إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته، والاستسلام لحكمه، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله، إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها.
مقدمة
لقد أحدث أهل الكلام وتلامذتهم من المبتدعة حدثا كبيرا في هذا الركن الركين من التوحيد ؛ حيث تحول التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته إلى جدل كلامي ، ودراسات فلسفية ، وانعكس ذلك بدوره حتى على الذين يدرسون أو يدرسون الأسماء والصفات على منهاج أهل السنة والجماعة ، فقلما نجد من الدارسين أو المدرسين لهذا العلم العظيم من يشير إلى المقصود الأساسي من دراسة هذا العلم ؛ ألا وهو التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها .
ولكي يثبت لنا صحة هذه الملاحظة وأننا نمر على أسماء الله تعالی وصفاته ولا نقف عند مدلولاتها وآثارها في القلب وفي الواقع، نأخذ على سبيل المثال لا على سبيل الحصر – اسمين من أسماء الله تعالى الحسني طالما قرأناهما مقترنين في كتاب الله تعالى ، ومع ذلك لا نقف على سر اقترانهما، ولا على مدلول ولوازم كل اسم منهما ، وماذا يجب علينا من العبودية فيهما .
قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ۸۳].
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ﴾ [الأنعام: ۱۲۸] وقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: 6].
والآيات التي ختمت بهذين الاسمين الكريمين كثيرة جدا في كتاب الله عز وجل ، فما معنى هذين الاسمين الجليلين، وما مقتضاهما ومدلولهما ؟.
معنى الاسمين ودلالتهما في حق الله تعالى
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾:
(الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها ، فالله جل وعلا حكم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه ، ولا يأمر إلا بما فيه الخير ، ولا ينهى إلا عما فيه الشر ، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو جل وعلا ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة .
وأصل الحكم في لغة العرب : معناه : المنع ؛ نقول : حكمه ، وأحكمه إذا منعه . قال الشاعر :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
هذا هو أصل الحكم .
والعليم: صيغة مبالغة ؛ لأن علم الله جل وعلا محيط بكل شيء؛ يعلم خطرات القلوب ، وخائنات العيون ، وما تخفي الصدور ؛ حتى إن من إحاطة علمه سبحانه علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد ، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون.
وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه ، ويتبعوا تشریعه ؛ لأن حكمته سبحانه تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير ، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر ، ولا يضع أمرا إلا في موضعه ، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل ، أو أن ينكشف عن غير المراد ؛ بل هو في غاية الإحاطة والإحكام ، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير ، ولا ينهاك إلا عن ما فيه الشر ، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل)1(1) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله تعالی ..
فاسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله عز وجل حكيم في أحكامه وقضائه وقدره ؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه فهو حكيم في قضائه وقدره.
العبودية المطلوبة في الأحكام الثلاثة
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين): بل الأحكام ثلاثة:
الحكم الأول: حكم شرعي ديني
فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة ؛ بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة ؛ فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقلید ، ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة ، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول .
فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة، إقرارا وتصديقا بقي هناك انقیاد آخر ، وتسليم آخر له، إرادة وتنفيذا وعملا ؛ فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه ، كما لا تكون له شبهة تعارض إيمانه وإقراره ….
الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري، والذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة
والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه ، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة ، بل ينازع بالحكم الكوني أيضا ، فینازع حكم الحق بالحق للحق ؛ فيدافع به وله…
فإن ضاق ذرعك عن هذا ، فتأمل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد عوتب على فراره من الطاعون ، فقيل له: أتفر من قدر الله ؟ ، فقال: “نفر من قدر الله إلى قدره” .
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به ، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه ؛ فإنه إذا جاء قدر الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر من الأكل والشرب واللباس ؛ فقد دفع قدر الله بقدره.
وكذا إذا وقع الحريق في داره ، فهذا بقدر الله ، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟، بل ينازعه ويدافعه بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله .
وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بكل ما يمكنه ؛ فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبي ، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ، ومصالحه الدنيوية ، ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه ؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ؟!.
ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله ؛ وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب ، دفعا لقدر الله بقدره ، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية: اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة ، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل :
الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ، ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته
فهذا حقه أن يتلقی بالاستسلام والمسالمة ، وترك المخاصمة ، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل ، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة ، وعن سبب يدنيه من النجاة ، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة ، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخرى سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه ، وعدله في قضائه ، وحكمته في جريانه عليه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد ، فمن رضي ، فله الرضا، ومن سخط فله السخط .
ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة ، وأن القدر قد أصاب مواقعه، وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به ، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملکه العادل ، فهو موجب أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، فله عليه أكمل حمد وأتمه ، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره)2(۲) طريق الهجرتین ص 13 ..
الاستسلام والرضا من لوازم ومقتضيات اسم الله (الحكيم)
وفي ضوء هذا الكلام البديع للإمام ابن القيم رحمه الله تعالی تبرز لنا حقیقتان مهمتان من لوازم ومقتضيات اسم الله عز وجل (الحكيم) :
الحقيقة الأولى :
أن اسم (الحكيم) يلزم الإيمان به لوازم قلبية تعبدية تقتضي الإيمان الجازم بأن الله عز وجل حكيم في جميع أحكامه الدينية الشرعية ، ليس لأحد من البشر أن يعارضها أو يأتي بما يناقضها أو يخلطها بغيرها.
بل إن اسم (الحكيم) لله سبحانه يفرض على العبد الاستسلام لشرع الله الحكيم ، فيحكم به ، ويتحاكم إليه ، ويرفض كل شرع يخالف شرع الله حكما وتحاكما ، ويؤمن إيمانا جازما أن من شرع دينا ونظاما لم يأذن به الله تعالى ، وادعى أنه أصلح لحياة الناس ومعاشهم ، أو ساواه بشرع الله ، أو جوز الحكم به ، فإنه قد أشرك بالله عز وجل ، ومن أطاعه في ذلك على علم فقد أشرك بالله أيضا .
ذلك لأن في هذا الصنيع كفرا بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ومنها اسم (الحكيم)، فوق ما فيه من کفر بتوحيد الألوهية ، وبالذات توحيد الطاعة والاتباع.
الحقيقة الثانية :
ومن لوازم الإيمان باسم الله (الحكيم) الإيمان بأن ما يقضيه الله عز وجل من أحكامه الكونية القدرية فيها الحكمة البالغة، وفيها الصلاح والخير ، إما في الحال أو المأل ، ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه ما يقدره الله سبحانه ، ففيه الخير والصلاح للناس ولو لم يظهر للبشر هذه الخيرية ؛ فلابد من الإيمان بأن الله عز وجل له الحكمة البالغة فيما يقدر ، وهذا ما يقتضيه اسم الله (الحكيم).
والمقصود أن الإيمان بأن الله سبحانه حكيم في قضائه وقدره ؛ يفرض على المسلم الاستسلام والرضا بما يقدره الله عز وجل، من الأحكام الكونية القدرية ، من مصائب وأمراض وغيرها، مما لا يستطيع دفعه بالأسباب الشرعية، أما ما يمكن دفعه ومنازعته بقدر آخر من أقدار الله عز وجل ؛ فإن هذا لا يعارض الإيمان بالقدر ، كما سبق نقله عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
خاتمة
إن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه تعالى أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلِّم؛ بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا.
الهوامش
(1) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله تعالی .
(۲) طريق الهجرتین ص 13 .
اقرأ أيضا
كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات
حقيقة التسليم في ضوء آيات من الكتاب الحكيم
الشرك في الحكم الشرعي والكوني سواء