إن هذا الكون لا تضاد فيه ولا تناقض بل هو صنعة محكمة مبدعة وهذا هو الإعجاز الذي يقابله إعجاز تشريعي حيث أنزل الله شريعته لا تضاد فيها ولا تناقض ولا اضطراب، بل هي قول محكم.

أبرز ملامح الشبه بين الإعجاز التشريعي والإعجاز الكوني

لا عجب أن تتماثل خيوط الإعجاز التشريعي، والإعجاز الكوني، فالله هو صاحب الخلق والأمر، وإن من أبرز ملامح هذه المشاكله ما يلي:

1- الكون والشريعة أودعهما الله ما يصلح به حياة الإنسان

الكون خلقه الله وقدر فيه طاقاته، فبقدر ما يتعامل الإنسان معها بقدر ما يستخرج منها، فالماء طاقة مقدرة في الأرض إذا استخرجها الإنسان فإنما استخرج طاقة كامنة يسر الله له استخراجها ولكنها ليست خلقاً جديداً مستأنفاً في الأرض (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ، وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ) [فصلت: 9-10] .

وفي هذه الآية دلالة على أن الله جعل في هذه الأرض جميع ما تحتاجه البشرية من الطاقات، وكل جيل يستخرج منها ما يطيق حسب قدراته ونشاطه ومبلغه من العلم، وكذلك هذه الشريعة، جاءت نصوص الوحي بها متضمنة معاني لا حصر لها، فقد جعلها الله شاملة لما يشاء أن يعلمه للبشر في جميع أجياله، وكل جيل يعلم منها ما يحتاج إليه في جميع شئونه، فيستخرج منهاجاً يحكم حياته كلها، فيحفظ له هذا المنهج عقيدة صحيحة – فيسلم من التخلف العقيدي وهو الارتكاس إلى الجاهلية البشرية – ويحفظ حياته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فتتحقق حينئذ العبادة في هذه الأرض وهي المهمة التي خلق الله الإنسان من أجلها.

يأتي كل جيل ليرتبط بهذه الشريعة، ويجد علماؤه فيها كل ما يحتاجه في تلك الأمور – وليس شيئاً من ذلك قد أنزل إنزالاً جيداً مستأنفاً، كلا، وإنما هو متضمن في هذه الشريعة، تماماً كما هو الشأن في هذا الكون فيقف كل جيل ليجد ما يحتاجه من الطاقات في هذا الكون مدخراً له، ويجد المنهج الصحيح الذي يحكم له جزئيات حياته مدخراً له في هذه الشريعة فيعلم أن له رباً خلق له كوناً يعيش فيه ليستخرج طاقاته، وإلهاً أنزل له شريعة ليستخرج منها ما يبصره بالمنهج الصحيح، وهذه أول ملامح تلك المشاكلة بين الإعجاز الكوني والإعجاز التشريعي.

2- الثبات هو من أهم معالم الإعجاز التشريعي والإعجاز الكوني

إن هذا الكون لا تضاد فيه ولا تناقض بل هو صنعة محكمة مبدعة وهذا هو الإعجاز الذي يقابله إعجاز تشريعي حيث أنزل الله شريعته لا تضاد فيها ولا تناقض ولا اضطراب، بل هي قول محكم.

وملامح هذه المشاكلة تظهر في مثل قوله تعالى عن بيان امتناع هذا الكون عن الفساد والاضطراب: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22] .

نعم لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لاقتضى ذلك أن تتعد الإرادات في تدبير هذا الكون، فهذا يسير القمر إلى جهة، وآخر يأمره بضدها، وهذا يريد الشمس جارية، وذاك يريدها ساكنة، وحينئذ يقع الفساد، فلا يمكن أن تتعدد الآلهة – وكل إله يستحق الألوهية – كلا لو كان كذلك لفسدت السموات والأرض.

وشريعة الله التي هي كلامه المعجز ووحيه إلى نبيه لا يمكن أن تتعارض ولذلك قال تعالى: (ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82] .

نعم لو كان القرآن من عند غير الله لوجدنا فيه ذلك الاختلاف، فلما لم نجد قطعنا حينئذ أنه من عند الله، مثل سلامة الكون من الفساد دلنا ذلك على أنه من خلق الله، وهذا وذاك هو سند الثبات في هذا الكون وفي هذه الشريعة إلى أن تقوم الساعة فيقدر الله حينئذ ما يشاء، والثبات هو من أهم معالم الإعجاز التشريعي والإعجاز الكوني.

3 – سمة التجدد والعطاء في الكون والشريعة سواء

من مظاهر الإعجاز في الكون أنك تجده متجدداً معطاء بفضل من الله، والإنسان يستثمر ذلك العطاء، وكلما اتجه الإنسان إلى الاستثمار الصحيح وجد خيراً كثيراً بإذن الله، وفي هذا الكون طاقات كلية ثابتة يستخرج منها الإنسان – عن طريق الاستثمار الصحيح – طاقات جزئية لا حصر لها، ولذلك يختلف البشر في إمكان – الحصول على ذلك ما بين مستكثر ومستقل، وقد حمل الله الإنسان هذا الجهد ليكابد الحياة ويعمل ويعمر الأرض فتتحقق العبادة بإقامة الخلافة فيها.

والإنسان في كل ذلك ليس خالقاً ولا منشئاً حتى وإن اكتشف، لأن أصل الخلقة لله سواء في الكون أو الإنسان، وجهد الإنسان إنما هو اكتشاف لما يسره الله له حسب السنن الربانية.

وكذلك هذه الشريعة – التي هي وحي من الله – جعلها سبحانه متضمنة لكليات تشريعية تحفها جزئيات تشريعية كذلك، ثم كلف الأمة المتبعة لهذه الشريعة أن تجهد جهدها في إقامة فرض الكفاية وهو التعلم، وتهيئة طائفة منها لتقوم بمهمة التعليم والاجتهاد وذلك كله فرض كفاية، وعلى الأمة العمل لإقامته، وهؤلاء المجتهدون يستثمرون تلك الكليات التشريعية، وقد علموا منها ومن تلك الجزئيات كيف يتم الاستثمار وتتحقق مقاصد الشريعة، وحينئذ يتحقق لكل جيل عن طريق – المجتهدين- الحكم في مسائل لا يمكن حصرها البتة، وهذا هو غاية الاستثمار للكليات التشريعية1(1) نتحدث هنا عن الوضع السوي الذي خلق الله الإنسان له، وإلا فإن هناك أجيالاً تنحرف عن مقصد الإعجازين الكوني والتشريعي فلا هي استثمرت طاقات الكون، ولا هي اتبعت الشريعة، وهذه الحالة السيئة مرت بأجيال كثيرة جداً من أجيال البشرية.، وهذا الاستثمار اكتشاف لحكم الله، وليس إنشاء ولا تشريعاً تماماً كما تبين لنا في الإعجاز الكوني، ذلك أن الله وحده هو الخالق والمشرع والآمر سبحانه لا إله إلا هو.

4 – الكون والشريعة كمثل شجرة واحد تتفرع عن أصلها فروع كثيرة جداً

من مظاهر الإعجاز الكوني أنك تجد شجرة واحدة – وهي آية من آيات الله – تتفرع عن أصلها فروع كثيرة جداً، وتجد أيضاً أنواعاً كثيرة من المخلوقات – كالهواء والبذر والتربة.. – تجتمع لتخرج – بإذن الله – الزرع بجميع أجناسه، الذي يصلح لسد كثير من حاجات الإنسان.

وإنك لتجد هذه الملامح في الإعجاز التشريعي:

فمثلاً إذا تأملت في العموم اللفظي وجدته كأصل الشجرة الواحدة تقوم عليها تلك الفروع الكثيرة، فاللفظ العام يشتمل في دلالته على فروع كثيرة، أصله لفظ واحد وفروعه لا تنحصر.

وإذا نظرت في مثال آخر وهو العموم المعنوي وجدت جزئيات من الشريعة قد اجتمعت من كل مكان على معنى واحد، فأصبح هذا المعنى جنساً ينتج لنا أحكاماً خاصة بمسائل كثيرة بل يصبح مثل العموم اللفظي، فهناك لفظ عام تبنى عليه فروع شتى، وهنا جزئيات كثيرة يخرج منها أصل واحد يحكم به على جزئيات لا تنحصر، فهل رأيت مثل هذا الإعجاز، شجرة واحدة في الأصل تنمو فروعها وتتكاثر، وجزئيات متناثرة- من تراب وماء وهواء وبذور- تجتمع لتخرج بإذن الله شجرة ذات فروع كثيرة، عمومات لفظية – هي عمدة الشريعة – يتفرع عن كل واحد منها فروع لا تنحصر، وجزئيات كثيرة يتفرع عنها فروع كثيرة جداً تشابهها في الحكم -عن طريق القياس الشرعي- وهذه الجزئيات تجتمع مرة أخرى لتنتج العموم المعنوي فيحكم به على فروع لا تنحصر. هكذا في دورة تشريعية معجزة لا أجد لها شبيهاً إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك أبصرتها تنطلق في دورة جديدة تبدد تلك الشكوك، هذه دورة الإعجاز الكوني الذي يقول الله عنها متحدياً البشر في جميع العصور: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [لقمان: 11] .

وهذه هي دورة الإعجاز التشريعي الذي يقول الله عنها متحدياً كذلك: (قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [الكهف: 109] .

أقول – والله أعلم بمراده – إن هذه الشريعة وهي كلام الله لا تنفد أبداً – مهما قدر الله أن يخلق من الأجيال على هذه الأرض وسيجد فيها كل جيل ما يحتاجه يستنبطه منها علماؤه – فلا تنفد أبداً، بل ينفد البحر دون أن ينفد منها شيء.

الهوامش

(1) نتحدث هنا عن الوضع السوي الذي خلق الله الإنسان له، وإلا فإن هناك أجيالاً تنحرف عن مقصد الإعجازين الكوني والتشريعي فلا هي استثمرت طاقات الكون، ولا هي اتبعت الشريعة، وهذه الحالة السيئة مرت بأجيال كثيرة جداً من أجيال البشرية.

المصدر

مجلة البيان العدد:26، د. عابد السفياني.

اقرأ أيضا

القرآن والوجدان .. آيات فى الكون

الخطاب القرآني .. والدليل العقلى

خاصية الشمول في الشريعة الإسلامية

يؤمنون بالشريعة .. إلا قليلاً !

التعليقات غير متاحة