الفقر بل “الإفقار” وسيلة للحروب دون طلقة واحدة؛ تركع الشعوب وتستخرج منها الكفر والتبعية. وللإسلام منهجه ومفاهيمه يعطي للمال أهميته ولا يعلق به القلوب.
مقدمة
لسنا فقراء؛ فنحن أمة تملك ثروات لا توجد في مناطق أخرى. تشرئب اليها العيون والقلوب، وتجتمع لها جيوش العالَم. حتى ما يشتكي منه حمقى الحكام من الثروة البشرية والتي يرونها عبئا؛ هي ثروة وقوة، لكنهم فقط حمقى يضيقون بأمتهم ولا يحسنون توظيف ثرواتها؛ فيجعلون نصب أعينهم كيفية سرقة الثروات وتهريب الأموال وتهجير العقول والأبناء..!
ولا قومة للأمة إلا بالانتباه للأمر وامتلاك أموالها وثرواتها وكنوزها وحسن استغلالها وتوظيفها، وتقوية الأمة بها؛ فللغرب نظرته الخبيثة للأموال وطرق استخدامها وأدواته الخبيثة في هذا. وهذه أمور يجب إدراكها ومواجهتها.
صراع الحق والباطل
من سنن الله الاجتماعية أن يتواصل صراع الحق والباطل، ويستمر عداء أهل الكفر والنفاق لذوي الإيمان حتى قيام الساعة. ومظاهر الصراع والعداء لفسطاط الإيمان تتباين صوراً وأوضاعاً ومظاهر وشدة وقوة وحجماً؛ لكنها تتفق جميعها على الهدف النهائي والغاية المقصودة ألا وهي النيل من الدين؛ فالمؤامرات السياسية والمخابراتية، والكيد العسكري والأمني، والمكر الاقتصادي والمعيشي والمخططات الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية كلها جميعاً تبتغي القضاء على الإسلام وتدمير مقوماته وإبادة أهله، وذاك ما حدثنا عنه القرآن.
قال تعالى: ﴿ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا..﴾ [البقرة: 217].
وقوله تعالى: ﴿ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ..﴾ [البقرة: 120].
وقوله تعالى: ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً..﴾ [البقرة: 109].
وواضح من الآيات الواردة في السورة ذاتها في أول القرآن أن الله تعالى يبين لنا سبيل المجرمين ويوضح لنا مبتغاهم حتى نأخذ حذرنا ونعد عُدتنا ونحذِّر قومنا.
الدين بُغيتهم
الأعداء على مر الزمان وفي كل مكان يريدون القضاء على إيماننا وعقيدتنا وديننا، وأن نترك دين الله الذي ارتضاه لنا إلى مِلّتهم المعوجة المحرَّفة، ويستخدمون لذلك كل ما يمكنهم من أدوات يرونها قوية وسريعة التأثير وتحدث دماراً أوسع وخراباً أعم.
يتولى كِبر ذلك العداء اليهود والنصارى كما أشار القرآن، بل إنهم لينسون عداواتهم الدينية القديمة ويؤلِّفون حلفاً شيطانياً ضد ديننا وأمتنا: ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ [المائدة: 51]، ﴿والذين كفروا بعضهم أولياء بعض﴾ [الأنفال: 73].
الإفقار وسيلتهم
إنهم يستخدمون كل ورقة يرونها رابحة وكل سلعة يظنونها رائجة من أجل استئصال هذا الدين منهجاً ودعاةً وأمة؛ ومن بين الوسائل ذات الأثر الفاعل ضد أمتنا وذات العائد الثري عليهم: وسيلة “حرب البطون” وما يتبعها من “سياسات الإفقار” المدمِّرة ومحاربة الاقتصاد ومصادر المعيشة في حياة الأمم والشعوب عملاً بالمثل القائل: “جوِّعْ كلبَك يتبعْك”.
لقد فكّر دهاة اليهود ـ لعنهم الله ـ طويلاً وقدَّروا ثم نظروا ثم عبسوا وبسروا، قُتلوا كيف فعلوا.. ثم تمخض ذلك عن العمل على “احتكار رؤوس الأموال” وتجنيد أصحابها ليكون ذلك مقدمة للاستيلاء على العالم بعد إخضاعه لحكمهم وقراراتهم وتوصياتهم ومخططاتهم؛ فهم الذين يقبضون على عنقه ويتحكمون في مصيره ويملكون قوته.
ما يُسمى بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يُعَدُّ كلٌّ منهما “حكومة صهيونية” تختبئ وراء ورقة الدولار الخضراء، وتضع فخاخها المخيفة خلف القروض والإصلاحات الاقتصادية والسِعرية، وتزرع الموت الزؤام تحت أرضية الاتفاقات المالية، ولكن أكثر الحكام لا يعلمون أو لعلهم ـ وهو الأقرب ـ يعلمون.
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة … أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
والأعداء يدركون أن حربهم الاقتصادية وسياستهم التجويعية توصلهم سريعاً إلى خط النهاية في صراعهم مع أمتنا الذي يعني لديهم تدمير الإسلام. وهم بلا شك يحققون نجاحات في هذا المِشوار الجهنمي الخبيث لأمرٍ قدَّره الله، وبسبب ما كسبت أيدينا نحن المسلمين. إلا أننا على يقين أنهم لن يصلوا إلى النهاية المرجوة في هدم الإسلام وإطفاء نوره؛ لأن الله قد وعد بغير ذلك، فقال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8]، غير أنهم سينجحون في تحقيق الأهداف المرحلية التي تكون وطأتها علينا شديدة وأثرها في حياتنا مؤلماً؛ إن لم نتيقظ وندفع عن أنفسنا ما استطعنا بعون الله، وذلك بالاستمساك بحبله المتين والسير في صراطه المستقيم، ومن خلال استبانة سبيل المجرمين، وإعطاء الخطر ما يستحقه من الإعداد، وأخذ الأهبة، وإطلاق صيحات النذير وإشارات التحذير، ورص الصفوف، والتنادي لدفع الدمار القادم.
ولعل هذه الكلمات والسطور تكون لبنة في صرح الدفاع والتحذير؛ فتجعل جاهلاً يدري وغافلاً ينتبه وسادراً يرعوي ونائماً يستيقظ ومدافعاً يتحفَّز وحجَّة تقال وتُقام.
والفقر المقصود في حديثنا ذاك “الفقر المفتعل” في ظل وجود الخيرات الوفيرة والذي يترافق مع الثراء الفاحش والتخمة المفرطة والتبذير الواضح والفساد الجلي.
آثار الفقر المدمرة
تتحقق الآثار المدمرة لسياسات الإفقار حين يغيب الإيمان في قلوب الناس أو يضعف أثره، ولذا يحرص أعداء المسلمين أن تترافق سياساتهم التجويعية مع تنفيذ مخططات الإلهاء واللهو الحرام وإبعاد الناس عن دينهم وإضعاف اتصالهم بالله من خلال البرامج الإعلامية والثقافية التي تنشر ثقافة المجون والغناء والرقص وإثارة الشهوات وبعث الغرائز والدعوة لكل محرّم.
في مجال العقيدة والدين
وهو المجال الذي توجه إليه الأسهم المسمومة والضربات القاتلة ويراد به الشر أولاً وأخيراً.
والفقر مدعاة للشك؛ إذ إنه يكون مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلهي للكون، والارتياب في عدالة التوزيع الرباني للرزق، فيصبح لسان حال صاحب هذا التصور:
كَم عالم عالم أعيت مذاهبــه … وجاهل جاهل تلقاه مرزوقــاً
هذا الذي ترك الألباب حائرة … وصيّر العالِــــم النِّحرير زنديقـــاً
الفقر والعقيدة الجبرية
وقد يرضى بعضٌ باعتناق “النظرة الجبرية” إلى الأمور. وهي نظرة تتعارض مع عقيدة القرآن والسنة؛ فهو يُقنع نفسه بأن الفقر وإن كان شراً وبلاءاً فهو أمرٌ قد قضاه الله في السماء ولا يُجدي معه الطب والدواء؛ فقد أراد الله أن يفضل بعض الناس على بعض في الرزق ليبلوهم، وأنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ولا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه، وغير ذلك من كلام حق يُراد به باطل، ويروَّج مترافقاً مع سياسات الإفقار ومخططات التجويع ليقنع الناس بالرضا والصبر ولا ينبسوا
ببنت شفة ولا تنفرج أفواههم عن لفظة اعتراض، ولسان حالهم يقول:
الرزق كالغيث بين الناس منقسم … هذا غريق وهذا يشتهي المطرا
أو كما قال آخر:
يسعى القوي فلا ينال بسعيه … حظاً ويحظى عاجز ومهين
ونظرة “الجبرية” هذه ينكرها الإسلام؛ لأنها تمثل عائقاً منيعاً أمام أي محاولة لإصلاح الأوضاع الفاسدة وتعديل الموازين الجائرة وإقامة العدالة المرجوة والتكافل الاجتماعي باعتبارها مبادئ إسلامية رئيسة.
الإسلام فرض على الأغنياء في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم. ولما احتج الجاحدون منهم بمشيئة الله وقدرته ردّ عليهم زعمهم ورماهم بصفة الضلال المبين، قال تعالى: ﴿وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [يس: 47]، إنهم في ضلال مبين؛ لأنهم لو عقلوا لعلموا أن الله قد أراد أن يرزق الناس بعضهم من بعض، وأن يتعاونوا على رد قدر الله من الفقر بقدر الله من التكافل وحسن توزيع الثروات وإيجاد فرص العمل وأسباب الرزق.
المقصود بالرضا والقناعة
قد يسأل سائل: إذاً ما المقصود بحثِّ النصوص القرآنية والحديثية على الرضا والقناعة بما قسم الله..؟
والجواب: إن المقصود ليس هو ما يُراد ترويجه وإشاعته بين الناس من فهم خاطئ حول الرضا والقناعة من خلال ترْضية الفقراء بالعيش الدُون والحياة الهُون.
ولا القعود عن السعي إلى الكسب الحلال والغنى والحياة الطيبة والعيش الرغيد.
ولا المقصود كذلك ترك الأغنياء في غيّهم سادرين يلهون، ويعبثون ويترفون ويسرفون.
ولا ذم المال إطلاقاً؛ إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله الغنى تماماً كما كان يسأله التُقَى: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى». (1رواه مسلم، ح/ 4898)
وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لخادمه أنس قائلاً: «اللهم أكثر ماله». (2رواه البخاري، ح/5859)
وأثنى على مال أبي بكر فقال في الحديث الذي حسنه السيوطي: «ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر». (3رواه أحمد، ح/ 7134)
وقال: «ونعم صاحب المسلم هو». (4رواه البخاري، ح/ 2630)، «..فنِعْم المعونة هو..». (5رواه البخاري، ح/ 5947)، وقال كذلك في الصحيح نفسه من حديث يسار بن عبيد: «لا بأس بالغِنى لمن اتقى». (6رواه ابن ماجة، ح/ 2132)، بل وكان يستعيذ بالله من الجوع: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع». (7رواه النسائي، ح/ 5373)
فالقناعة التي حث عليها الإسلام تعني أن لا يُفرِط الإنسان المسلم في سعيه للغنى، وأن يُجمِل في طلب الرزق ليتمكن من إقامة التوازن في حياته، ويتجنب الإفراط والغلو، ويتوجه طموحه إلى القيم الأرفع والرزق الأبقى: ﴿ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأَبْقَى﴾ [طه: 131]، ﴿والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17].
كما أن القناعة المطلوبة في الإسلام تعني الرضا بتفاضل الناس في أعطيات الأرزاق، تماماً مثل بقية المواهب والملكات. فلا ينبغي أن يكون أكبر همِّ المسلم النظر إلى ما أوتيه الآخرون نظرة حسد وبغضاء وطمع، وعليه في حدود ما قدّر له أن يكون نشاطه وطموحه: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 32].
كما تعني الرضا بما رزق الله في حالات العسر وضيق الرزق والأزمات الطارئة التي تحل بالأمم وتعم الناس بسبب الكوارث وقلة الموارد الطبيعية وعدم القدرة على الهجرة أو تغيير الواقع.
الفقر واتهام الله
إذ من طبيعة الإنسان بدون تزكية الأديان أنه: ﴿إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 16].
الفقر والكفر متلازمان
قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بين الفقر والكفر فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر». (8رواه أحمد، ح/19487)
وقال في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والطبراني في الأوسط وضعَّف العراقي سنده: «كاد الفقر أن يكون كفراً».
وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحاجة والطمع في المال تدفع المرء إلى بيع دينه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «يبيع أحدهم دينه بعرضٍ من الدنيا قليل». (9رواه مسلم، ح/ 169)
وواضح اقتران بيع الدين بالكفر والعياذ بالله وابتغاء العرَض القليل من الدنيا بالحاجة إليها والطمع فيها. ومن أقوال السلف: «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك»، «أكفر الناس ذو فاقة لا صبر له، وقلَّ في الناس الصابر».
خلاصة
الفقر سبب للشك في الله، واتهامه، واعتناق العقيدة الجبرية المنحرفة، ويتلازم معه الكفر، وكل آثاره الأخرى توهن الدين وتضعف الإيمان.
………………………………
الهوامش:
- رواه مسلم، ح/ 4898.
- رواه البخاري، ح/5859.
- رواه أحمد، ح/ 7134.
- رواه البخاري، ح/ 2630.
- رواه البخاري، ح/ 5947.
- رواه ابن ماجة، ح/ 2132.
- رواه النسائي، ح/ 5373.
- رواه أحمد، ح/19487.
- رواه مسلم، ح/ 169.
المصدر:
- ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي، مجلة البيان، العدد:149.
اقرأ أيضا: