يشهد العالم العربي والإسلامي في ظل صراعه مع الكيان الصهيوني محاولة خطيرة تستهدف جوهر دين الأمة وعقيدتها وتراثها، إلى جانب الاستيلاء على جغرافيتها والمراهنة على تدمير الأجيال الحالية والقادمة من خلال غسل أدمغتها وقطع صلاتها بكل ما يُحقق هويتها ويؤكد حقوقها.
الهدف الاستراتيجي: تحويل الدين من عقيدة إلى سردية
في صميم هذه المحاولة يبرز مشروع “الإبراهيمية” الذي يقدم نفسه بوصفه إطاراً دينياً ثقافياً، بينما يخفي في جوهره محاولة لإعادة تعريف الدين نفسه وربطه بمصالح وتحالفات اقتصادية وجيوسياسية، ليتحول إلى أداة لتجميل وجه الاحتلال وشرعنة التطبيع وإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفقاً لمقاييس القوى الكبرى ومصالحها.
كشف النوايا: التصريحات والمواقف
بيان كوشنر أمام مجلس الأمن
في واحدة من أخطر تصريحاته أمام مجلس الأمن الدولي عام 2020، صرّح جاريد كوشنر – مهندس صفقة القرن وصهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – قائلاً: “إن الرواية الإبراهيمية قد تكون مفتاح السلام، إذ يمكننا من خلالها إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إذا أعدنا تعريف الدين ليصبح رواية عن تاريخ مشترك ومستقبل مشترك”.
يتجاوز هذا التصريح كونه بياناً سياسياً عادياً ليَكشِف النقاب عن الهدف الاستراتيجي الخفي للمشروع: تحويل الدين من عقيدة ربانية تُعرِّف الحق من الباطل إلى مجرد رواية ثقافية قابلة للتشكيل والتطويع لخدمة خرائط سياسية واقتصادية جديدة. وهنا تَبرُز الإبراهيمية كإطار وظيفي يُوظَّف لإعادة ترتيب المنطقة وإضفاء الشرعية الدينية على التحالفات والمشاريع الاقتصادية.
الارتباط العضوي: الإبراهيمية واتفاقيات إبراهيم
السياق الشامل: صفقة القرن
لا يمكن فهم مشروع الإبراهيمية بمعزل عن “صفقة القرن” واتفاقيات إبراهيم. ففي يناير 2020، أعلن ترامب عن “صفقة القرن” التي وصَفَتها وثيقة البيت الأبيض بأنها تهدف إلى: “الحفاظ على القدس مدينة مفتوحة ومقدسة لجميع الأديان – اليهودية والمسيحية والإسلام – وأن تبقى مكاناً يُصلي فيه أتباع جميع الديانات ويعبدون”.
هذا الخطاب الذي يبدو متسامحاً يُخفي وراءه هدفاً واضحاً: تحويل قضية القدس من قضية سياسية وعقدية إلى قضية ثقافية تتعدى حدود الأديان، مما يُفرغها من أبعادها العقائدية والسياسية ويحول النقاش حولها من صراع على السيادة والحقوق إلى حوار روحاني مجرد.
النص الرسمي والدلالات الخفية
وجاء في نص الاتفاقية الرسمية: “نشجع الجهود الرامية إلى تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات لدعم ثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث وجميع البشر”. وهكذا قُدّم الاتفاق السياسي بغطاء ديني يربطه بالتراث الإبراهيمي.
جوهر الخطر: التطبيع كخطوة روحية
الأبعاد غير المرئية للتطبيع
يكمن الخطر الجوهري للمشروع في تحويله التطبيع من خطوة سياسية إلى خطوة “روحية” تسبقها. فقد أكد تقرير صادر عن معهد واشنطن عام 2021 أن: “اتفاقيات إبراهيم ليست مجرد اتفاقيات تطبيع، بل تمثل رؤية لشرق أوسط مترابط اقتصادياً وروحياً في إطار إبراهيمي”.
هذا يعني أن الدين أصبح عنصراً فاعلاً في معادلة بناء خرائط سياسية واقتصادية جديدة، وليس مجرد قيم روحية وأخلاقية. والسبب في ذلك واضح: إن الحافز الديني هو الأداة الوحيدة القادرة على تحريك الجماهير وإبقاء جذوة المقاومة مشتعلة حتى في أقسى ظروف الهزيمة.
النماذج التطبيقية: من التنظير إلى الممارسة
النموذج الصارخ: لؤي الشريف
يُمثّل لؤي الشريف أحد أبرز النماذج على التوظيف الفج للإبراهيمية، حيث يسعى إلى تبرير الاحتلال والتطبيع انطلاقاً من تفسيرات قرآنية وإنجيلية تتناسب مع الرؤية الإبراهيمية الجديدة المراد ترسيخها.
التحليل الأكاديمي: رأي الدكتور سامي العامري
يُؤكد الباحث في مقارنة الأديان الدكتور سامي العامري في أحد حواراته: “الإبراهيمية ليست ديناً مستقلاً، بل هي مشروع يهدف إلى إعادة تعريف الدين بكامله”، وذلك “ليتحول إلى مجرد رابطة ثقافية وأخلاقية مرنة” يمكن توظيفها لتبرير الواقع السياسي حتى لو كان ظالماً.
آلية التفريغ: من القضية إلى الخلاف
مقولة كوشنر وتحليلها
يَتّسق هذا التحليل بشكل واضح مع تصريحات كوشنر التي أطلقها عام 2019 عندما قال: “كلنا ننحدر من إبراهيم.. من إبراهيم نفسه.. فلماذا لا نعمل معاً من أجل مستقبل أفضل بدلاً من الصراع حول الماضي؟”.
يكمن التضليل الكبير في هذه الصيغة: حيث تتحول القضية الفلسطينية من قضية شعب يعاني تحت وطأة الاحتلال والاضطهاد إلى مجرد خلاف تاريخي بين أبناء الإبراهيمية أو أبناء إبراهيم! مما يُفرغ الصراع من مضمونه العقدي والحقوقي ويحوله إلى مجرد سوء تفاهم تاريخي!
الدراسات المزوّرة والتضليل الإعلامي
استشهاد كوشنر بمعهد واشنطن
يستشهد كوشنر باستطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن (وهو معهد ذو توجهات صهيونية معروفة، ونحن لا نثق بطبيعة الدراسات التي يُجريها). حيث يدّعي كوشنر أن استطلاع المعهد لعام 2021: “كشف عن مفارقة مهمة تتمثل في أن الشعوب العربية لا تزال تنظر إلى التطبيع على أنه خيانة للقضية وليس مصلحة أو حاجة روحانية”.
الرد على الادعاءات
ونرد على كوشنر بالقول: إن نسب الرفض للتطبيع في الواقع تفوق ما ذكرته بكثير، وأن الذين يؤيدون التطبيع ويُرحبون به – خاصة بعد الأحداث الأخيرة في غزة – تكاد نسبتهم تكون معدومة!
تحليل شخصيات المطبعين
أما الأصوات التي تظهر لتبرير التطبيع فهي تشبه الخطاب البلطجي، ويمكن تصنيفها إلى: مرتزقة، أو عملاء، أو خاضعين لضغوط معينة، أو من ما يُسمى بـ”تجار الشنطة” الذين تم شراؤهم، أو “تجار الورطة” الذين وقعوا في شباك الابتزاز، أو “تجار السلطة” المنتمين لأنظمة تريد التطبيع.
الأبعاد الجيوسياسية: إعادة رسم الخرائط
الهدف الجيوسياسي والاقتصادي
يرتبط المشروع بشكل عضوي بإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية والاقتصادية للمنطقة. فالإبراهيمية في جوهرها ليست دعوة دينية (علينا أن نفهم هذه الحقيقة جيداً).. إنها ليست دعوة دينية! فعندما نسمع مصطلح “إبراهيمية” لا يعني ذلك الدين فقط، بل يعني دمج الكيان المحتل في ثقافة ودين المنطقة، مما يؤدي إلى اختفاء التهديد الصهيوني للمنطقة إلى الأبد.
السبب الجوهري
ذلك لأنه مشروع سياسي اقتصادي يهدف إلى إعادة رسم خريطة التحالفات وخطوط التجارة والطاقة.
الأدلة المادية: لغة الأرقام
طلب الأدلة والإجابة عليه
عندما يطالب البعض بأدلة مادية على هذه التحليلات، فإن الإجابة جاهزة:
أبرز مثال على ذلك: ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا
الأرقام والدلالات:
- حجم التبادل التجاري بين الكيان المحتل وبعض الدول المطبعة: قفز من شبه عدم قبل التطبيع إلى أكثر من مليار وأربعمائة مليون دولار خلال العامين الأولين.
- في أغسطس 2022 : أعلن الكيان المحتل وإحدى الدول عن مشاريع مشتركة تتجاوز قيمتها 10 مليارات دولار في مجالات التكنولوجيا والطاقة.
لا يقتصر الأمر على التبادل الثقافي والسياحي
فالأمر لا يتعلق بمجرد ترويج للسياحة وتبادل للفنون والثقافة، بل يتعداه إلى بناء بنى تحتية واستراتيجيات مستقبلية عابرة للحدود.
الواقع المر: المفارقة المؤلمة
المشهد المتناقض
في خضم عمليات القتل المستمرة في غزة والإبادة الجماعية التي تبث على الهواء مباشرة أمام أعين العالم أجمع:
- صفقة غاز بقيمة 35 مليار دولار: تقدم كهدية للصهاينة الذين يقتلون أبناءنا بينما نقف عاجزين متفرجين.. لدرجة أننا نشعر بالخجل من مجرد الكلام عن هذا التناقض!
- إلى أي مصير وصل بنا الحال؟! والله هذا هو واقعنا!
خاتمة: القصيدة التي تعبّر عن واقعنا
كلمة الشاعر المعبّرة
يذكرني هذا المشهد المؤلم بالبيتين الشهيرين للشاعر العراقي معروف الرصافي:
كِلابٌ للأعادي هُم … ولكن على أبناء جلدتهم أُسُود
أما والله لو كنا قُروداً … لما رضيت قرابتنا القُرود
المصدر
محاضرة مفرغة للدكتور محمد العوضي، بتصرف يسير.
اقرأ أيضا
الديانة العالمية الجديدة (الإبراهيمية)
التطبيع مع الصهاينة مظاهر وأحكام
من منكرات التطبيع مع اليهود؛ ولاية الكافرين ومظاهرتهم على المسلمين
