الأنفس والآفاق صنعة الله، وفيها تظهر قدرته وحكمته؛ فالنفس بها عجائب تلو عجائب، واقتضت حكمة الله تعالى تشابها في الخلق تارة واختلافا في أخرى.
مقدمة
لله تعالى كتاب مقروء، وله تعالى كتاب منظور؛ وكلاهما يدل على رب العالمين، هذا يدل على من خلقه، والآخر يدل على من تكلم به.
وقد وعَد تعالى وعْدا، لا يكون إلا من إلهٍ، بأن المستقبل سيكون فيه بيان لآيات في نفوسنا وفي الآفاق حولنا؛ ليتبين الخلق أن هذا الكتاب حق، وأن رسالة الرسول حق، وأن وعد الآخرة حق.
ولذا وجب النظر في هذه الآيات والتفكر فيها؛ وفي هذا المقال مثال على هذا النظر والتفكر.
آيات الله في الأنفس
يقول الله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:53].
ويقول سبحانه: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21].
ويقول عز وجل: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق: 5-7].
يعلق سيد قطب رحمه الله تعالى فيقول:
“وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض، ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين.
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني؛ في أسرار هذا الجسد، عجيبة في تكوينه الروحي؛ في أسرار هذه النفس، وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه، وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جِرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه الْتَقَى بأسرار تدهش وتحير: تكوين أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف، عملية الهضم والامتصاص، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه، تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامل الدقيق، وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب، وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب.
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة؛ إدراكه للمدرَكات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكُّرها؛ هذه المعلومات والصور المختزَنة، أين؟ وكيف؟
هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تُستدعى فتجيء؟!
وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى، فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر، تظهر آثاره بين الحين والحين في لمساتٍ وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيَّب المجهول.
ثم أسرار هذا الجنس في توالُدِه وتوارُثِه؛ خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين، فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدقَّ تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟!
وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذَن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة، إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان!
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات، بل أمام النطق ذاته؛ نطق هذا اللسان، وتصويت تلك الحنجرة؛ إنها عجيبة عجيبة تفقد وقْعَها لأنها تمرّ بنا كثيرًا، ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وَقْعها؛ إنها خارقة، خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله.
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب”. (1«في ظلال القرآن» (6 /3379-3380))
نماذج من آيات الله عز وجل المنظورة في الأنفس
وهي آيات جاء الحث على التبصر والتفكر فيها:
قال الله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [الروم:20-23].
يقــول ابن كثير رحمه الله تعـالى عنـد هـذه الآيـة:
“فأصْلُكم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تَصَوَّر فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظامًا، شكله على شكل الإنسان، ثم كسا الله تلك العظام لحمًا، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير، ثم خرج من بطن أمه صغيرًا ضعيف القوى والحركة، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويتكسب ويجمع الأموال، وله فكرةٌ وغوْر، ودَهاءٌ ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة؛ كلٌ بحسبه.
فسبحان من أقدرهم وسَيَّرهم وسخّرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة، والحسن والقبح، والغني والفقر، والسعادة والشقاوة”. (2«تفسير ابن كثير» عند الآية (20) من سورة الروم)
مناقشة ابن القيم للملحدين
يقول ابن القيم رحمه الله:
“فمن ذا الذي تولى ذلك كلَّه وأحكمه ودبَّره وقدَّره أحسن تقدير؟
وكأني بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار..!
فلو أراد الله أن يهديك لسألْتَ نفسك بنفسك وقلت: أخبرني عن هذه الطبيعة؛ أهي ذاتٌ قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟
فإن قالت لك: بل هي ذات قائمة بنفسها لها العلم التامِّ والقدرة والإرادة والحكمة.
فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوِّر، فلِمَ تسمينه طبيعة؟
ويا لله من ذكر الطبائع ومَن يرغب فيها؛ فهلَّا سمَّيته بما سمَّى به نفسه على ألسن رُسُله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء؟! فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرَض محمول مُفتَقِر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها، ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلًا، وقد شُوهِدَ من آثارها ما شُوهِدَ، فقل لها: هذا ما لا يصدِّقه ذو عقل سليم؛ كيف تصدُر هذه الأفعال العجيبة والحِكَم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها، وعن القدرة عليها ممَّن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور؟! وهل التصديق بمثل هذا إلَّا دخول في سلك المجانين والمبرسَمين؟ (3نوع من الأدوية يؤثر على العقل)
ثم قل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادَّعيْتِ فمعلوم أن مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها، ولا مُبدِعة لذاتها، فمَن ربُّها ومُبدِعها وخالقها؟ ومَن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟
فهي إذن من أدلِّ الدلائل على بارئها وفاطرها، وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِ عليك تعطيلُك ربّ العالم وجحدُك لصفاته وأفعاله إلَّا مخالفتك العقل والفطرة، ولو حاكمناك إلى الطبيعة لرأيناك أنك خارج عن موجبها؛ فلا أنت مع موجَب العقل والفطرة، ولا الطبيعة ولا الإنسانية أصلًا، وكفى بذلك جهلًا وضلالًا”. («مفتاح دار السعادة» (41 /271-278) باختصار)
الإقرار القهري الجبلّي بالخالق سبحانه
ويقول ابن القيم رحمه الله:
“فإن رجعت إلى العقل وقلتَ: لا يوجـد حكـمة إلَّا مـن حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلَّا من صانع قادر مختارٍ مدبِّر عليم بما يريد قادر عليه لا يُعجزه ولا يئوده.
قيل لك: فإذا أقررت ـ ويحك ـ بالخلَّاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربَّ سواه، فدع تسميته طبيعةً أو عقلًا فعَّالًا، أو موجِبًا بذاته وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصوِّر، ربُّ العالمين، وقيُّوم السموات والأرضين، وربُّ المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خلَقه وأتقن ما صنع.
فما لك جحدْتَ أسماءه وصفاته وذاته، وأضفت صنيعه إلى غيره، وخـلقه إلى سـواه؛ مـع أنك مضـطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بدَّ، والحمد لله ربِّ العالمين.
على أنك لو تأمَّلت قولك “طبيعة” ومعنى هذه اللفظة لدلَّك على الخالق البارئ لفظُها، كما دلَّ العقول عليه معناها؛ لأن “طبيعة” “فعيلة” بمعنى “مفعولة”؛ أي “مطبوعة”، ولا يحتمل غير هذا ألبتَّة؛ لأنها على بناء الغرائز التي رُكِّبت في الجسم ووُضِعَت فيه، كالسجيَّة والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة؛ فهي التي طُبِعَ عليها الحيوان وطُبعت فيه، ومعلوم أن طبيعةً من غير طابعٍ لها محال، فقد دلَّ لفظ “الطبيعة” على البارئ تعالى كما دلَّ معناها عليه.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خَلْقٌ من خَلْقِ الله مُسَخَّر مربوب، وهي سُنَّته في خليقته التي أجراها عليه، ثم أنه يتصرَّف فيها كيف شاء، وكما شاء فيسلبها تأثيرها إذا أراد، ويقْلب تأثيرها إلى ضدِّه إذا شاء؛ ليُرِي عباده أنه وحده الخالق البارئ المُصوِّر، وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس:82].
وإن “الطبيعة” التي انتهى نظر “الخفافيش” إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته، فكيف يحسُن بمَن له حظٌّ من إنسانية أو عقل أن ينسى مَن طبَعها وخلَقها، ويحيل الصُّنع والإبداع عليها؟ ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوَّتها ويحيلها ويقلبها إلى ضدِّ ما جُعلت له حتى يُرى عباده أنها خلقه وصنعه ومسخَّرة بأمره ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]. (5المصدر السابق)
دلالة اختلاف بعض الخلق وتشابه البعض
يقول ابن القم رحمه الله:
“من أين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الإنساني بين صورهم؛ فَقَلَّ أن يُرَى اثنان متشابهان من كل وجه؛ وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان كالنَّعم والوحوش والطير وسائر الدوابِّ؛ فإنك ترى السرب من الظِّباء، والثلَّة من الغنم، والذَّود من الإبل، والصُّوار من البقر؛ تتشابه حتى لا يفرَّق بين واحد منها وبين الآخر إلَّا بعد طول تأمُّل، أو بعلامة ظاهرة، والناس مختلفة صورهم وخلقتهم فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة، بل ولا صوت واحد وحنجرة واحدة.
والحكمة البالغة في ذلك أن الناس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعينهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات، فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت أحوالهم، وتشتَّت نظامهم، ولم يُعرف الشاهد من المشهود عليه، ولا المَدين من ربِّ الدَّين، ولا البائع من المشتري، ولا كان الرجل يَعرف عروسه من غيرها ـ للاختلاط ـ ولا هي تَعرف بَعْلها من غيره، وفي ذلك أعظم الفساد والخلل.
فمن الذي ميَّز بين حُلاهم وصورهم وأصواتهم، وفرَّق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف؟ فسَلْ المُعَطِّل أهذا فعل الطبيعة؟ وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع؟ وأين قول الطبائعيين: “إن فعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها”..؟
فكيف يجـمع المعطـِّل بين هـذا وهذا؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.
وربما وقع في النوع الإنساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميِّز بينهما، فتعظم عليهم المؤنة في معاملتهما، وتشتدُّ الحاجة إلى تمييز المستحِقِّ منهما والمؤاخَذ بذنبه ومَن عليه الحق؛ وإذا كان هذا يعرض في التشابه في الأسماء كثيرًا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى، فما الظن لو وُضع التشابه في الخلقة والصورة..؟
ولمَّا كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرُّها هذا التشابه شيئًا لم تَدْع الحكمة إلى الفرق بين كل زوجين منها، فتبارك الله أحسن الخالقين الذي وَسِعَت حكمته كل شيء”. (6المصدر نفسه)
خاتمة
إن شُبه الكفار ومآخذ الملاحدة متشابهة كأنهم تواصَوا بها، ولهم اليوم وارثون.
ولحجج الرسل وأتباعهم وراثتهم عن الأنبياء، وردودهم وبيانهم من قراءتهم لكتاب الله، وقراءتهم بلُبٍّ صحيح وفطرةٍ سويّة للواقع المنظور حولهم في النفوس وفي الآفاق.
تبقى نفسٌ تتلقى الحق فتنتفع به.
…………………………………….
الهوامش:
- «في ظلال القرآن» (6 /3379-3380).
- «تفسير ابن كثير» عند الآية (20) من سورة الروم.
- نوع من الأدوية يؤثر على العقل.
- «مفتاح دار السعادة» (1 /271-278) باختصار.
- المصدر السابق.
- المصدر نفسه.