ليس من نفوس أرقى ولا أنقى من الأنبياء، وليس من منهج أصوب مما وجههم الله إليه، وليس من سيرة أنفع من سيرتهم؛ فمن أراد العبرة فليطلع على خطتهم في الحياة.

مقدمة

لا ريب أن في دراسة سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ثمرات كثيرة، وعِبر عظيمة، وذلك بنص كلام الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]، وأذكر في هذا المقام أهم هذه الثمرات على وجه الاختصار ومن أهمها:

من ثمرات سيرة الأنبياء

التعرف على “حياة” الرسل عليهم الصلاة والسلام

في أنفسهم ومنهجهم في دعوة الناس؛ وذلك للتأسّي بهداهم، وأخلاقهم، وأحوالهم، ومنهجهم في دعوة الناس؛ قال الله تعالى بعد أن ذكر ثلة من أنبيائه ورسله في سورة الأنعام: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90].

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الممتحنة:6].

وكذلك أمرنا سبحانه بالاتّساء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21].

جوانب الاقتداء بحياة الأنبياء

وجوانب الاقتداء بحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة جدًّا من أهمها:

أولًا: الاقتداء بهم في إيمانهم وعبادتهم وسلوكهم

فهم أعظم الناس إيمانًا ومعرفة بالله تعالى، وأكثرهم تعبُّدًا لله تعالى، وأشدهم خشية له وتوكُّلًا عليه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].

وقال سبحانه: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58].

وأخبر تعالى عن توكلهم عليه سبحانه فقال: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم:11-12].

وهم أحسن الناس سلوكًا وأخلاقًا؛ فهم أشجع الناس، وأكرم الناس، وأَوْفى الناس، وأتقى الناس؛ فلنا فيهم أسوة حسنة في أخلاقهم، وهذا من ثمرة دراسة سيرهم الطاهرة.

ثانيًا: التأسي بهم في صبرهم العظيم على أذى أقوامهم

وعلى المشقات التي واجهَتْهُم في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي هذا تسلية للمؤمنين وتثبيت للمصلحين من بعدهم؛ قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام:34].

وقال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود:120].

ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى عما يخفف على المؤمن أذى الناس فيذكر عشرة مشاهد فيما يصيب المؤمن من أذى الخلق فيقول:

“المشهد العاشر: مشهد «الأسوة»؛ وهو مشهد شريف لطيف جدًّا؛ فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسُل الله، وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه؛ فإنهم أشد الخلق امتحانًا بالناس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور، ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم، وشأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يُؤذَه مَنْ قبله، وقد قال له وَرَقة بن نوفل «لَتُكَذَّبن. ولَتُخْرَجَنَّ. ولُتْؤذَيَنَّ». (1«سيرة ابن هشام» (1/270)، دار الكتاب العربي) وقال له: «ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي». (2البخاري، حديث رقم (3))

وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورِّثهم صلى الله عليه وسلم.

أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله، وخواص عباده: الأمثل فالأمثل؟ ومن أحب معرفة ذلك فليقف على مِحَن العلماء وأذى الجهال لهم». (3«مدارج السالكين» (2/ 323))

ثالثًا: التأسي بهم في شفقتهم على أممهم ورحمتهم بهم ونصحهم لهم

فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربنا عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:128].

رابعًا: التأسي بهم في دعوتهم لأقوامهم ومنهجهم في ذلك

وهذا الجانب من سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يُعد من أهم جوانب الاقتداء التي ينبغي تأملها، والوقوف عندها والتركيز عليها، ولاسيما من الدعاة والمصلحين في هذا الزمان؛ لأن النصر والتمكين مرهون باتباع المعالم الأساسية لدعوتهم التي قادهم الله عز وجل بها إلى النصر والنجاة، وقضى على أعدائهم الكفرة بالهلاك والبوار.

ومن هذه المعالم والثوابت في منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يلي:

العقيدة أولًا: علمًا وعملًا ودعوة

إذا تأملنا دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وجدناهم متفقين في دعوة الناس إلى هذه العقيدة والبدء بها قبل غيرها؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].

وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].

فلَنا في رسل الله عليهم الصلاة والسلام أسوة حسنة في كونهم يبدءون في دعوة الناس بالعقيدة، ويسعَون في ترسيخها في قلوب الناس حتى إذا امتلأت القلوب بمحبة الله عز وجل وتعظيمه، والخوف منه، وإجلاله عز وجل؛ جاءت الأوامر والنواهي والحلال والحرام، فإذا القلوب مستعدة للتسليم والطاعة والانقياد.

وأي دعوة لا تبدأ بالعقيدة ولا تهتم بها فقد خالفت منهج الأنبياء في الدعوة، ومآلها إلى الفشل وبعثرة الجهود.

الولاء والبراء على أساس العقيدة

وهذا متعلِّق بما قبله، ولكن إفراده هنا بمَعْلَمٍ مستقلٍّ جاء للتنبيه على أهميته، وللتأكيد على وضوح هذا المَعْلَم في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولو ذهبنا نتتبع الآيات في كتاب الله عز وجل التي أكدت على هذا الركن الركين من أركان العقيدة لطال بنا المقام.

ولكن أكتفي بآية واحدة جامعة وهي قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].

ولذا؛ فإن أي دعوة لا تنطلق من عقيدة “الولاء والبراء” فإنها دعوة مخالفة لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ودعوتهم.

الإخلاص في الدعوة وابتغاء الأجر من الله وحده وتربية الأتباع على ذلك

يحق لكل مصلح أن يتأسى بأنبياء الله عز وجل في إخلاصهم لله تعالى في دعوتهم للناس، وألا يبتغوا الأجر من الناس، ولكن من رب الناس سبحانه وتعالى.

ويجدر بكل مصلح أن يقول لأهل الدنيا ما قاله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم من قبل: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾، وما قاله سليمان عليه الصلاة والسلام لملكة سبأ: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾، وأن يصدع بها إذا عُرض عليه منصبٌ أو مالٌ أو أيّ عَرَض من أعراض الدنيا ليتلهَّى بها عن دعوته، أو يتنازل بها عن عقيدته.

وينبغي أن يتعاهد المصلحون والمربُّون هذه الصفات النبيلة في أنفسهم وأتباعهم بالتربية والتزكية.

الصبر على الأذى والابتلاءات المتنوعة من أعداء الدعوة

وهذه سنة من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:1-3].

ولقد صبر أنبياء الله عز وجل في كل ما واجههم من الابتلاءات المتنوعة، والتي وصف الله عز وجل شدتها وثقلها بقوله سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214].

والآيات في ذكر صنوف الأذى والابتلاء الذي تعرّض له أنبياء الله عز وجل وأتباعُهم كثيرة. ولقد صبروا وصابَروا حتى أتاهم نصر الله، وحقَّت كلمة العذاب والهلاك على الكافرين؛ فلنا في أنبياء الله عز وجل أسوة حسنة في صبرهم على صنوف الابتلاءات، والتي هي من ضرورات ومتطلبات طريق الدعوة إلى الله عز وجل ، وسنة ثابتة من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتحول.

التدرج في الدعوة، ومراعاة المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، وتعاهد الأتباع بالتربية والتزكية

إن المتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبخاصة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته يرى أنها كانت تمرّ في مراحل متدرجة؛ كل مرحلة تؤدي إلى الأخرى، حتى أتاهم نصر الله عز وجل.

كما أن المتأمل فيها أيضًا يرى أن تلك المراحل، وما فيها من مواقف، وتصرفات، وأحكام كانت مبنية على فهمهم لواقعهم الذي يدعون فيه، وكانوا يراعون المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما؛ فجاءت دعوتهم مُحْكمة مثمِرة منصورة، وكيف لا تكون كذلك وهي تسير بوحي الله عز وجل وأمره ونهيه وتوجيهه؛ لذا فإنه يتحتم على من يريد نصر الله عز وجل وتمكينه أن يهتدي بهذا الهَدْي المعصوم، وأن يطيل النظر والتفكُّر والتأمل فيه في ضوء مستجدات العصر، وفهم الواقع المحيط؛ فلا ينتقل إلى المرحلة التالية قبل نضوج المرحلة التي قبلها ولا تتضخم عنده مراعاة المراحل بحيث يبقى في مرحلة لا يتجاوزها إلى غيرها بحجة التريث وعدم الاستعجال، أو بسبب الإغراق في الخوف على الدعوة وأهلها.

خاتمة

تتقلب الحركات الإسلامية اليوم، والمصلحون؛ في أحداث شتى. والبعض منهم يجنح عن طرق ومناهج الأنبياء؛ فتنفق الأعمار والمقدرات، والنفوس، ولا يجدون الثمرة المرجوة ولا يحققون الهدف المنشود من رفعة هذا الدين وتمكينه.

ولذا كان التنبيه على سيرة الأنبياء ومنهجهم للنظر فيه وأخذ العبرة من أجل الإنطلاق انطلاقة صحيحة بهذا الدين المجيد، دين رب العالمين، ونصرته وتمكينه. والله المستعان وعليه التكلان.

……………………………….

الهوامش:

  • «سيرة ابن هشام» (1/ 270)، دار الكتاب العربي.
  • البخاري، حديث رقم (3).
  • «مدارج السالكين» (2/ 323).

المصدر:

  • الجليّل، الجزء العاشر “أفلا تتفكرون” ص233-244.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة