الغيبة علامة على الفراغ من الاهتمامات والعمل الجاد، وهي تعدٍّ على حقوق الأخوّة بين المسلمين، وهي تفريط في الحسنات، ومن شيم غير المسلمين.
مقدمة
في واقعنا المعاصر تجد محترفي امتلاك نواصي الطرق وأحاديثها، حتى وهُم في بيوتهم لا اهتمام لهم ولا شغل.. كالضباع تبحث عن جثث ميتة لإخوانهم فيقعون في لحومهم وأعراضهم؛ يتمنون أن يسقط أحد فيظفرون به ينهشونه؛ يشتهون الوقوع على عورة المسلم .. هؤلاء هم المغتابون.
فرغوا من أي اهتمام كبير أو هدف ذي شأن أو نصرةٍ لدينهم، سلم منهم اليهود وسلم منهم الصليبيون وسلم منهم الإباحيون؛ ولم يسلم منهم إخوانهم..! يجد أحدهم شهوة في لوْك سيرة أخيه وعرضه. والتعريض أو التصريح بعيبه شهوة لا يقاومها تُقضي فيها ساعات طويلة. بينما يكفي منها دقيقة وأقل ليأثم!.
لو قضى وقته لإصلاح عيبه لشُغل ولم يجد وقتًا ولم يكفه عمره، ولو شغله نصرة هذا الدين لاحتاج أعمارًا إلى عمره، ولزكت نفسه ونفعها، ولو تعلّم خيرًا وتفكرّ فيه لرأى الأمور في الدنيا والآخرة على ما هي عليه ورأى حقيقتها وانتفع بعقله: ﴿كذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [البقرة: 219 – 220]، يعني: زوال هذه وبقاء تلك.. ولعلم حقائق من الهدى كنوزًا يجتنيها.
المداواة في كتاب الله
عالَج كتاب الله تعالى هذا الداء حفظا للأعراض وصَوْنا للمسلم أن يتخلّق بما يشينه، وفي كتاب الله مآخذ نذكر منها ما وصف به هذا الخلق.
صورة منفّرة
فلمن يجد في نفسه شهوة لهذا، وعلم شيئًا من هذا عن نفسه ـ ولا يقُل أحد ليس بي شيء من هذا؛ فمن يكذب على نفسه لن ينتفع ولن يزكو، وسيبقى مرضه معه بين جنبيه يدخل به قبره فيهلك؛ فمن يخادع لن يخدع إلا نفسه ولن يضر سواها.
أما من صدق مع نفسه وكان واضحًا معها مريدًا لتزكية نفسه؛ فلينظر .. فإن كان به شيء من هذا أو ميل له فهذا علاجه: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
يقول ابن القيم رحمه الله:
“وهذا من أحسن القياس التمثيلي؛ فإنه شبَّه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه، ولما كان المغتاب يمزّق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة “روحه” عنه بالموت، ولما كان المغتاب عاجزًا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبًا عن ذمّه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلّق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن؛ كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه، والأخوّة تقتضي حفظه وصيانته والذبّ عنه.
ولما كـان المغتاب متمتعًا بعرض أخيه متفكّها بغيبته وذمّه متحلّيًا بذلك؛ شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه.
ولما كان المغتاب محبًا لذلك معجبًا به شبه بمن يحب أن يأكل لحم أخيه ميتًا، ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحُسْن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس، وتأمّل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتًا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم؛ فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟
فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشَبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه، فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه”. (1إعلام الموقعين، جـ 1، ص 170)
ولا يخفى حُسن هذا الكلام والتفسير الموفق.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
“﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾، ثم يعرض مشهدًا تتأذّى له أشد النفوس كثافة وأقلّ الأرواح حساسية؛ مشهد الأخ يأكل لحم أخيه.. ميتًا..! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!
ثم يعقّب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظنٍ وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئًا أن يبادر بالتوبة تطلعًا للرحمة: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.
ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول “كرامة الناس”، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب. ويتشدد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متمشيًا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض.
في حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله, ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».(2رواه أبو داوود والترمذي وصححه)
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: «حسبك من صفية كذا وكذا». قال غير مسدد: تعني قصيرة. فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته». قالت: وحكيت له إنسانًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا». (3رواه أبو داوود)
وعن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. قلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. (4أبو داوود) (5سيد قطب، في ظلال القرآن)
شيم الكفار لا تليق بالمؤمن
وثمة مأخذ آخر أن جعل الله الغيبة والطعن في الناس من شيم الكفار لا تليق بمؤمن: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾، يقول ابن كثير رحمه الله:
“الهَمّاز: بالقول، واللَمّاز بالفعل؛ يعني: يزدري الناس وينتقص بهم، وقد تقدم بيان ذلك في قوله تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾ قال ابن عباس: همزة لمزة: طعان معياب، وقال الربيع بن أنس: الهمزة يهمزه في وجهه، واللمزة من خلفه.
وقال قتادة: الهمزة واللمزة لسانه وعينه، ويأكل لحوم الناس ويطعن عليهم.
وقال مجاهد: الهمزة باليدين والعين واللمزة باللسان ـ وهكذا قال ابن زيد ـ وقال مالك عن زيد بن أسلم: همزة لحوم الناس”. (6تفسير ابن كثير، جـ 4، ص 709)
فعندما يقرن الله تعالى خُلُقًا بالشرك فإيمان المؤمن يدفعه لكراهته، ويأبى أن يقترن به.
خاتمة
جاء الاسلام بأخلاق حسان، بل بمجامع الحُسن، وجعلها تعالى علامة على “عباد الرحمن” وعلى “أولي الألباب” الذين آمنوا واتقوا؛ فمن أراد معرفتهم فالأخلاق الحسان علامة تدلّ عليهم.
وجعل تعالى أخلاق السوء علامة على الفُجار والمعتقدات المنحرفة، فمن أراد أن يعْرفهم وجد أخلاقهم معرّفة بهم.
اسلك أيَّ المسالك التي عرضها ربك في كتابه وأشار اليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ لكي تداوي داءك إن وقعت فيه، واترك صفات السوء ولا تنفق عمرك فيما يضرك؛ فقد يجد بعض الناس جبالا من الحسنات يأخذونها من غيرهم ممن اغتابوهم قصاصا للحقوق؛ روى ابن أبي الدنيا أثرا أنه يقال للعبد يوم القيامة «قم خذ حقك من فلان، فيقول ما أعلم أن لي عنده حقا، فيقال له: بلى قد قال فيك كذا وكذا يوم كذا، فيأخذ من حسناته».
………………………………………..
الهوامش:
- إعلام الموقعين، جـ 1، ص 170.
- رواه أبو داوود والترمذي وصححه.
- رواه أبو داوود.
- أبو داوود.
- سيد قطب، في ظلال القرآن.
- تفسير ابن كثير، جـ 4، ص 709.