من باب التأويلات الفاسدة يدخل أهل الشبهات والزيغ والانحراف ليفسدوا على المسلمين عقيدتهم وأخلاقهم. بل إن باب الشبهات الذي سبق الحديث عنه في المقدمة السابقة لا يدخل منه إلا بمفاتيح التأويل الفاسد والتحريف ولي أعناق الأدلة والنصوص.
خطر التأويل وما أحدثه في هذه الأمة من الفساد في الدين والدنيا
وأصل التأويل الفاسد مبني عند أهله على تقديس العقل وتقديمه على النقل، بحيث ما ظهر في عقولهم من النصوص متعارضة مع أفهامهم، فإن كان حديثا نبويا ردوه، ولو كان صحيحا بحجة أنه حديث آحاد، وإن كان من القرآن أولوه إلى ما يوافق عقولهم وأهواءهم، وزعموا أن الظاهر غير مراد.
ولبيان خطر التأويل وما أحدث في هذه الأمة من الفساد في الدين والدنيا على مدار التاريخ الإسلامي، أنقل ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه الجنايات والمفاسد التي نجمت بسبب فتح باب التأويل.
يقول: (إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف، وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتجارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين، حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضا، وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين، وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم، ما هو أعظم مما يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابذین لهم… ومن أعظم آفات التأويل وجنایاته أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام اجتثها وقلعها، فإن أصول الإيمان خمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر1(1) الوارد في حديث جبريل: أن أركان الإيمان ستة.. وسادسها: الإيمان بالقدر خيره وشره.، وأصول الإسلام خمسة وهي كلمة الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، فعمد أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل، وذلك أن معقد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر، فعمدوا إلى أجل الأخبار وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت کماله، فأخرجوه عن حقيقته وما وضع له…
من جنایات التأويل الباطل على الأديان والشرائع وخراب العالم
ومن جنایات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، بل في حياته – صلوات الله وسلامه عليه – فإن خالد بن الوليد قتل بني جذيمة بالتأويل، ولهذا برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنعه، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»2(2) البخاري (4084)، باب بعث النبي خالد.، ومنع الزكاة من منعها من العرب بعد موت رسول الله بالتأويل، وقالوا: إنما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) [التوبة:103]، وهذا لا يكون لغيره، فجرى بسبب هذا التأويل الباطل على الإسلام وأهله ما جرى ثم جرت الفتنة التي جرت قتل عثمان، بالتأويل، ولم يزل التأويل يأخذ مأخذه حتی قتل به عثمان فأخذ بالزيادة والتولد حتى قتل به بين علي ومعاوية بصفين سبعون ألفا أو أكثر من المسلمين، وقتل أهل الحرة بالتأويل وقتل يوم الجمل بالتأويل من قتل، ثم كان قتل ابن الزبير ونصب المنجنيق على البيت بالتأويل، ثم كانت فتنة ابن الأشعث وقتل من قتل من المسلمين بدير الجماجم بالتأويل، ثم كانت فتنة الخوارج وما لقي المسلمون من حروبهم وأذاهم بالتأويل، ثم خروج أبي مسلم وقتله بني أمية. وتلك الحروب العظام بالتأويل، ثم خروج العلويين وقتلهم وحبسهم ونفيهم بالتأويل إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا من حوادث الإسلام التي جرها التأويل …
وما ضرب مالك بالسياط وطيف به إلا بالتأويل، ولا ضرب الإمام أحمد بالسياط وطلب قتله إلا بالتأويل، ولا قتل أحمد بن نصر الخزاعي إلا بالتأويل، ولا جرى على نعیم بن حماد الخزاعي ما جرى وتوجع أهل الإسلام لمصابه إلا بالتأويل، ولا جرى على محمد بن إسماعيل البخاري ما جرى ونفي وأخرج من بلده إلا بالتأويل، ولا قتل من قتل من خلفاء الإسلام وملوكه إلا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام عبدالله أبي إسماعيل الأنصاري ما جرى وطلب قتله بضعة وعشرين مرة إلا بالتأويل، ولا جرى على أئمة السنة والحديث ما جرى حين حبسوا وشردوا وأخرجوا من ديارهم إلا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خصومه بالسجن وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلا بالتأويل.
فقاتل الله التأويل الباطل وأخذ حق دينه وكتابه ورسوله وأنصاره منهم، فماذا هدموا من معاقل الإسلام، وهدوا من أركانه، وقلعوا من قواعده، ولقد تركوه أرق من الثوب الخلق البالي الذي تطاولت عليه السنون، وتوالت عليه الأهوية والرياح، ولو بسطنا هذا الفصل وحده ما جناه التأويل على الأديان والشرائع وخراب العالم، لقام منه عدة أسفار، وإنما نبهنا تنبيها يعلم به العاقل ما وراءه، وبالله التوفيق)3(3) «الصواعق المرسلة» (1/365، 376) وما بعدها (باختصار) ..
هل التأويل مذموم بإطلاق؟
وقد يقول قائل: وهل التأويل مذموم بإطلاق؟ وهل جميع صوره مردودة وفاسدة؟ والجواب على هذا أن أغلب وأكثر صور التأويل فاسدة ومردودة، لأنها في حقيقتها تحريف للكلم عن مواضعه بلا دلیل من کتاب وسنة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (هذا التأويل في كثير من المواضع – أو أكثرها وعامتها- من باب تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأویلات القرامطة والباطنية، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورموا في أثرهم بالشهب، وقد صنف الإمام أحمد كتابا في الرد على هؤلاء وسماه: «الرد على الجهمية والزنادقة»4(4) «مجموع الفتاوى» (4/69) ..
استعمالات (التأويل) في الكتاب والسنة
أما التأويل المراد به في الكتاب والسنة فهو مشتق من معناه اللغوي الذي هو من قولك: آل الشيء يؤول ومآلا: رجع5(5) «لسان العرب» (1/130)..
ولذلك جاءت استعمالات (التأويل) في الكتاب والسنة على عدة معاني:
الأول: بمعنی التفسير، وقد استخدمه القدماء من علماء التفسير کابن جرير الطبري فإنه كثيرا ما يقول: وتأويل هذه الآية كذا أي تفسيرها. ذلك أن المفسر يراجع نفسه عند الشرح، ويبين معنى الآية وما تؤول إليه من المقاصد والمعاني، ومن ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»6(6) رواه أحمد في مسنده (2397) وقال الأرناؤط: إسناده قوي على شرط مسلم.
الثاني: ما يؤول إليه الأمر وما ورد في الكلام، وذلك مثل قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ..) الآية [الأعراف: 53]. أي هل ينظرون إلا تحقيق ما أخبر الله عنه من وقوع العذاب بهم يوم القيامة. عندئذ يقر الذين كذبوا به في الدنيا، ويقولون: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).
الثالث: تحقيق ما أمر الله عز وجل به، ومن ذلك ما صح في السنة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن»)7(7) البخاري تفسير سورة النصر (4684)، مسلم (484) . أي يحقق ما أمره الله به في كتابه وذلك بعد نزول سورة النصر، وفيها قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر:3].
هذه هي المعاني الشرعية للتأويل، وليس كما يفهمه أهل التحريف، ولكن قد يقال: إن بعض معاجم اللغة العربية وبعض كتب الأصول تذكر أن معنى التأويل: هو صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
أشار إلى ذلك ابن منظور وابن الأثير وغيرهما، فكيف تزعمون أن العرب لا تفقه من كلامها هذا المعنى.
والجواب: أن هذا المعنى دخل إلى معاجم اللغة العربية المتأخرة، نقلا عن استعمالات الفقهاء والأصوليين، لا نقلا عن كلام العرب الذي يحتج به، يدل على صحة هذا القول: إن معاجم اللغة العربية المتقدمة أمثال: «تهذيب اللغة» للأزهري، و«مقاييس اللغة» لابن فارس، وهما مما دون في القرن الرابع الهجري لم يشيرا إلى هذا المعنى، الذي ذكره الفقهاء والأصوليون، مما يدل على أنه معنی اصطلاحي خاص بهم، فلا يجوز حمل ألفاظ القرآن عليه.
وعلى فرض أن هذا التأويل في لغة العرب هو هذا المعنى الذي أورده الأصوليون، فإن المؤولين للنصوص لم يلتزموا بالشروط التي وضعها الأصوليون لجواز التأويل، ومن أهمها أن يكون معه دليل صحيح وصريح يوجب صرف اللفظ عن ظاهره، وأن يسلم هذا الدليل عن المعارض، فإذا قام دليل من القرآن والسنة الصحيحة على أن الحقيقة مراده امتنع ترکها8(8) انظر: «التأويل خطورته وآثاره» د. عمر الأشقر في موقع (شبكة الدفاع عن السنة)..
ولذلك فإن صنيعهم هذا لا ينفي عنهم التحريف لعدم توفر الشروط.
أسباب الوقوع في التأويل الفاسد
ومن أخطر ما يوقع بعض المتأولة في تأويلاتهم الفاسدة اعتمادهم على ما يسمى بتحقيق المصالح ودفع المفاسد، فيعارضون بهذه القواعد نصوص الكتاب والسنة، وينزلونها بتأويلهم الفاسد على وقائع وحوادث بأهوائهم، دون اعتبار لقواعد الترجيح ودون النظر في فقه الموازنات، وهذا يكثر في المظالم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم، كما هو الحال عند أرباب السياسة الذين يقدمون السياسة على الشرع عند التعارض، وذلك كما قدم أهل الكلام عقولهم وأهواءهم على نصوص الكتاب والسنة.
إذا تبين فساد التأويل وجنایته على الدين والنفوس والأموال والعقول والأعراض، فلماذا وقع فيه من وقع من بعض أهل العلم أو بعض الولاة، وما الذي سهل على النفوس قبوله مع مخالفته للبيان والعقل والفطرة والنقل؟
يذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أسبابا لقبوله قد وضعها أرباب التأويل الفاسد ومهدوا له بذلك، فمن هذه الأسباب التي ذكرها:
السبب الأول: أن يأتوا بالتأويل مزخرف الألفاظ ملفق المعاني
أن يأتي به صاحبه مموه مزخرف الألفاظ ملفق المعاني مكسوا حلة الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه، وتبادر إلى اعتقاده وتقليده، ويكون حاله في ذلك حال من يعرض سلعة مموهة مغشوشة على من لا بصيرة له بباطنها وحقيقتها، فيحسنها في عينه ويحببها إلى نفسه، وهذا الذي يعتمده كل من أراد ترویج باطل، فإنه لا يتم له ذلك إلا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهل بحقيقته. قال الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:112]، فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما یزخرفه بعضهم لبعض من القول، فيغتر به الأغيار وضعفاء العقول، فذكر السبب الفاعل والقابل، ثم ذكر سبحانه انفعال هذه النفوس الجاهلة به بصغرها وميلها إليه ورضاها به، لما كسي من الزخرف الذي يغر السامع، فلما أصغت إليه ورضيته اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولا وعملا، فتأمل هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدر الذي فيه بيان أصول الباطل والتنبيه على مواقع الحذر منها وعدم الاغترار بها، وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات و تخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة، وأكثر الخلق كذلك.
السبب الثاني: أن يضعوا للمعاني الصحيحة الثابتة ألفاظ مستنكرة شنيعة
أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولا إلى القلوب وأشدها نفرة عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ فيسمى التدين ثقالة، وعدم الانبساط إلى السفهاء والفساق والبطالين سوء خلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله والحمية لدينه فتنة وشرا و فضولا، فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل، فيسمون إثبات صفات الكمال لله تجسيما وتشبيها وتمثيلا، ويسمون إثبات الوجه واليدين له ترکيبا، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه فوق سمواته تحيزا وتجسيما، ويسمون العرش حيزا وجهة، ويسمون الصفات أعراض، والأفعال حوادث، والوجه واليدين أبعاضا، والحكم والغايات التي يفعل لأجلها أغراضا. فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكرة الشنيعة، تم لهم من نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغيار والأغفال : اعلموا أن ربکم منزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه، فلم يشك أحد لله في قلبه وقار وعظمة في تنزيه الرب تعالى عن ذلك… فلما صرحوا لهم بنفي ذلك: بقي السامع متحيرا أعظم حيرة بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم، وبين إثباتها وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم، فمن الناس من فر إلى التخييل، ومنهم من فر إلى التعطيل، ومنهم من فر إلى التجهيل، ومنهم من فر إلى التمثيل، ومنهم من فر إلى الله ورسوله، وكشف زيف هذه الألفاظ وبين زخرفها وزغلها، وأنها ألفاظ مموهة بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل ولكن الطعام مسموم، فقالوا ما قاله إمام أهل السنة باتفاق أهل السنة أحمد بن حنبل: لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين. ولما أراد المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض، اخترعوا لأهل السنة الألقاب القبيحة، فسموهم حشوية ونوابت ونواصب و مجبرة ومجسمة ومشبهة ونحو ذلك، فتولد من تسميتهم لصفات الرب تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب لعنة أهل الإثبات والسنة وتبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم، ولقوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم، وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومن عليها9(9) ما أشبه الليلة بالبارحة، فهاهم سلف هؤلاء المبتدعة في واقعنا المعاصر من ليبراليين وعلمانيين ومرجئة وصوفية يرمون الدعاة والمجاهدين من أهل السنة بالمتحجرین والظلاميين والإرهابيين ودعاة فتنة وخوارج..
السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق
أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جلیل القدر نبیه الذكر من العقلاء، أو من آل البيت النبوي، أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق؛ ليحليه بذلك في قلوب الأغيار والجهال، فإن من شأن الناس تعظیم کلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله، ويقولون هو أعلم بالله ورسوله منا.. وهذا ميراث بالتعصب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، فإنهم لحسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل، وكانوا أعظم في صدورهم من أن يخالفوهم، ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأنهم كانوا على الباطل، وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة.
السبب الرابع: أن يقبل التأويل من برز ذكره في الناس في بعض العلوم والمعارف
أن يكون ذلك التأويل قد قبله ورضيه مبرز في صناعة من الصناعات أو علم من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برز به ذكر في الناس ويشتهر له به صیت، فإذا سمع الغمر الجاهل بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسن الظن به، وارتضاه مذهبا لنفسه، ورضي من قبله إماما له، وقال: إنه لم يكن ليختار مع جودة قريحته وذكائه وصحة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه، إلا الأصوب والأفضل من الاعتقادات والأرشد والأمثل من التأويلات وأين يقع اختياري من اختياره، فرضيت لنفسي ما رضيه لنفسه، فإن عقله وذهنه وقريحته إنما تدله على الصواب، کما دلته على ما خفي عن غيره من صناعته وعلمه.
وهذه الآفة قد هلك بها أمم لا يحصيهم إلا الله، رأوا الفلاسفة قد برزوا في العلوم الرياضية والطبية، واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه، فقالوا: للعلوم الإلهية والمعارف الربانية أسوة بذلك… وما عرف أصحاب هذه الشبهة أن الله سبحانه قد يعطي أجهل الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحذق في العلوم الرياضية والصنائع العجيبة ما تعجز عنه عقول أعلم الناس به ومعارفهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بدنياكم»10(10) مسلم بلفظ: «أنتم أعلم بأمور دنیاکم» (2363)..
السبب الخامس: أن يختاروا للمعاني الغريبة ألفاظا أغرب منها
الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفة به من المعاني الغريبة، التي إذا ظفر الذهن بإدراكها ناله لذة من جنس لذة الظفر بالصيد الوحشي الذي لم يكن يطمع فيه، وهذا شأن النفوس فإنها موكلة بكل غریب تستحسنه وتؤثره وتنافس فيه.. ثم اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظا أغرب منها، وألقوها في مسامع الناس، وقالوا: إن المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها، فتحركت النفوس لطلب فهم تلك الألفاظ الغريبة، وإدراك تلك المعاني. واتفق أن صادفت قلوبا خاوية من حقائق الإيمان وما بعث الله به رسوله، فتمكنت منها فعز على أطباء الأديان استنقاذها منها، وقد تحكمت فيها..
السبب السادس: تقديم مقدمات قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه
تقديم مقدمات قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه، فمنها: ذم أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم، وأنهم قوم جهال، لا عقول لهم، وإنما هم أصحاب ظواهر سمعية، وينقلون من مثالبهم وبلههم ما بعضه صدق وأكثره كذب.
ومنها: قولهم: إن الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذب وأوفق وألطف، وقد قال بعض أئمة النحاة: أكثر اللغة مجاز، فإذا كان أكثر اللغة مجازا سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقل ما شئت، وأول ما شئت، وأنزل عن الحقيقة ولا يضرك أي مجاز ركبته.
ومنها: قولهم: إن أدلة القرآن والسنة أدلة لفظية، وهي لا تفيد علما ولا يقينا، والعلم إنما يستفاد من أدلة المعقول وقواعد المنطق.
ومنها: قولهم: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل على النقل، فهذه المقدمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمت هذه الأسباب بعضها إلى بعض، وتقاربت فيا محنة القرآن والسنة، وقد سلكا في قلوب قد تمكنت منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال)11(11) «الصواعق المرسلة» (2/ 436-451) (باختصار)..
الأسباب التي ساعدت على انتشار التأويل
وبعد أن بين الإمام ابن القيم رحمه الله هذه الأسباب التي أدت إلى الوقوع في التأويل، ذكر الأسباب الجالبة له التي ساعدت على انتشاره، فقال:
(وهي أربعة أسباب: اثنان من المتكلم، واثنان من السامع فالسببان اللذان من المتكلم – إما من نقصان بيانه، وإما سوء قصده.
واللذان من السامع: – إما سوء فهمه، وإما سوء قصده .
فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة انتفى التأويل الباطل، وإذا وجدت أو بعضها وقع التأويل.. فإذا كان المتكلم قد وفي البيان حقه، وقصد إفهام المخاطب وإيضاح المعنى له وإحضاره في ذهنه، فوافق من المخاطب معرفة بلغة المتكلم وعرفه المطرد في خطابه، وعلم من كمال نصحه أنه لا يقصد بخطابه التعمية والإلغاز، لم يخف عليه معنی کلامه، ولم يقع في قلبه شك في معرفة مراده.
وإن كان المتكلم قد قصر في بيانه وخاطب السامع بألفاظ مجملة تحتمل عدة معان، ولم يتبين له ما أراده منها، فإن كان عاجزا أتي السامع من عجزه لا من قصده، وإن كان قادرا عليه ولم يفعله حيث ينبغي فعله أتي السامع من سوء قصده ..
ولهذا كان ما فهمه الصحابة من القرآن أولى أن يصار إليه، مما فهمه من بعدهم، فانضاف حسن قصدهم إلى حسن فهمهم، فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الآخر، ولا يحفظ عنهم في ذلك خلاف لا مشهور ولا شاذ، فلما حدث بعد انقضاء عصرهم من ساء فهمه وساء قصده، وقعوا في أنواع من التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد، وقد يجتمعان وقد ينفردان، وإذا اجتمعا تولد من بينهما جهل بالحق ومعاداة لأهله واستحلال ما حرم الله منهم.
وإذا تأملت أصول المذاهب الفاسدة رأيت أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلين، وحملهم عليها منافسة في رياسة أو مال أو توصل إلى عرض من أعراض الدنيا تخطبه الآمال وتتبعه الهمم وتشرئب إليه النفوس، فيتفق للعبد شبهة وشهوة، وهما أصل كل فساد ومنشأ كل تأويل باطل، وقد ذم الله -سبحانه- من اتبع الظن وما تهوى الأنفس، فالظن الشبهات، وما تهوى الأنفس الشهوات)12(12) الصواعق المرسلة (2/ 500-510) (باختصار)..
الهوامش
(1) الوارد في حديث جبريل: أن أركان الإيمان ستة.. وسادسها: الإيمان بالقدر خيره وشره.
(2) البخاري (4084)، باب بعث النبي خالد.
(3) «الصواعق المرسلة» (1/365، 376) وما بعدها (باختصار) .
(4) «مجموع الفتاوى» (4/69) .
(5) «لسان العرب» (1/130).
(6) رواه أحمد في مسنده (2397) وقال الأرناؤط: إسناده قوي على شرط مسلم
(7) البخاري تفسير سورة النصر (4684)، مسلم (484) .
(8) انظر: «التأويل خطورته وآثاره» د. عمر الأشقر في موقع (شبكة الدفاع عن السنة).
(9) ما أشبه الليلة بالبارحة، فهاهم سلف هؤلاء المبتدعة في واقعنا المعاصر من ليبراليين وعلمانيين ومرجئة وصوفية يرمون الدعاة والمجاهدين من أهل السنة بالمتحجرین والظلاميين والإرهابيين ودعاة فتنة وخوارج.
(10) مسلم بلفظ: «أنتم أعلم بأمور دنیاکم» (2363).
(11) «الصواعق المرسلة» (2/ 436-451) (باختصار).
(12) الصواعق المرسلة (2/ 500-510) (باختصار).
اقرأ أيضا
من وسائل الغزاة في بث شبهاتهم وأباطيلهم
فتنة الشبهات: خطرها والتحذير منها
أسباب اختلال فقه النوازل (3-4)