الولاء والبراء مبني على الحب والبغض؛ وكلاهما فطرة في الإنسان. المؤمن يجعل الله محور ولائه وبرائه، والجاهليون يجعلون محور ولائهم وبرائهم معلقا بسواه.

مقدمة

قرأت للبعض مؤخراً أطروحات متعددة حول ضرورة إعادة قراءة “الولاء والبراء”، وقضايا بغض الكافر، والزوجة الكتابية، الخ الخ..

ولمّا تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن “الولاء والبراء” مثقال ذرة، ولم يتغير عندهم أي شئ حول وجود “الولاء والبراء” في تصرفاتهم وسلوكهم، وإنما الذي تحول عندهم هو “أرضية الولاء والبراء” أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط.

فقد كانوا سابقاً يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل من كفر بالله بغضاً دينياً، ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك، لكن لو قلت لهم: إنني أحب من يعادي وطني لشنعوا عليك، ولو قلت لهم: إنني أوالي أو أصافح من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفاً وتخلفاً.

فالقضية يا سادة ليست تخليا عن الولاء والبراء، وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء، فقد كانوا سابقاً يقولون أن “الله” هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، وصاروا الآن يقولون “الوطن” هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه. هذه كل القضية.

فالولاء والبراء لم ينته لحظة واحدة، ولكن تحول أساس الولاء والبراء من (الله) إلى (الأرض) كما أشار تعالى فقال: ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف: 176] وقال تعالى: ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾ [التوبة:38].

وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتعاملون مع الجهاد على أسس وطنية، لا على أسس عقدية، فهم لم يرفضوا القتال، ولكن يرون القتال مبرراً على أساس “الوطن” لا “العقيدة”، كما قالوا في تحليلهم الفكري لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ [الأحزاب: 13].

إنه مشهد يتكرر، ولكنه يتكرر بألم، حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله، فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الوطن أمراً مقبولاً، بل رُقيّاً فكرياً، لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القُرب والبُعد من الله؛ فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص!

الأمر لا يحتاج بتاتاً كل هذه الفذلكة، لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس، وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض، فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذراً لنقل ولائهم وبرائهم من (الله) جل جلاله إلى (الوطن).

القضية باختصار

القضية باختصار شديد، لو كانوا يريدون الحق؛ أن كل كافر فهو عدو لله بمجرد كفره؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:98]، وأخبر أنه لا يحب الكافرين فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:32] وأخبر أنه يمقت الكافرين فقال: ﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا﴾ [فاطر:39]. وعداوة المؤمن تبع لعداوة الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء:101].

فكل مؤمن لا بد أن يقوم في نفسه “العداوة القلبية الدينية” لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا، فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليَبكِ على إيمانه، ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب “خالقه” و”عدو خالقه” في آن واحد.

إلا إن كان المرء يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحبابٌ له، فهذا شأن آخر. أو كان المرء يقول: إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو لله، وإذا حاربَنا فهو عدو لله، فصارت كرامته أعظم في نفسه من كرامة الله، فهل يقول هذا عاقل..؟! فأي تحدٍ لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين، وأن الله لا يحب جميع الكافرين، ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول: أما نحن فنحب بعض الكافرين..؟!

بغض الكافر حتى لو كان مسالماً

وتأمل معي في قوله تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [آل عمران:119] فهؤلاء قوم مظهرون للمسالمة؛ بل يظهرون غاية المسالمة؛ حتى أنهم إذا لقو الذين آمنوا قالوا آمنا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم، ولم يُبح لهم حبهم بحسب ظاهرهم.

ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري «كنا في أرض البُعَداء البُغَضاء بالحبشة». (1البخاري، 4230)

فبالله عليك انظر في قول هذه الصحابية الجليلة، فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حيث وفّروا لهم “لجوءاً سياسياً” في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم “البُغَضاء”، لماذا؟ لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً، وأن كل كافرٍ فهو قطعاً عدو لله مبغوض له مهما كان مسالِماً عسكرياً.

ولما بَعث نبي الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن رواحة إلى اليهود لخرْص الثمار خافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: «يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليّ، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم». (2أحمد: 14966) فهؤلاء كفار مسالمون وليسوا محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم.

وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً.

نصوص مذاهب الفقهاء..!

ومن الطرائف أن بعض الناس لكي يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بـ “الوهابية”، ويدعي أننا أسرَى للفكر “الوهابي”، وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية، الخ. وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية.

والواقع أن قاعدة “البغض العقدي للكافر” قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة وليس مسألة ابتكرتها الدرر السنية، فقد قال السرخسي الحنفي:

“وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود”. (3المبسوط، للسرخسي،  23/ 11)

وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال:

“حب المؤمنين، وبغض الكافرين، وتعظيم رب العالمين،.. وغير ذلك من المأمورات”. (4الفروق، للقرافي، 1/ 201)

وقال ابن الحاج المالكي أيضاً:

“واجب على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به”. (5المدخل، لابن الحاج، 2/ 47)

وقال الشيخ عليش المالكي:

“نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين”. (6منح الجليل، لعليش، 3/ 150)

وفي أشهر متون الشافعية:

“وتحرم موَدّة الكافر”. (7الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للشربيني)

وقال العز بن عبدالسلام الشافعي:

“جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته، وأوجبت بغضه”. (8قواعد الأحكام، للعز بن عبدالسلام، 72)

بل هذا “ابن سعدي” الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح رحمه الله التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكافر فيقول:

“الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم”. (9تيسير الكريم الرحمن)

والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يقال أن وجوب بغض الكفار فكرة وُلدت في “الدرعية” وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان..؟! أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون المتقدمة حفظوا في صغرهم “كشف الشبهات”..؟! أم أُرسلت إليهم نسخٌ من الدرر السنية..؟!

أعذار داحضة

وأما قول بعضهم: “إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لا حيلة فيه، وبالتالي يعفى عن حب الكفار” فمؤدى كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف، وبالتالي إبطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله، فصار أمر الله بحبه، وحب رسوله، وحب الأنصار، وحب آل البيت، وغيرها من الشرائع، كلها لغو وعبث لا قيمة له لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الإنسان ولا حيلة له فيه..! بمعنى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً في صحيح البخاري: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» لو جاء شخص وقال “الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة، ولا أجد في نفسي حب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من والدي وولدي”؛ فهل هذا مقبول..؟!

ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بما في نفسه لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وصحَّح له هذا الفهم، حتى ارتقى إيمان عمر، كما في البخاري «يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر».

فعمر حين قال: «لَأنت الآن أحب إلي من نفسي» إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب، فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة.

ولذلك فإنه لما أبغض بعضُ الناس بعض التشريعات بغضاً دينياً جعل الله ذلك منهم ردة وخروجاً عن الإسلام، ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لا حيلة له فيه..! كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد:9].

خاتمة

يتهربون من فرض رباني، وفطرة فُطر الناس عليها، فيُضعفون هوية الأمة ويبلبلون الناس ويذبذبونهم بين ولاء الوطن وولاء العقيدة؛ فيحدث الاغتراب وينسحب الناس من القضايا العامة، أو يتصارعون على عصبيات جاهلية ويخلون أمتهم.

وكان هذا بعض البيان لدحض شُبه القوم. والله الموفق والعاصم.

……………………………….

الهوامش:

  1. البخاري، 4230.
  2. أحمد: 14966.
  3. المبسوط، للسرخسي، 23/ 11.
  4. الفروق، للقرافي، 1/ 201.
  5. المدخل، لابن الحاج، 2/ 47.
  6. منح الجليل، لعليش، 3/ 150.
  7. الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للشربيني.
  8. قواعد الأحكام، للعز بن عبدالسلام، 72.
  9. تيسير الكريم الرحمن. 

المصدر:

  • الأستاذ إبراهيم السكران

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة