه قاصاً كلام سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) (يوسف:55).

فهاتان الآيتان توضحان أن المسلم هو الرائد والدليل، بل قد ينبغي له طلب هذه الوظيفة الشريفة.

وقد يكون في قلب المتصدر المخلص حبٌ للشهرة وهو لا يشعر به ولا يريده، ولكنه نازع من نوازع النفس الإنسانية لا يؤخذ عليه إن شاء الله، فهذا إبراهيم بن أدهم يقول: (ما صدق الله عبدٌ أحب الشهرة).

فيعلق الذهبيّ قائلاً:

(علامة المخلص الذي قد يحب شهرةً ولا يشعر بها أنه إذا عُوتب في ذلك لا يَحْرد ولا يبرىء نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه لا يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داءٌ مزمن) 11(11) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 596..

وقد أكثر السلف من التحذير من طلب التصدر وحب الشهرة، فهذا شيخ المالكية أبو عثمان ابن الحدّاد يقول:

(ما صد عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة)12(12) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 1034..

ويقول الذهبي رحمه الله محذراً من حب الشهرة:

(فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب … فكم رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء … وهو داء خفيّ يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين، فتراهم يلقون العدو ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليُقال … يضاف إلى ذلك إخلال بالصلاة وظلم للرعيّة وشرب للمسكر فأنى ينصرون؟ وكيف لا يخذلون؟ … فمن طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق واختال وازدرى بالناس وأهلكه العجب ومقتته الأنفس)13(13) ((نزهة الفضلاء)): 3/ 1277 – 1278..

والذي يحب الصدارة معرّض للذل، كما قال أبو الطيب سهل الصعلوكي: (من تَصدّر قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه)14(14) ((نزهة الفضلاء)): 3/ 1277 – 1278..

وهذه الأقوال إن انطبقت على محب التصدر والشهرة وعديم الإخلاص فلا تنطبق – إن شاء الله – على داعية تصدّر لإرجاع قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم حتى لو شُهر وعرف فلا بأس عليه – إن شاء الله تعالى – وله أسوة بالرسل الكرام، فهم أعظم الناس شهرة، وكذلك المصلحون والدعاة من بعدهم.

وما أجملَ قول الفُضَيْل رحمه الله: (من أحب أن يُذكر لم يذكر، ومن كره أن يُذكر ذُكر)15(15) المصدر السابق: 2/ 665..

وقد يكون المرء كارهاً للشهرة من باب التواضع الكاذب الذي سول لصاحبه أنه أضعف وأصغر من أن يشتهر ويعرف، وهذا داء سارٍ في كثير من الصالحين ولولاه لتمكنوا من ارتياد آفاق أعظم لدعوتهم ودينهم.

الهوامش

(1) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 482.

(2) المصدر السابق: 2/ 679.

(3) ((نزهة الفضلاء)): 3/ 1447.

(4) المختار: ((ترتيب القاموس)): (ج ب ي)

(5) أي بينه وبين أن يحصل على تلك الحالة مخالطته للناس.

(6) ((تهذيب مدارج السالكين)): 245 – 246، بتصرف يسير.

(7) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 741.

(8) انظر ((نزهة الفضلاء)): 1/ 442.

(9) المصدر السابق: 2/ 982.

(10) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 324.

(11) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 596.

(12) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 1034.

(13) ((نزهة الفضلاء)): 3/ 1277 – 1278.

(14) ((نزهة الفضلاء)): 3/ 1277 – 1278.

(15) المصدر السابق: 2/ 665.

المصدر

كتاب: “التنازع والتوازن في حياة المسلم” مُحَمَّد بن مُوسَى الشَّريْف، ص51-62.

اقرأ أيضا

مواقف ” الناس ” من الدعوة إلى الله

الدعوة الى الله بين الأسلوب والمضمون

من مزايا دعوة الأنبياء ومن سار على طريقهم

التعليقات غير متاحة