إقامة الشريعة وتحكيمها أمر بدهي للمؤمن، منذ المسلمين الأوائل، وأي اعتقاد بخصوصية الشريعة بالعرب أو بزمن معين؛ لا يعتقده مسلم جاد الإيمان.
بداهة القضية
فهم المسلمون الأوائل من التشريع الإِلهي أنه المصدر الدائم للحياة. وأنه لا مصدر سواه ـ ولا يمكن أن يكون مصدر سواه ـ لتنظيم الحياة البشرية على الأرض.
وكان هذا بديهية من بديهيات الإيمان الجاد بالله؛ وإلا فما معنى هذا الإيمان ـ حين يكون جاداً ومستقراً في أعماق النفس ـ إذا لم يكن معناه التصديق بما يقوله الله للناس في كتابه، من أنه ـ سبحانه ـ أراد لهم الخير بما شرع لهم، وأنه ألزمهم إلزاماً جاداً بتنفيذ ما شرع لهم، وأنه يعتبرهم كافرين وظالمين وفاسقين إذا لم يحكموا بما أنزل الله..؟!
وما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا لم يصدق المسلم ما يقوله الله في كتابه من أن كل شرع غير شرع الله هو “هوى” لطائفة من البشر، منحرف عن الحق، وأن شرع الله وحده هو الحق، لأنه صادر عن الحق الذي لا يظلم ولا يتبع الأهواء..؟
وما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا دار في خَلَد المسلم أن علم الله محدود، وأن علم البشر وتجربتهم أفضل من علم الله وأصدق، وأولى بالاتباع..؟!
ظن خصوصية الشريعة بالعرب
ما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا دار في خَلَد المسلم أن هذا التشريع المفصَّل كله، الموصول بناموس الكون وقوانين الوجود؛ قد كان من أجل تلك الحفنة من العرب في شبه الجزيرة، وفي فترة محدودة من حياتهم، هي الفترة القصيرة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم بيـن ظهرانيهـم، والله سبحانـه وتعالى يقـول له فـي كتابـه إن هذا الدين للناس جميعاً: “للعالمين”: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌلِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف:104) ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:13).
وإن القرآن ـ بكل ما يحوي من تشريعات وتوجيهات ـ هو الحق: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء:105).
وهذا الحق موصول بناموس الوجود الأكبر: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (الجاثية:22).
فهذا التشريع الحق، الذي بمقتضاه تُجزى كل نفس بما كسبت، هو من نفس الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض، وليس إذن حقاً جزئيا من أجل تلك الحفنة من العرب في شبه الجزيرة، ولا موقوتاً بالفترة المحدودة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، والله يقول للبشرية كافة ـ للعالمين ـ في آخر ما نـزل من القرآن: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة:3).
ما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا دار في خَلَد المسلم شيء من ذلك كله، أو ارتاب في “الحق” الذي يحمله هذا الدين، بكل ما فيه من تشريع وتوجيه؟
إنه تناقض مع حقيقة الإِيمان بالله .. لا يقْدُم عليه مسلم صحيح الإيمان صحيح التفكير.
مرارة التجارب البشرية بعيدا عن الوحي
وقد مرّت أربعة عشر قرناً منذ نزل هذا التشريع، ومرّت بالبشرية في أقطار الأرض تجاربٌ شتى، وتفلسف الناس وتعلموا، ودرسوا في العلوم السياسية ما درسوا، فإذا الخلاصة التي انتهوا إليها من هذا العلم كله أن كل تشريع أرضي هو تعبير عن “الطبقة” التي تملك وتحكم، وأنه يمثّل مصالحها هي على حساب بقية الطبقات.
فالإِقطاع مرة يحكم؛ فيشرع لحساب طبقة الإقطاعيين ولحماية مصالحهم على حساب بقية “الشعب”. ورأس المال مرة يحكم؛ فيشرع لحساب طبقة الرأسماليين ولحماية مصالحهم على حساب العمال. ودكتاتورية “البروليتاريا” مرة تحكم؛ فتشرّع لحساب طبقة العمال (نظرياً على الأقل) على حساب بقية الآدميين .. ولم يحدث غير ذلك في التاريخ.
وهذا هو الذي قرّره الله في كتابه؛ من أن كل شرْع غير شرع الله “هوى” يميل مع أصحابه حيث يميلون.
ثم .. لقد مرّت أربعة عشر قرناً منذ نزل هذا التشريع، ومرّت بالبشرية في أقطار الأرض تجاربٌ شتى، فإذا هذه التجارب ذاتها تثبت أن كل ما انحرف به الناس عن شريعة الله قد سبّب لهم شقوة مريرة لا تكاد تُطاق، وهدد أمنهم وراحتهم، ومزّقهم شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض، فضلا عن الشقاء العالمي الشامل الذي أنتج في التاريخ المعاصر حربين متتاليتين في ربع قرن، والثالثة على الأبواب تهدِّد بأفظع دمار عرفه التاريخ.
وفضلا عن تفتت الأسرة وتحلل الأخلاق وتمزق أعصاب الفرد بين شتى الاتجاهات، مما تشهد به أمراض الجنون والاضطرابات النفسية والعصبية وضغط الدم وحوادث الانتحار التي شهدت منها البشرية في هذا الجيل ما لم تشهده مجتمعاً في أجيال..!
خاتمة
ترتبط إقامة الشريعة بمعرفة الله تعالى والخضوع له.
أما معرفته فمنها معرفة كمال علمه؛ بما يتضمن علمه بتفاصيل ومختلف احتياجات الخلق، وعلمه بتطور الزمان واختلاف الاحتياجات.
وكمال عدله تعالى؛ فيُجري الأمور بشريعته على استقامة واطّراد فيأخذ كل ذي حق حقه.
وكمال رحمته تعالى؛ بما يعني من دلالة ما شرعه من عقوبات زاجرة أنها تتضمن رحمته تعالى بخلقه ومنْع ما يفسد على الناس أديانهم وابدانهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم، وما يتضمن أيضا من رحمته تعالى بالجناة ليكفوا عن جرائمهم وحملهم للأوزار، وبما يتضمن من تخفيف عقوبات الآخرة بعقوبات الدنيا.
وكمال حكمته تعالى فيضع كل شيء في موضعه اللائق به، وإن بدا بقاصر النظر لبعض الناظرين الجهال المتعاجبين بعلومهم السطحية أن الأمور غير ذلك؛ فمن قديم والمنافقون يوردون على شريعة الله ما تمليه عقولهم السمجة ويُظهر تعالى الحق على ألْسنة العلماء ثم على صفحات الواقع.
إنها شريعة الله، مأخذ الدينونة لله، وباب التعبد ومظهر الخضوع له، وعنوان السعادة للمسلم ومناط فلاح المجتمع.. لو عاد الى ربه تعالى واستظل بظل شريعته السمحة.
المصدر:
- كتاب: “هل نحن مسلمون”، محمد قطب.