إن الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه، وأن يجعل لهم السعادة، ولمن خالفهم الشقاء، وهذا يوجب العلم بنبوته، وأن من اتبعه كان سعيدا، ومن خالفه كان شقيا.

قتل أولياء الله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس

قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة: 61]، وقال: (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 183].

إلى آيات أخر في هذا المعنى صرحت بما لاقاه الأنبياء والرسل عليهم السلام وأتباعهم المخلصون ودعاة الحق، وبما كابدوه من أعداء الله والجهلة الطغاة، مما تَنْهَدُّ له الصياصي، وتبيض منه النواصي.

هؤلاء أكابر الأمة المحمدية وعلماؤها الأعلام، قد صادفوا عند دعوتهم إلى الحق والمحافظة عليه ما يسود منه وجه القرطاس، وتَشِيب منه لمم المداد.

كذلك الرسل تُبْتلى، وتكون لها العاقبة

والأنبياء – صلوات الله عليهم – وأتباعهم المؤمنون – وإن كانوا يبتلون في أول الأمر – فالعاقبة لهم، كما قال تعالى لما قص قصة نوح: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: 49].

وفي الحديث المتفق على صحته «لما أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولا إلى ملك الروم، فطلب من يخبره بسيرته – وكان المشركون أعداءه، لم يكونوا آمنوا به – فقال: ” كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: الحرب بيننا وبينه سجال، يُدال علينا المرة، وندال عليه الأخرى. فقال: كذلك الرسل تُبْتلى، وتكون لها العاقبة»1(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله: 2941) ، ورواه مسلم في (الجهاد: 4607) كلاهما بألفاظ قريبة من هاهنا، ولفظ البخاري أقرب إليه..

فإنه كان يوم بدر نصر الله المؤمنين، ثم يوم أحد ابتلي المؤمنون، ثم لم يُنْصَر الكفار بعدها، حتى أظهر الله تعالى الإسلام.

من قتل من الأنبياء فهو شهيد

فإن قيل: ففي الأنبياء من قد قُتِل، كما أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أن بني إسرائيل يقتلون النبيين بغير الحق، وفي أهل الفجور من يؤتيه الله ملكا وسلطانا، ويسلطه على المتدينين كما سلط بُخْتَ نَصَّرَ على بني إسرائيل، وكما سلط كفار المشركين وأهل الكتاب – أحيانا – على المسلمين.

قيل: أما من قتل من الأنبياء فهم كمن يقتل من المؤمنين في الجهاد شهيدا.

قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146 – 148].

ومعلوم أن من قتل من المؤمنين شهيدا في القتال كان حاله أكمل من حال من يموت حتف أنفه.

قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].

ولهذا قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة: 52] أي: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة.

من قتل كان شهيدا، ومن عاش كان منصورا سعيدا

ثم إن الدين الذي قاتل عليه الشهداء ينتصر ويظهر، فيكون لطائفته السعادة في الدنيا والآخرة، من قتل منهم كان شهيدا، ومن عاش منهم كان منصورا سعيدا، وهذا غاية ما يكون من النصر، إذ كان الموت لا بد منه، فالموت على الوجه الذي تحصل به سعادة الدنيا والآخرة أكمل، بخلاف من يهلك هو وطائفته، فلا يفوز لا هو ولا هم بمطلوبهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

والشهداء من المؤمنين قاتلوا باختيارهم، وفعلوا الأسباب التي بها قتلوا كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهم اختاروا هذا الموت، إما أنهم قصدوا الشهادة، وإما أنهم قصدوا به ما يصيرون شهداء، عالمين بأن لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الدنيا بانتصار طائفتهم، وببقاء لسان الصدق لهم ثناء ودعاء، بخلاف من هلك من الكفار، فإنهم هلكوا بغير اختيارهم هلاكا لا يرجون معه سعادة الآخرة، ولم يحصل لهم ولا لطائفتهم شيء من سعادة الدنيا، بل أُتْبِعوا (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص: 42] وقيل فيهم: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان: 25 – 29].

وقد أخبر سبحانه أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أي: ألوف كثيرة، وأنهم ما ضعفوا ولا استكانوا لذلك، بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سببا لظهور العدوِّ، وأن الله تعالى آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإذا كان هذا قَتْلَ المؤمنين فما الظن بقتل الأنبياء؟ ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو من أعظم الفلاح.

مدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما

وظهور الكفار على المؤمنين – أحيانا – هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد، فإن تابوا انتصروا على الكفار، وكانت العاقبة لهم، كما قد جرى مِثْل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار.

وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم الله، وأظهرهم على المخالفين له، فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم.

فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك، ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر يوجب العلم بأن المدار علة للدائر، وقولنا: ” من غير وصف آخر”: يزيل النقوض الواردة.

فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه، وأن يجعل لهم السعادة، ولمن خالفهم الشقاء، وهذا يوجب العلم بنبوته، وأن من اتبعه كان سعيدا، ومن خالفه كان شقيا.

سبب ظهور بُخْتَ نَصَّرَ على بني إسرائيل

ومن هذا ظهور بُخْتَ نَصَّرَ على بني إسرائيل، فإنه من دلائل نبوة موسى؛ إذ كان ظهور بُخْتَ نَصَّرَ إنما كان لما غيروا عهود موسى، وتركوا اتباعه، فعوقبوا بذلك، وكانوا – إذ كانوا مُتَّبعِين لعهود موسى – منصورين مؤيدين، كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما.

قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) [الإسراء: 4 – 8].

الانتصار والهزيمة من أعلام النبوة ودلائلها

فكان ظهور بني إسرائيل على عدوهم تارة، وظهور عدوهم عليهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم وآياته، وكذلك ظهور أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عدوهم تارة، وظهور عدوهم عليهم تارة هو من دلائل رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلام نبوته.

وكان نصر الله لموسى وقومه على عدوهم في حياته وبعد موته، كما جرى لهم من يوشع وغيره من دلائل نبوة موسى، وكذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها.

الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم، وبين ظهور بعض الكفار على المؤمنين

وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا، فإن أولئك لا يكون مُطاعُهم إلى نبي، ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين، ولا يطلبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم، بل قد يصرحون بأنا نصرنا عليكم بذنوبكم، وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم.

وأيضا فلا عاقبة لهم، بل الله يهلك الظالم بالظالم، ثم يهلك الظالمين جميعا، ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت، ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت.

فهذا وأمثاله مما يظهر الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم، وبين ظهور بعض الكفار على المؤمنين، أو ظهور بعضهم على بعض، ويبين أن ظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته على أهل الكتاب: اليهود والنصارى، هو من جنس ظهورهم على المشركين: عبدة الأوثان، وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته، ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل، وظهور الكفار على المسلمين.

بخت نصر لم يَدَّع نبوة، ولا قاتل على دين

وهذه الآية مما أخبر به موسى، وبين أن الكذاب المدعي للنبوة لا يتم أمره، وإنما يتم أمر الصادق.

فإن من أهل الكتاب من يقول: محمد وأمته سُلِّطوا علينا بذنوبنا مع صحة ديننا الذي نحن عليه، كما سُلِّط بخت نصر وغيره من الملوك.

وهذا قياس فاسد، فإن بخت نصر لم يَدَّع نبوة، ولا قاتل على دين، ولا طلب من بني إسرائيل أن ينتقلوا عن شريعة موسى إلى شريعته، فلم يكن في ظهوره إتمام لما ادعاه من النبوة ودعا إليه من الدين، بل كان بمنزلة المحاربين قطاع الطريق إذا ظهروا على القوافل، بخلاف من ادعى نبوة ودينا، ودعا إليه، ووعد أهله بسعادة الدنيا والآخرة، وتوعد مخالفيه بشقاوة الدنيا والآخرة، ثم نصره الله، وأظهره، وأتم دينه، وأعلى كلمته، وجعل له العاقبة، وأذل مخالفيه.

فإن هذا من جنس خرق العادات المقترن بدعوى النبوة، فإنه دليل عليها.

وقد تغرق في البحر أمم كثيرة، فلا يكون ذلك دليلا على نبوة نبي، بخلاف غرق فرعون وقومه فإنه كان آية بينة لموسى.

وهذا موافق لما أخبر به موسى – عليه الصلاة والسلام – من أن الكذاب لا يتم أمره، وذلك بأن الله حكيم لا يليق به تأييد الكذاب على كذبه من غير أن يبين كذبه.

ولهذا أعظم الفتن: فتنة الدجال الكذاب، لما اقترن بدعواه الألوهية بعض الخوارق، كان معه ما يدل على كذبه من وجوه:

منها: دعواه الألوهية، وهو: «أعور، والله ليس بأعور» ، «مكتوب بين عينيه: كافر» ، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ، والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة2(2) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر ” رواه البخاري في (التوحيد قول الله تعالى ولتصنع على عيني [طه: 39] ، واللفظ له، ورواه مسلم في (الفتن: 7363) . وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب “. وقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت ” رواهما مسلم في (الفتن: 7367 و 7356) ..

سنة الله التي لا تبديل لها: نصر المؤمنين على الكافرين

فأما تأييد الكذاب، ونصره، وإظهار دعوته دائما، فهذا لم يقع قط، فمن يستدل على ما يفعله الرب سبحانه بالعادة والسنة فهذا هو الواقع على ذلك – أيضا – بالحكمة، فحكمته تناقض أن يفعل ذلك، إذ الحكيم لا يفعل هذا.

وقد قال تعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) [الفتح: 22 – 23] .

فأخبر أن سنة الله التي لا تبديل لها: نصر المؤمنين على الكافرين.

والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله، فإذا نقص الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه، كما جرى يوم أحد.

وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا) [فاطر: 42 – 43].

فأخبر أن الكفار لا ينظرون إلا سنة الأولين، ولا يوجد لسنة الله تبديل، لا تُبَدَّل بغيرها، ولا تتحول، فكيف النصر للكفار على المؤمنين الذين يستحقون هذا الاسم؟

وكذلك قال في المنافقين – وهم الكفار في الباطن دون الظاهر – ومن فيه شعبة نفاق: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) [الأحزاب: 60 – 62]

والسنة هي العادة، فهذه عادة الله المعلومة، فإذا نصر من ادعى النبوة وأتباعه على من خالفه، إما ظاهرا وإما باطنا نصرا مستقرا، فإن ذلك دليل على أنه نبي صادق، إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين، كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات، وهذه منها.

من ادعى النبوة وهو كاذب فهو من أكفر الكفار وأظلم الظالمين

قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [الأنعام: 93]

وقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) [الزمر: 32]

وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ) [العنكبوت: 68]

وقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 144]

ومن كان كذلك كان الله يمقته، ويبغضه، ويعاقبه، ولا يدوم أمره، بل هو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: «إن الله يُملي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِته، ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102] »3(3) أخرجه البخاري في (التفسير سورة هود: 4686) ، ومسلم في (البر: 6581) واللفظ له، عن أبي موسى الأشعري.، وقال – أيضا – في الحديث الصحيح عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تُفَيِّؤُهَا الرياح، تقيمها تارة وتميلها أخرى، ومَثَل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة»4(4) رواه مسلم في (صفات المنافقين: 7095) بلفظ قريب مما ذكر هاهنا..

فالكاذب الفاجر وإن عظمت دولته فلا بد من زوالها بالكلية، وبقاء ذمه ولسان السوء له في العالم، وهو يظهر سريعا، ويزول سريعا كدولة الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، والحارث الدمشقي، وبابك الخرمي ونحوهم.

البلاء من أجل التمحيص

وأما الأنبياء فإنهم يُبْتَلون كثيرا ليمحصوا بالبلاء، فإن الله تعالى يُمَكِّن للعبد إذا ابتلاه، ويُظْهِر أمره شيئا فشيئا كالزرع، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) [الفتح: 29] أي: فراخه (فَآزَرَهُ) أي: قَوَّاهُ (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29] ولهذا كان أول من يتبعهم ضعفاء الناس باعتبار هذه الأمور.

وسنة الله في أنبياء الله وأوليائه الصادقين وفي أعداء الله والمتنبئين الكذابين مما يوجب الفرق بين النوعين، وبين دلائل النبي الصادق ودلائل المتنبي الكذاب.

وقد ذكر ابتلاء النبي والمؤمنين ثم كون العاقبة لهم في غير موضع:

كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34].

وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].

قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 109 – 111].

والمقصود أن إيذاء القائمين بالحق، والناصرين له من سَنَن أهل الجاهلية، وكثير من أهل عصرنا على ذلك، والله المستعان.

الهوامش

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله: 2941) ، ورواه مسلم في (الجهاد: 4607) كلاهما بألفاظ قريبة من هاهنا، ولفظ البخاري أقرب إليه.

(2) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر ” رواه البخاري في (التوحيد قول الله تعالى ولتصنع على عيني [طه: 39] ، واللفظ له، ورواه مسلم في (الفتن: 7363) . وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب “. وقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت ” رواهما مسلم في (الفتن: 7367 و 7356) .

(3) أخرجه البخاري في (التفسير سورة هود: 4686) ، ومسلم في (البر: 6581) واللفظ له، عن أبي موسى الأشعري.

(4) رواه مسلم في (صفات المنافقين: 7095) بلفظ قريب مما ذكر هاهنا.

المصدر

كتاب: “فصل الخطاب في شرح (مسائل الجاهلية، التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله)” أبو المعالي محمود شكري الألوسي، ص87-95.

اقرأ أيضا

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

الثبات على المبدأ ورفض المساومة عليه .. (1-2)

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

بين الاستضعاف والتمكين

سنن النصر .. حتى يغيروا ما بأنفسهم

التعليقات غير متاحة