هناك من يرى ضرورة تأجيل أي كلام عن مرجعية الشريعة في بناء الدولة في سوريا، وأي كلام عن نموذج سياسي مختلف عن النموذج الغربي، وأنّ علينا المضيّ في الوصفة الغربية لشكل النظام السياسي والاقتصادي. والسبب: أن البلاد ضعيفة ومفككة، والضغط الدولي كبير ومتربّص، وهذا سيؤدّي إلى مفاقمة الأوضاع….إلى أي مدى يعتبر هذا الكلام صحيح؟
الوصفات الغربية تفتقد إلى الانسجام مع ذاتنا الحضارية
لكنّي أنظر إلى الأمر برؤية مختلفة، وهي أنّنا جربنا الوصفات الغربية لشكل نظام الحكم والاقتصاد على مدى نحو قرن، وآلت جميعها إلى كوارث دفعنا تكاليفها دماءً ودمارًا وتهجيرًا وحروبًا وصراعات، لم يفلح أي نظام حكم في سوريا سواء كان برلمانيا يضمن حياة نيابية فيها تعددية حزبية (حكومات هشّة متغيّرة) أو كان نموذج الحزب الواحد مع نزعة اشتراكية (استبداد وقمع وسفك للدماء)، وجميعها لم تحقق أي لُحمة أو استقرار ونهوض، وسبب ذلك أنها نظم هجينة، تفتقد إلى الانسجام مع ذاتنا الحضارية وإلى أي ضامن يحقّق الاستقرار لشعوبنا.
إنّ هذا الضامن لا يوجد إلّا في الشريعة، التي لها ضوابط جادّة محكمة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتمنع الجَور والظلم والقمع والاضطهاد، ولها في “رصيد الفطرة” بتعبير سيد قطب في كتابه “هذا الدين” ما يجعل التعامل معها مختلفًا عن التعامل مع القوانين الوضعية.
كما أننا لو عدنا إلى “رصيد التجربة” الطويل لهذه الأمة بتعبير سيد قطب أيضًا، سنجد أنّ جذور الشريعة ونظامها ممتدّة ومتجذّرة في التاريخ ولم تُقتلع تمامًا، ما يجعل أي نظام يستهدي بالشريعة والممارسات الراشدة المبنية عليها نظامًا أفضل بجميع المقاييس من الأنظمة التي جربناها في القرن الأخير، فقد مارسته هذه الأمة تاريخيّا بدرجات متفاوتة عبر قرون متطاولة، وهي تجربة مهمة لا ينبغي الانقطاع عنها بل البناء عليها.
منطق الثورة: ما تريده الأمة لا ما يريده الآخرون
أما الخوف من الآخرين فلن ينتهي أبدًا، والذي ينبغي مراعاته أولا وقبل كل شيء ما تريده الأمة لا ما يريده الآخرون، فهم بالتأكيد لا يريدون لك الخير، ويريدون فوق ذلك أن تستعير نماذجهم ليفرضوا سطوتهم الحضارية وليضمنوا علوّهم في الأرض. ونفسية “الآن لا نريد تبني شيء يؤلّب الغرب علينا” ستتحوّل (كما تدلّ التجربة) إلى نفسية “هذا أفضل الموجود”، ثم إلى نفسية “لا يمكن تجاوز النظام العالمي وعلينا القبول به”. وهذه النفسية لا تبني دولًا ولا نهضة، ومنطق الثورة ينبغي أن يولّد مشاريع نهوض وبناء تنتمي إلى ثقافة هذه الأمة وجذورها الحضارية.
كما أنّ مثل هذا الحراك السياسي الفكري الذي يسعى إلى بناء نموذج سياسي واقتصادي يُرضي الغالبية العظمى من الشعب ويتواءم مع إرثها الديني والحضاري والتاريخي، إلى جانب ما فيه من خير للشعب نفسه وسعي لتحقيق مصلحته قبل مصلحة الغرب.. فإنّ فيه أيضًا جانبًا مشرقًا من الدعوة، وفرصة لإظهار التفوّق الإسلامي في التفكير السياسي والاقتصادي استنادًا إلى الشريعة الإسلامية، وتقديم صورة مشرقة لمفكري الغرب ونخبه عمّا يمكن للمسلمين أن يقدّموه للعالَم، وهو مجال ينشط فيه اليوم العديد من مفكري الغرب وفلاسفته ذوي الأثر.
إنّ الغرب لن يحترمك حين يراك تتبع وصفاته مع إظهار العجز عن توليد أي نموذج خاص بك، صحيح أن هناك نخبًا سياسية وحكومات ستغتاظ من تبني هذا النموذج، ولكنّ إرضاء هذه النخب والحكومات – كما تدلّ التجربة – مستحيل، هم لن يرضوا حتى يرونك في الحضيض، ضعيفًا هشًّا ممزّقًا، سواء كنت متبنّيًا لنظمهم السياسية أو لنظام خاص بك.
التفرّد منذ البداية
كما أنّ هناك نخبًا غربية أخرى ستجد في اجتراح النخب المسلمة في سوريا لتجربة مغايرة في بعض الأسس عن التجربة الغربية (مع اتفاقها في أسس أخرى)، ومغايرة في الوقت ذاته عن تجارب هزيلة كالسعودية وإيران وداعش، وفي تقديم حلول لمعضلات عجزت الأنظمة الديمقراطية الغربية عن حلّها.. ستجد في ذلك وغيره موضع تقدير وإعجاب، خصوصا إذا رافقه استقلال في القرار وقدرة على التقدّم وبناء الدولة وتقديم براعم حضارية. ففي هذا كله خير دعوة للأمم الأخرى، ونحن أمة “وسط”، ينبغي لها أن تكون شاهدة على الأمم دالة لها على الخير.
وإذا نظرنا إلى دولة النبوة فقد اتّخذت هذا الخطّ في التفرّد منذ البداية، رغم وجود نظامين ضاربين في الحضارة والتاريخ في الشرق والغرب، صحيح أنّ الدولة الراشدة استعارت بعض النظم الإدارية من هذين النظامين حين توسّعت في أراضيهما، ولكنّها لم تستنسخ نظاميهما تماما، بل احتفظت بأسس راشدة تنتمي إلى مرجعية مفارقة، وكان تمسّكها بهذه الأسس هو سرّ نهضتها وقوّتها.
واجب الوقت
وأنا أدرك أن المرحلة الآن مرحلة إطفاء حرائق وتوحيد البلاد ومنع النزعات الانفصالية وإسقاط العقوبات وغير ذلك بالنسبة لأصحاب القرار، لكن هذا لا يمنع النخب الدعوية والفكرية الواعية من بدء تأسيس هذا الخطاب للمرحلة القادمة، فالمسلم العاقل يستبق اللحظة ويؤسس لها، لأنّ الوقت لا ينتظر، وقد سبقكم غيركم من العلمانيين المعادين لدين الأمة في التأسيس لمفاهيمهم الباطلة، وستكون هناك لحظة تأسيسية لبناء الدولة وشكل الحكم دستوريّا، وينبغي على النخب المسلمة التمهيد لهذه اللحظة بخطاب هادئ متّزن، وإيصاله إلى أكبر قدر من الناس في ربوع سوريا، لتصبح الشريعة ورفض العلمانية مرتكزًا أساسيا في بناء النظام السياسي عند غالبية الشعب والله الموفق.
المصدر
صفحة الأستاذ شريف محمد جابر على منصة ميتا.
اقرأ أيضا
المعركة الأكبر والأهم في سوريا الآن
أقلوا على الفاتحين اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا