يحتاج المسلم إلى ما يقوي إيمانه ويرغبه في آخرته، ويزهده في دنياه، يحتاج إلى ما يربطه بخالقه وإلهه ومولاه، وذلك يتأتى عن طريق المواعظ التي تهز النفوس وتخوف القلوب، وتذكر الإنسان بربه علام الغيوب.
شمولية الوعظ وربطه بالأسماء الحسنى
إن المطالبة بإحياء فريضة الوعظ والتذكير بالآخرة والحذر من الدنيا والركون إليها والتكاثر فيها، لا يعني به ذلك الوعظ المعروف الذي يمارسه بعض الوعاظ، جزاهم الله خيرا، للتذكير بالموت وأهوال يوم القيامة وما فيها من جنة ونار فحسب. نعم هذا من الوعظ ولابد منه. ولكن الوعظ والتذكير بالآخرة والخوف من الله عز وجل وعذابه أشمل من هذا الذي هو معروف بين الناس إنه ذلك الوعظ الذي ينبغي أن يصاحب كل درس وكل محاضرة وكل خطبة وكل عمل وسلوك يربط ذلك كله بأسماء الله عز وجل الحسنى وما تثمره في القلوب من إخلاص ومحبة وخوف ورجاء ويقين وزهد، وغيرها من أعمال القلوب، كما ينبغي أن تربط بمعرفة حقيقة الدنيا والآخرة وأن يحسب ليوم القيامة حسابه وما فيه من الأهوال والحكم بين الناس بالقسط والإنصاف للمظلوم من الظالم وأخذ حقه ممن ظلمه مهما دق وصغر قال الله عز وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
ولو تدبرنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لرأينا واضحا جليا فلا نكاد نجد آية أو حديثا صحيحا إلا ويختم أو يتضمن التذكير باليوم الآخر أو باسم أو اسمين من أسماء الله عز وجل يناسب سیاق الآية أو الحديث ولو كانت هذه الآية أو الحديث في موضوع دنیوي أو حکم شرعي في المعاملات بين الناس وعلى سبيل المثال:
– قوله تعالى: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: ۲۳۵].
– وفي وسط ذكر أحكام الطلاق وعدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها ونفقة المطلقة قال الله عز وجل : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: ۲۳۸] .
– وبعد ذکر آیات الربا والنهي عنه قال الله عز وجل: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: ۲۸۱].
والمقصود أن الوعظ هو موضوع القرآن وهدفه الأساس، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: ۵۷ – ۵۸].
إنشاء واعظ الله في قلب المؤمن سبيل التقوى
وفي الحديث التالي يتبين لنا أن إنشاء واعظ الله في قلب المؤمن هو الصمام الأساس في تحقيق التقوى بفعل المأمور وترك المحظور محبة وخوفا ورجاء، وهذا يشمل كل خطرات القلوب وألفاظ اللسان وعمل الجوارح. وهذا هو الوعظ الشامل المطلوب بناؤه قال صلى الله عليه وسلم:
ضرب الله تعالى مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران، فيها أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا. وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله تعالى. وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله. والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم)1(1) رواه أحمد (17634) وصححه الألباني في مشكاة المصابیح (191)..
ربط الوعظ بتعظيم المولى ومحبته وخشيته وإنشاء هَم الآخرة في النفوس
لذا أنصح نفسي ومشائخي العلماء وإخواني الدعاة والمجاهدين وطلبة العلم وجميع الخطباء أن يربطوا جميع دروسهم ومحاضراتهم وخطبهم وجميع علومهم بهذا الجانب المهم من جوانب التربية والتزكية، ألا وهو جانب الوعظ بتعظيم الله عز وجل ومحبته والخوف منه ورجائه وإنشاء هم الآخرة في النفوس، وذلك في كل الدروس والمحاضرات والخطب بما في ذلك المواضيع والدروس العلمية البحتة كدروس العقيدة ودروس الفقه وأصوله وعلوم النحو والفرائض وغيرها، وهذا هو الغاية من العلم بجميع فروعه، فاقتضاء العلم والعمل والخشية الله عز وجل.
حقيقة العلم النافع
وهنا کلام نفيس للإمام ابن رجب رحمه الله تعالى يؤكد هذه المعاني، قال رحمه الله تعالى: (ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه. وحين إذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية الله، كما قال عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: ۲۸]، قال ابن مسعود وغيره (کفی بخشية الله علما وکفی بالاغترار بالله جهلا) وقال بعض السلف: (ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية) وقال بعضهم: (من خشي الله فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل) وكلامهم في هذا المعنى كثير جدا.
وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:
أحدهما: على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنی والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاؤه والتوكل عليه والرضا بقضائه والصبر على بلائه.
والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعد عما يكرهه ويسخطه. فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع، فمتى كان العلم نافعا ووقر في القلب فقد خشع القلب لله وانكسر له، وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما. ومتی خشع القلب لله وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به، فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا، وكل ما هو فاني لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند الله من نعیم الآخرة…. فالعلم النافع ما عرف به العبد ربه ودل عليه ووحده وأنس به واستحى من قربه، وعبده كأنه يراه.
ولهذا قالت طائفة من الصحابة: (إن أول علم يرفع من الناس الخشوع) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) وقال الحسن: (العلم علمان، فعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم. وعلم في القلب فذلك العلم النافع) وكان السلف يقولون: (إن العلماء ثلاثة. عالم بالله، وعالم بأمر الله. وعالم بالله ليس بعالم بأمره. وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، وأكملهم الأول، وهو الذي يخشى الله ويعرف أحكامه))2(2) فضل علم السلف على الخلف ص7..
الإخلاص والتقيد بالمأثورات يعين على قبول الوعظ في الأمة
إن مما يعين على نشر الوعظ في الأمة وقبولها له وتأثيره فيها إخلاص الواعظ لله عز وجل والحذر من طلب المال والجاه من وعظه وتخليص الوعظ مما شابه من المخالفات الشرعية والبدع المحدثة التي ابتدعها كثير من القصاص في القديم والحديث مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والتابعين لهم بإحسان.
يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف، وغير ذلك والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا. ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانيا. وفي ذلك كفاية لمن عقل. وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل)3(3) فضل علم السلف على الخلف ص6..
بعض المخالفات التي يجب على الوعاظ أن يجتنبوها حتى تؤدي الموعظة أثرها وثمارها في الأمة
المخالفة الأولى: الجهل والقول بلا علم
وذلك أن بعض الوعاظ هداهم الله عندما يجد نفسه واعظا للناس بلسانه أو قلمه، ولا سيما إذا كان متكلما فصيحا، فيظن بنفسه خيرا، وأنه على درجة من العلم والتقى، فيدفعه ذلك إلى أن يفتي في بعض مسائل الدين من عقيدة أو أحكام بغير علم أو بنصف علم، فيضل ويضل، فعلى من يدخل في وعظ الناس وإرشادهم أن يكون على علم بما يقول وعلى دراية من الشريعة وفهم نصوصها، فيما يوجه الناس إليه، فإن الله عز وجل يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم. ومما يجدر ذكره هنا أن كثيرا ممن يتصدر للوعظ مزجى البضاعة في علوم الشريعة ضعيف التحصيل منها.
المخالفة الثانية: الاعتماد على الأحاديث المنكرة والأخبار الواهية
وهي فرع عن سابقتها، وذلك أن بعض الوعاظ ولضعف علمه بالشريعة رواية ودراية، نجده يأتي بالغرائب في وعظه من أحادیث ضعيفة واهية أو موضوعة أو قصص غريبة، قد تكون مخالفة لأصول الشريعة وبديهة العقول، لذا وجب على الوعاظ أن ينقوا وعظهم من الاستدلالات الواهية والأخبار الغريبة، وفيما ورد من الكتاب والسنة الصحيحة غنية عما سواهما. يقول أحد السلف عن مثل هؤلاء الوعاظ: (يأخذون الحديث منا شبرا ويجعلونه ذراعا).
المخالفة الثالثة: الاعتماد على الأخبار والقصص الكاذبة
يجتهد بعض الوعاظ في ذكر بعض الأخبار والقصص الكاذبة بحجة التأثير في الناس وترغيبهم أو ترهيبهم. وليس في ذلك حجة، لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، وقدوتنا في هذا سيد الواعظين عليه الصلاة والسلام، فكان لا يقول ولا يخبر إلا حقا وصدقا، فكيف نرغب عن سنته صلى الله عليه وسلم ونقدم عليها الذي هو أدنى؟
المخالفة الرابعة: رفع الصوت وطول وقت الموعظة
المبالغة في رفع الصوت في أثناء الوعظ، وكأنها صياحا و نیاحا، ولا سيما مع المكبرات الصوتية حتى يضج المسجد وما حوله، ويحصل من جراء ذلك الإزعاج الشديد للسامعين، مما يضعف أثر الوعظ عليهم، ويودوا لو أنه سکت، ومن ذلك إملال السامعين وشعورهم بطول وقت الموعظة وعدم التحضير لها.
المخالفة الخامسة: تَصنُع الخشية والبكاء
إظهار المبالغة والزيادة من الواعظ في التخشع وتصنع البكاء مما يخشى فيه على الواعظ من الرياء والسمعة، ويلحق بذلك إظهار التفاصح والتشدق في الحديث، وإظهار حفظ المنقول من الكلام نثره وشعره.
المخالفة السادسة: اللحن والتغني بالآيات والأشعار
قيام بعض الوعاظ بتلحين وعظه والتغني به، وبعضهم يكتفي من ذلك بتلحين الآيات القرآنية والأشعار الزهدية. وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى أن هذا من البدع ولم ينقل عن السلف فعلها. يقول رحمه الله تعالى: (مما أحدثه الوعاظ وبعض الخطباء مغايرة الصوت عند تلاوة الآيات لنسق صوته في وعظه أو الخطابة وهذا لم يعرف عند السالفين، ولا الأئمة المتبوعين، ولا تجده لدى أجلاء العلماء في عصرنا، بل يتنكبونه، وكثير من السامعين لا يرضونه، والأمزجة مختلفة، ولا عبرة بالفاسد منها، كما أنه لا عبرة بالمخالف لطريقة صدر هذه الأمة وسلفها، والله أعلم)4(4) بدع القراء القديمة والمعاصرة ص32..
المخالفة السابعة: أن يحي الواعظ حياة البزخ والإسراف
المبالغة من بعض الوعاظ في التزيين والتجمل في الثياب والهيئة والعباءات الفاخرة، وكذلك التكلف والإسراف في نفقات السفر لإلقاء المواعظ، وكذلك في المأكل والمساكن والمراكب، وقد يكون هذا على حساب الداعين للواعظ القادم لبلدهم. هذا مع أن الواعظ في وعظه قد يزهد في الدنيا ويحذر من الركون إليها والتكاثر فيها، ويرغب في الآخرة، فما عسى أن يكون شعور السامعين له، وهم يرون التناقض بين القول والعمل؟
المخالفة الثامنة: التزام نهج المتصوفة في الوعظ
موافقة بعض المتصوفة في طريقة وعظهم وتقليدهم في بعض بدعهم وشطحاتهم، كالدعوة إلى ترك الدنيا وترك الأسباب والحث على اعتزال الناس بإطلاق وتغليب الخوف على الرجاء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى بحجة أن في ذلك فتنة.
الهوامش
(1) رواه أحمد (17634) وصححه الألباني في مشكاة المصابیح (191).
(2) فضل علم السلف على الخلف ص7.
(3) فضل علم السلف على الخلف ص6.
(4) بدع القراء القديمة والمعاصرة ص32.
اقرأ أيضا
لماذا الدعوة إلى اللَّه عز وجل..؟
من المقصود بالدعوة إلى الله عز وجل؟