من تشريع الإخاء إلى حفظ الضروريات: منهج متكامل
القرآن الكريم في تشريع الإخاء رد الأفراد إلى الأصل، فإذا كنت أنا أخاك وأنت أخي، إذاً أنا وأنت من أصل واحد، يبقى النتيجة أن نتآخى أو نتعادى، ثم جاء إلى هذا الأصل وأبعد عنه عوامل تقطيعه، ومن جانب آخر سلط عليه روافد تغذيه.
وأنتم تعلمون في زراعة الشجرة أنه توضع بذرة صغيرة، ثم إنك تراقبها دائماً، وتنظر إليها إذا نبت نبات آخر فتأخذه، وإذا كان هناك حشرة حولها تقتلها، ودائماً تتعاهدها بالماء لماذا؟ تحافظ عليها مما يضرها، وتمدها بما ينميها، وهكذا كل مشروعٍ في العالم.
فهذه الشجرة شجرة الإخاء وجدنا القرآن الكريم يحوطها بسياج الحفاظ عليها، ويمدها بأنواع الغذاء الذي ينميها، ويحوطها مما يضرها، انظر إلى ألواح العداوة فيه كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فحرّم الإسلام على المسلم دم أخيه وعرضه وماله، يعني: سدّ عليه أبواب النزاع؛ لأن النفوس لا تتشاح إلا في واحدة من هذه الثلاث.
الضروريات الخمس: السياج الواقي للمجتمع
بل كما قيل: الضروريات الخمس، حفظ المال وجعل فيه حد القطع، وحفظ الأنساب وجعل فيه حد الرجم والجلد، وحفظ الأعراض وجعل فيه حد القذف، وحفظ الدماء وجعل فيه القصاص، وحفظ العقول فشرع حد الخمر، وحفظ الدين وجعل فيه القتل للردة.
فحفظ على المسلمين كل ما به قوام وجودهم، فإذا حفظ عليهم أديانهم ودماءهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم وأنسابهم وأموالهم، وأصبح كل في حده لا يعتدي على الآخر، فلن يقع بين الناس نزاع.
ثم يقول الله في هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]، وأيضاً: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، فرتب ثلاثة أمور: لا تظن السوء بأخيك، وإن غلب عليك الشيطان وأدخل إلى ذهنك ظن السوء فلا تتجسس حتى تتأكد مما ظننت، فإن تجسست ووقفت على مكروه، فلا تنقل بذلك وتغتابه عند الناس.
حفظ القرآن لدماء المسلمين
كل ما سبق شرع لحفظ ما بين الأفراد من نوازع الشر التي تقع بينهم، وإذا تأملتم ما قبلها: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، هذه الآية هيئة أمم إسلامية، وبوليس دولي من كتاب الله الطائفتان تقتتلان، نصلح بينهما، من الذي يصلح؟ محكمة عدل إسلامية.
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، من الذي يقاتل؟ دولة ضعيفة؟ أم دولة واحدة؟ وهل تدخل في شئون الغير؟ لا، بل قوة من العالم الإسلامي تقوم باسم الإصلاح، فتكون هي التي تقاتل هذه الفرقة الباغية.
لو كان هذا قد حدث في أول حركة لبنان، وكانت تخرج قوات من البلاد العربية والإسلامية وفيها قوة الردع لتردع الباغي، فلو أن العالم الإسلامي لمؤتمر مكة في عهد الملك خالد، تبنى الكويت هذا المشروع، وعرض على المؤتمر وأقر، لكنه ما حرك ولا خرج إلى حيز التنفيذ.
فلو أن العالم الإسلامي عاد إلى كتاب الله وإلى تشريع رسول الله، وإلى ما جاء عن الله لمصلحتهم، والله ما احتاجوا إلى أحد بعد ذلك.
(فقاتلوا)، إذاً: قتال الباغي واجب على المسلمين، لكن من الذي يقاتل؟ المعتدى عليه عاجز عنه، وهل دولة تتحمل هذا القتال؟ فإنها لا تقدر، ولا تستطيع، وقد يكون الباغي أقوى منها، وقد يكون ذلك من باب التدخل في شئون الآخرين، لكن باسم الأمة الإسلامية، وباسم ردع الباغي، وتمويل القتلا يكون على جميع الأمة الإسلامية، ويعسكر فيما تختاره الأمة العربية، ولا يكون خاضعاً لقيادة دولة معينة حتى لا يكون جيش احتلال.
فلو نفذ هذا من تاريخ عام ثلاثة وثمانين إلى الآن، لانعكست الحال تماماً.
إذاً يا إخوة: لو أخذنا هذه الآية: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9]، ليس كهيئة الأمم يستخدم فيها حق الفيتو فينقض القرار العادل لمصلحة جهة من الجهات، لا {بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: لوجه الله، وتنفيذاً لأمر الله.
صون القرآن للأعراض
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ} [الحجرات:11] كأنه يقول بعد أن انتهى القتال مع الأمة الباغية، إن من أسباب القتال أو من تبعات القتال {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] كأن السخرية تأتي بالقتال.
وقال: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، وسوء الظن مع الآخرين يدفع للتجسس، والتجسس يحمل على الغيبة.
رعاية الإسلام لشجرة الأخوة
حرم الله على المسلمين أفراداً وجماعات الاعتداء، وجعل كل عنصر من عناصر الحياة الحيوية الستة راجعاً عليها، فحفظ للأمة كيانها، ومن جانب آخر: جاءت الروافد التي تغذي تلك الشجرة العظيمة التي تستظل فيها شعوب العالم، انظروا إلى بداية السيرة النبوة، وبداية ظهور الإسلام، هل كان الإسلام عربياً؟! لا، فإن الله قد اختص واصطفى من العالم العرب، واصطفى من العرب بني هاشم، واصطفى من بني هاشم محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكن هل جعله للقرشيين، أو للهاشميين، أو للعرب؟ لا.
بل للناس كافة، ولهذا وجدنا تلك الدوحة الرائعة بأغصانها المورفة، وظلالها الناعمة؛ يستظل فيها سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، بأي معنى من المعاني وصلوا لهذا؟ أبعرق القومية العربية، أو بعرق التربة والأرض؟ لا والله، إنما هو بإخوة الإسلام.
ولما اختلف الأنصار مع المهاجرين بشأن سلمان في حفر الخندق، وذلك حينما جعل صلى الله عليه وسلم راية للمهاجرين وراية للأنصار، جاءوا في سلمان واختلفوا، هؤلاء يقولون: سلمان منا؛ لأنه مهاجر من بلاد الفرس إلى المدينة، وهؤلاء يقولون: لا؛ لأنه كان هنا ينتظر قدوم رسول الله حتى جاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يفض النزاع بينهم، فيقول: (سلمان منا آل البيت)، بأي معنى يصبح من آل البيت؟ أبشهادة ميلاد؟ أم بحفيظة وبطاقة شخصية؟ لا والله، لا بعرق ولا بدم ولا بجن ولا بإنس ولا بشيء، إلا بالإسلام، ولهذا كان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم ما رجع للعنصر الفارسي، بل قال: أبي الإسلام لا أب لي سواه، ولذا قيل: لقد رفع الإسلام سلمان فارس كما وضع الكفر النسيب أبا لهب سلمان فارس رفعه الإسلام، والكفر وضع أبا لهب صاحب أعلى نسب في قريش.
إذاً: جعل الله الروافد لتلك الدوحة ليستظل بها وينعم فيها جميع شعوب العالم، وتلك الروافد التي تغذيها كل يوم وكل شهر وكل سنة، بل وكل لحظة، كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فتلتقي أنت وأخوك هناك، هذا في السوق الشرقية، وهذا في الغربية، وهذا في الشمال، وهذا في الجنوب، فإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أتيتم تسعون لذكر الله.
في اليوم يعلن خمس مرات: حي على الصلاة حي على الفلاح، فيلتقي أهل الحي كل يوم خمس مرات، ويلتقي أهل القرية كل أسبوع مرة، ويلتقي أهل المدينة كلهم في كل يوم عيد فطر وأضحى، ويلتقي أبناء العالم الإسلامي في كل حج في عرفات ومنى، هذه كلها روافد تغذي تلك الشجرة، ويلتقي المسلمون في كل موعد من تلك المواعيد.
ويأتي الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، لسنا نحن فقط بل نحن وغيرنا حتى يربطنا بالأمم الماضية، وكذلك الصلاة: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، وكذلك الزكاة حق للمسكين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، تلاحم وترابط وتعاون وتعاطف يفرض الإسلام على الغني حصة من ماله (2.
5%) للفقير المحتاج، أي نظام في العالم يربط الأفراد بعضهم ببعض بالمال إلى هذا الحد؟ لا يوجد، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، هم تطهرهم وهم تزكيهم؟ هل هذا المعنى المزدوج موجه لطائفة واحدة وهي المأخوذ منها المال، أم أنه غير موزع على الطائفتين المأخوذ منها والمأخوذ لها؟ يقول المحققون من العلماء: إنها موزعة على طبقات الأمة الأغنياء والفقراء سواء؛ لأن الفقير حينما يرى المال عند الغني وهو محروم منه يحصل في قلبه حقد عليه، إذ كيف يأخذ المال ويتنعم به وهو محروم منه بالكلية؟ فإذا ما عدل الغني وأعطى الفقير حقه من هذا المال طابت نفسه وذهب منه الحقد.
مثلاً: بستانك مثمر وجارك ليس له شيء، يرى النخيل يزهر، ثم يراه يرطب، ثم يراه يتمر، ثم تجنيه في الليل وتدسه في بيتك ولم ير منه شيئاً، ماذا سيقول؟ يقول لك: الله يحرقه عليك، يقول: إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر، لكن إذا كان موقفك أول ما تظهر الثمرة وتزهي أن تقول: خذ هذا العذق، وإذا أرطبت قلت: خذ هذا الصندوق، وإذا جنيت، نظرت كم وسقاً فيه، ثم أخرجت اثنين ونصف في المائة حق الفقير، ماذا سيكون موقف هذا الفقير من بستانك؟ إذا قام في الليل ورأى النار فيه، هل يقعد ينظر؟ بل يكون أسبق منك إلى إطفائها؟ إذاً حينما يأخذ الصدقة تطيب نفسه.
رعاية القرآن للأخوة بالجانب المالي
حادثتان عجيبتان في هذا الباب يُذكر بها الإخوة أصحاب الأموال؛ ليعلموا أن أداء حق الله هو الخير والبركة والحفظ والنماء.
كلنا يقرأ في سورة القلم قصة أصحاب الجنة، قال الله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:17 – 28] يعني: تستثنون حق المسكين، أبوهم كان يخرج حق المساكين كل سنة، ولما مات استكثروه.
فمنعوا الفقراء، فلما بيتوا النية كان أمر ربنا أقرب، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30].
وانظر إلى الجانب الثاني في الحديث الصحيح: (بينما رجل يمشي في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً في السحاب يقول: اسقي حديقة فلان).
سبحان الله! في قصة أصحاب الجنة: (طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم)، وهنا: (يا سحابة اسقي مزرعته)؛ فيمشي الرجل في ظل السحابة حتى توقفه على رجل قد أمطرت على أرضه ونزل الماء، وإذا برجل يحول الماء في حياضه، فأقبل عليه: يا فلان، فإذا به رجل غريب يعرف اسمه، فسأله عن اسمه وقال: أخبرني ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: لماذا تسألني؟ فأخبره، قال: إن كان كذلك فإني أقسم ثمرتها أثلاثاً، ثلث أدخره لي ولعيالي، وثلث أعيده فيها السنة الثانية، وثلث أتصدق به.
قال: بهذا سقيت.
الفرق بين الاثنين: أن حديقة أصحاب الجنة قائمة مثمرة منتجة، لكن لما بيتوا النية بأن يحرموا المساكين {طَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 – 20]، وهذا لما كان يعطي حق المسكين، كان المولى يتولى مزرعته ويسقيها.
الآن بعض الآبار يبست، وهم يحفرون الآبار والماء غائر، أما هذه فيأتيها السقي من السماء.
إذاً: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103]، تطهر بها قلوب الفقراء، فإذا أصبحت طاهرة وتوجهت إلى الله بالدعاء كانت حرية أن يستجاب لها.
جعل الله الزكاة من روافد إمداد شجرة الأخوة في الإسلام لنمو وتقوية التعاطف بين المسلمين، ولهذا لما عطل الناس هذا المرفق، وسدوه عن شجرة أخوتهم تحول وجاء ما فيه مادة محرقة جاءت الاشتراكية، وقالوا: نحن شركاؤكم في هذا المال، وجاءت مبادئ هدامة أفسدت على الناس حياتهم الاقتصادية، والآن تبدأ روسيا تتراجع ويعلن رئيسها أنه يفكر في السماح للإنماء الفردي بعد تجربة طويلة استمرت أربعين أو خمسين سنة.
فالزكاة من أقوى عوامل الإخاء؛ لأن عدم الزكاة تجعل الناس طبقات؛ واحدة في الثريا والأخرى في الثرى، لكن الزكاة تنزل من في علياء الثريا وترفع من في حضيض الثرى ويلتقيان معاً على صعيد واحد، نعم توجد مفارقة درجات، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] هذا نظام الحياة، لكن إذا حفظ الغني حق الفقير عنده طابت نفس الفقير ورضيت.
وهكذا أيها الإخوة يأتي الصيام فتجوعان معاً وتجتمعان على منظر لا يوجد في العالم إلا في هذا المسجد النبوي، تمد السفرة ويجلس من لا يعرف بعضهم بعضاً إلا باسم الإسلام، والكل صائم لله ينتظر الله أكبر ويتناول الطعام، إخاء عملي، ممن بالمشرق ومن بالمغرب في هذا الشهر.
ثم يأتي العامل المتكرر اليومي، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وقال: (تهادوا تحابوا)، هذه الأخوة التي أوجدها الإسلام في الدنيا بين أفراده تصحبهم إلى أن يدخلوا الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، حتى من كانت بينه وبين غيره حزازة وخصومة وحقوق في الدنيا زال عنه الحقد ونزع، وعادت القلوب إلى فطرتها، وأصبحت الصدور سليمة {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
ربط القرآن بين المؤمنين وغيرهم من المخلوقات
هذه الأخوة -كما سمعنا من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه- لم تقف عند حد البشر، بل تعدت ووصلت بين حملة عرش الرحمن وبين مؤمني هذه الأمة، كما قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُو} [غافر:7]، يعني: أخوة الإيمان بين مؤمني هذه الأمة وبين حملة العرش {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 – 9].
وهذه نصيحة للدعاة، وللإخوة الذين يدعون الآخرين فيما يمكن أن يرطب القلوب أو يفسح المجال، يمكن أن نقول: تلك الأخوة ربطت بين الإنسان والحيوان، بل أيضاً بين الإنسان والملائكة حملة العرش.
وفي السير أن سفينة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان راجعاً من غزوة، فإذا بالأسد قد حاصر الناس على الطريق الأسد على الطريق ولا أحد يقدر أن يمشي، فقال: ابتعدوا، فتقدم إلى الأسد، وقال: أيها الأسد! أنا صاحب رسول الله قد عزمت عليك لتفسحن لنا الطريق، فما كان من الأسد إلا أن ابتعد وتنحى عن الطريق وتركهم يمشون.
ويقولون: بعض الملوك في عصر من العصور جاءه بعض العلماء ينصحه، وكان قد تجاوز الحد، فكان من طغيان هذا الملك أنه أراد أن يقتل من نصحه، لكن لمكانة هذا الرجل أراد أن يتشفى بقتله، وكان عنده من أنواع الوحوش الشيء الكثير، فعمد إلى أسد من الأسود وجوعه ثلاثة أيام، ثم جاء بالرجل في ميدان ليطلق عليه الأسد ويرى هو وأعوانه كيف يفترس الأسد هذا الشيخ الضعيف، فلما جاء بالعالم إلى هذا الميدان، وعرف العالم مجيئه إليه قام يصلي، ثم وهو في حالة سجوده يأتي الأسد يدور حوله ويشمشم، وإذا به يأتي بجانبه يمد يديه، فلما سلم الرجل أخذ بدون خوف أو هلع! ثم قالوا له: بعدما رفعت من السجود رأيناك تفكر، ففيم كنت تفكر؟ قال: والله كنت أفكر هل لعاب الأسد طاهر أم نجس فيفسد عليّ صلاتي؟ قيل له: ما تفكر في الموت والخوف؟ قال: لا.
ربي سبحانه وتعالى يحميني.
فما الذي ربط بين هذا الأسد وهذا الرجل؟.
ورابطة العبد بربه آخت بين الإنسان والجماد، أبو العلاء بن الحضرمي لما ذهب لفتح البحرين وعلم أهل البحرين أنه آتيهم حازوا السفن إلى جزيرتهم، وإذا به عند شط البحر ليس معه إلا سفينة البر وهي الجمال، فقال لأصحابه: إني عزمت على شيء.
قالوا: ماذا؟ قال: نخوض البحر، لقد أراكم الله آية في البر وهو قادر على أن يريكم آية في البحر.
وكانوا قبل ذلك وهم في الصحراء قد نفد ماؤهم وكادوا يموتون عطشاً، ينتظرون الموت، فإذا في القائلة يرون سحابة من بعيد تقصدهم، والسحابة ما دامت آتية فسوف تمر وتذهب، فلما أظلتهم أمطرت وشربوا وسقوا دوابهم، وملئوا أوعيتهم بحمد الله ومشوا تلك آية، فقال: إن الله قادر على أن يريكم آية كذلك في البحر.
قالوا: على بركة الله.
فتقدم قائدهم ووقف وخاطب البحر قائلاً: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله -إن القاسم المشترك بينهم أنهم كلهم لله- عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله.
ثم قال: اعبروا باسم الله.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية في إيرادها: ما ترجل الفارس، ولا احتفى المنتعل، وكأنهم يمشون في الصحراء، وعبروا وقاتلوا وانتصروا ورجعوا.
إذاً: ارتباط العبد بالله، والمؤاخاة بين الفرد والآخر لم تقتصر على الإنسان والإنسان، بل امتدت إلى عالم الملائكة، والحيوان، فعليك أن تقوي صلتك بالله، وعليك أن تحافظ على تلك الأخوة بينك وبين إخوانك.
أيها الإخوة الكرام: إن هذا المنهج العملي في الإسلام هو الذي يهمنا، وليس مجرد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
ثم كيف توصل النظام الإسلامي إلى أن يوجد أخوة بين المسلمين؟ أولاً: ردهم إلى أصلهم {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، {شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
ثانياً: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:103]، جانب المادة في الجسم حافظ على حقوقه وحرم الاعتداء على تلك الحقوق، وسلط روافد الخير التي تنمي وتغذي دوحة الإخاء.
وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعلنا من المتحابين في الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر
كتاب: “دروس الهجرة” عطية بن محمد سالم، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.
