تعيش مصر مأساة في الدين والدنيا منذ انقلاب 2013، وتتوالى أحكام الإعدامات؛ صدورا وتنفيذا. بجرأة تقابلها غفلة. وعلى العلماء والمؤمنين واجب.
مقدمة
كثيرًا ما كنَّا نسمع -منذ عقود- عن القضايا الملفَّقة للجماعات الإسلامية، وخاصة في مصر، وكانت هذه القضايا ـ زمنًا ـ تُستَخدم للتخويف والتحجيم وتأخذ وقتها ثم ينعدم أثرها.
لكن في زمننا هذا أصبحت القضايا الملفَّقة يترتَّب عليها الإعدام دون أن ترفَّ جفون الطغاة، وقد بزغ نجمُ “السيسي” في هذا الإجرام؛ فلا يزال منذ تولَّى حكمَ مصر بانقلابه المشهور على الرئيس المصري “محمَّد مرسي” يمارس الإعدامات تِلوَ الإعدامات دون خوفٍ ولا رادعٍ من عقوبةٍ أخرويَّة أو دنيويَّة.
صور الإعدامات
والإعدام في مصر يأخذ أشكالًا متعدِّدة لا يحصيها إلا الله، عزَّ وجلَّ؛ فمن أحكامٍ قضائيَّة ملفَّقة، إلى قتلٍ بالإهمال والتسيُّب، مرورًا بالتصفيات الجسديَّة التي صارت مألوفًا يوميًّا.
وأمَّا التعذيب والانتهاكات داخل السجون فحدِّث عنه ولا حرج، وكذا التنكيل بأهالي السجناء والمعتقلين وعموم المخالفين ـ بل والموافقين ـ ناهيك عن إفقار مصر وإذلالها من بعد مكانتها الرائدة، حتى صحَّ أن نقول دون تردُّد:
“إنَّ السيسي يتعمَّد إعدامَ مصر”
لقد زاد الفسادُ في عهد السيسي الانقلابي القاتل، وتغلغلَ حتى تحوَّلت مصر مضربًا للمثل في عدم الأمان، والغش وفشوِّ العُري والزنا والخمر والرشوة والإهمال في كافة المرافق الحكومية والمكاتب والشركات، وتدنَّت الأخلاق في عامَّة المعاملات، ونَدَرَ مَن يرحم الضعفاء.
وبناءً على كلِّ ما تقدَّم ـ وغيره كثير ـ حلَّت العقوبات تِلوَ العقوبات والمآسي تِلوَ المآسي على أهل مصر بشؤم هذا المجرم القاتل في المقام الأول.
فيجب على كلِّ مَن يُمكِنه من المنتسبين للعلم الإنكارُ قدر الطاقة.
وجوب الإنكار
والقيامُ بهذا الواجب يُشعر المسلمين بغضبة أهل العلم على المحادِّين لله، عزَّ وجلَّ، والمحاربين لعباده المؤمنين.
وقد أحسن “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” حيث استنكر الإعدامات الأخيرة بحقِّ شباب مصر، وقد جاء في بيانهم ما يلي:
“الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإنَّ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تلقَّى ببالغ الحزن والأسف خبرَ إعدام تسعة من شباب مصر الأبرياء الذين أقدمت السلطات المصرية على إعدامهم بعد أن أكرهتهم على الاعتراف بالقتل تحت سياط التعذيب والصعق بالكهرباء، كما جاء في حديثهم أمام المحكمة، وقام بإعدام آخرين قبل هؤلاء؛ حيث أقدم هذا النظام ـ وِفقَ منظَّمات حقوقية ـ على إصدار (2532) حكمًا قضائيًّا بالإعدام في قضايا جنائيَّة وسياسية منذ (2013) م، ونفَّذ أحكامًا بالإعدام بحقِّ أكثر من (170) شخصًا على الأقلِّ في الفترة (2013-2018) م، حتى جاء عام (2019) م ليشهد هذا التصعيد الخطير بإعدام تسعةٍ من زهرة شباب مصر يوم الأربعاء 20 فبراير 2019م، وستة قبلهم، مما جعل الإعدامات السياسية الانتقامية في عهد هذا النظام هي الأكبر في تاريخ مصر.
وإنَّ اتحاد العلماء يؤكِّد على أنَّ إسالة الدماء المعصومة، وإزهاق الأرواح بغير حقٍّ من أكبر الكبائر؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾. [النساء:93]. وقوله: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾. [المائدة:32]. وقوله عزَّ شأنه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾. [الإسراء:33].
ويحذِّر اتحادُ العلماء المؤسَّساتِ الدينيَّة من أنَّ سعيَها في عون الظلم والبغي هو انحرافٌ وانقلاب على رسالتها المقدَّسة، ونشرٌ للفتنة بين المسلمين في دينهم، وأنها بذلك مشاركة في هذه الدماء ومسئولة عن هذه الأرواح.
ويثمِّن اتحادُ العلماء مواقفَ الهيئات الحقوقيَّة الدوليَّة والمحليَّة التي رفضت هذه الإعدامات وأدانتها، مثل موقف “المفوضيَّة العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة”، وموقف “منظمة العفو الدوليَّة”، و”منظَّمة هيومن رايتس ووتش”، و”جمعية القضاة التونسيين”، وغيرها، ويَعتبر هذه المواقفَ منها مواقف حقٍّ وعدلٍ وانتصارٍ لحقوق الإنسان وحماية لها.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم:42] ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء:227].
(20 جمادى الآخرة 1440هـ الموافق 25 فبراير 2019م)
واجب الدعاء لرب العالمين
ومن الأمور التي علينا ـ مع الأخذ بأسباب الإجابة ـ وعلى أهلِ مصر وعامَّة المظلومين أن ندعوَ اللهَ، عزَّ وجلَّ، لرفع هذا البلاء.
ومما ورد في ذلك ما ثبت في حديث غلام أصحاب الأخدود حيث قيل له: ارجع عن دينك، فأبى؛ «فدفعه الملكُ إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل؛ فإذا بلغتم ذروتَه فإن رجع عن دينه وإلَّا فاطرحوه.
فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: «اللهم أكفنيهم بما شئت»؛ فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملِك: ما فعل أصحابك؟ قال: «كفانيهم الله».
فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسَّطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلَّا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: «اللهم أكفنيهم بما شئت». فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك…» الحديث.(1رواه مسلم (3005). من حديث صهيب -رضي الله عنه- مرفوعًا)
وقد ثبت نحوه في حديث الهجرة يقول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه:
«.. فلم يدركنا أحدٌ منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرسٍ له فقلت: يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقَنا. فقال: «لا تحزن إنَّ الله معنا». حتى إذا دنا منَّا فكان بيننا وبينه قدرَ رمحٍ أو رمحين أو ثلاثة، قال: قلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لَحِقَنا. وبكيتُ. قال: «لِـمَ تبكي؟» قال: قلتُ: أما واللهِ ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. قال: فدعا عليه رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقال: «اللهمَّ اكفناهُ بما شئتَ». فساخت قوائمُ فرسه إلى بطنها في أرضٍ صلد..» الحديث. (2رواه أحمد وغيره وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم)
وعن أَبِى بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِى نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ». (3رواه أبو داود (1539) وغيره ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4706))
آثار عن صحابة رسول الله
ومما ورد عن الصحابة في ذلك:
عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: «إذَا كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ إمَامٌ يَخَافُ تَغَطْرُسَهُ وَظُلْمَهُ فَلْيَقُلْ: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السبع وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ فُلانٍ وَأَحْزَابِهِ وَأَشْيَاعِهِ أَنْ يَفْرُطُوا عَلَيَّ، أَوْ أَنْ يَطْغَوْا، عَزَّ جَارُك وَجَلَّ ثَنَاؤُك، وَلا إلَهَ غَيرك». (4رواه ابن أبي شيبة (29786) وغيره ، وصحَّحه الألباني موقوفًا في صحيح الترغيب (2237)، وقال : يُحتَمل أن يكون في حكم المرفوع .اهـ)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: إِذَا أَتَيْتَ سُلْطَانًا مَهِيبًا، تَخَافُ أَنْ يَسْطُوَ بِكَ، فَقُلِ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَعَزُّ مِنْ خَلْقِهِ جَمِيعًا، اللَّهُ أَعَزُّ مِمَّا أَخَافُ وَأَحْذَرُ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ أَنْ يَقَعْنَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، مِنْ شَرِّ عَبْدِكَ فُلَانٍ، وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَشْيَاعِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، اللَّهُمَّ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّهِمْ، جَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَعَزَّ جَارُكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ». ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (5رواه البخاري في الأدب المفرد (708) وغيره ، وصححه الألباني)
ومما يُشرَع لعموم المسلمين الآن القنوت في الصلاة والدعاء لإخوانهم المستضعفين في سجون مصر وغيرها، والدُّعاء على الطواغيت؛ فمما ثبت عن أنس، رضي الله عنه، «أنَّ النبيَّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان لا يقنت إلَّا إذا دعا لقومٍ أو دعا على قومٍ». (6أخرجه ابن خزيمة (620)، وصحَّحه الحافظ في الفتح (8/226) والألباني في الصحيحة (639))
خاتمة
لقد استحقَّ السيسي وجنوده القنوت والدعاء عليهم بأفعالهم الإجراميَّة في حقِّ المسلمين.
وقد ثبت دعاء النبيِّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأقوامٍ بأعيانهم، والدُّعاء على أقوامٍ بأعيانهم؛ عن أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ…». الحديث (7رواه البخاري (804، وفي مواضع) ومسلم (675))
اللهم أَنجِ المستضعفين من المؤمنين في مصر وفي كلِّ مكان.. اللهم أَهلِك السيسي وجنوده كما أهلكتَ فرعون وهامان وجنودهما وطواغيت الأرض الذين يُحادُّونك ويحاربون أولياءَك.
……………………………….
الهوامش:
- رواه مسلم (3005). من حديث صهيب -رضي الله عنه- مرفوعًا.
- رواه أحمد وغيره وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه أبو داود (1539) وغيره ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4706).
- رواه ابن أبي شيبة (29786) وغيره ، وصحَّحه الألباني موقوفًا في صحيح الترغيب (2237)، وقال : يُحتَمل أن يكون في حكم المرفوع .اهـ
- رواه البخاري في الأدب المفرد (708) وغيره ، وصححه الألباني.
- أخرجه ابن خزيمة (620)، وصحَّحه الحافظ في الفتح (8/226) والألباني في الصحيحة (639).
- رواه البخاري (804، وفي مواضع) ومسلم (675).