إن الذي دفع هؤلاء إلى التحريف والتغيير، هو الهوى والمصلحة، هو ركونهم للحكام المحاربين لشرع الله، وحرصهم على مرضاتهم، وتهافتهم على وظائفهم ومراكزهم وأموالهم، إنهم ما أرادوا بذلك الكلام الباطل وجه الله، ولا نصرة دين الله، ولا بيان الحق، ولا احترام العلم، ولكنهم أرادوا به نظرة رضى من الحكام الظالمين، وكلمة تشجيعٍ منهم، ولعاعة من الدنيا يمنّون عليهم بها.

واجب التصدي للمفاهيم المغلوطة لبعض آيات القرآن

لقد ساءنا تحريف المحرِّفين لمعاني كلام رب العالمين، وللنتائج الخاطئة التي خرجوا بها منها، والأحكام الباطلة التي بنوها عليها، كما أزعجنا ازدياد نسبة هذه التحريفات في هذا الزمان، وشمولها لآيات ذات أبعاد شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية.

وقد قرأنا عن مفاهيم لبعضهم زعموها قرآنية مستمدة من القرآن، كما سمعنا كلاماً كثيراً أورد فيه أصحابه مفاهيم ومعاني زعموها قرآنية، مستمدَّة من آيات معينة، وقَبِل بعض الناس بهذا التحريف، وهذه النتائج والمفاهيم.

وحرصاً منّا على بقاء مفاهيم القرآن كما هي في كتاب الله، وعلى الفهم الصحيح لآيات القرآن، وقياماً منّا بواجب الحراسة على حسن الفهم للقرآن، وواجب الدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، وواجب تقديم العلم الذي نراه نافعاً للآخرين، فإننا سنورد نماذج حرَّفوها، واستنبطوا منها أحكاماً ومفاهيم زعموها قرآنية.

نماذج لآيات حرَّفوا معناها

وردت آياتٌ في سورة المائدة، تحرم التحاكم إلى غير الله، والحكم بغير شرع الله، وتعتبر التحاكم لغير شرع الله والحكم بغير شرعه كفراً وظلماً وفسقاً، وتعتبر الذين يقبلون هذا ويصدرونه ويشرعونه، كافرين وفاسقين وظالمين.

نورد الآيات أولاً، ثم نورد الفهم الخاطئ لها -عند بعضهم- والتحريف لمفاهيمها ودلالاتها، ثم نورد المعنى الصحيح لها، ونستشهد لذلك بأقوال الصحابة والتابعين والعلماء السابقين.

قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:44-50].

أوردنا الآيات التي وردت فيها تلك الصفات الثلاثة: الكافرون، الظالمون، الفاسقون، لنعيش في ظلال تلك الآيات، ونقف على السياق الذي ورد فيه النص، والموضوع الذي نتحدث عنه. لأنّنا نرى وجوب الوقوف على السياق العام الذي ورد فيه النص، والنظر فيه من خلال النصوص الأخرى، ومن لم يفعل ذلك فلن يخرج بالفهم الصحيح للنص، ولن يحسن استخراج دلالاتٍ منه.

الفهم المغلوط للآيات

وقف مسلمون معاصرون أمام هذه الآيات، وأمام الصفات الثلاث التي تطلقها على الذين يتحاكمون إلى غير شرع الله، أو يحكمون بغير شرع الله. فقالوا إنها لا تنطبق على حكامٍ مسلمين معاصرين حكموا بغير شرع الله، وسنوا قوانين وتشريعاتٍ ومناهج ونظماً لم يأذن بها الله، وإنما أخذوها من مناهج وتشريعات الكفار؛ قالوا إن الآيات لا تتحدث عن حكام اليوم، وإن الأوصاف التي فيها لا تنطبق على حكام اليوم.

قال هؤلاء: إن هذه الآيات وما فيها من صفات إنما تتحدث عن المِلل والأقوام قبل الإسلام، وقبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها تتحدث عن اليهود والنصارى. وحجتهم في ذلك أن الكلمات للآيات تقصرها على اليهود والنصارى.

قالت الآية الأولى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ)، فالكلام عن التوراة والحكم بها، والتوراة لليهود، وطالب الله الربانيين والأحبار بأن يحكموا بما أنزل الله، فإن لم يفعلوا ذلك فهم كافرون، ولذلك ختمت الآية بتلك الصفة: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

والآية الثانية تعرض بعض الأحكام الواردة في التوراة في موضوع القِصاص. ثم ختمت بصفة عامة على الأحبار والربانيين الذين لم يحكموا بها: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

أما التي تصف من لم يحكم بما أنزل الله بالفسق، فإنها تتحدث عن النصارى وتطالبهم بالحكم بالإنجيل فإن لم يفعلوا ذلك فهم فاسقون: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

فالصفات الثلاثة ” الكافرون، الظالمون، الفاسقون ” -عند هؤلاء- موجّهة لليهود والنصارى ومنطبقة عليهم، فلماذا يعممها مسلمون معاصرون؟ ولماذا يجعلونها منطبقةً على الحكام المعاصرين، الذين لم يحكموا بما أنزل الله؟ ويقوم هؤلاء الذين يشغلون وظائف إسلامية رسمية عند حكام لا يحكمون بما أنزل الله، بتخطئة المسلمين الآخرين الذين فهموا منها العموم.

ومن هؤلاء من يوزع الصفات الثلاثة ” الكافرون، الظالمون، الفاسقون ” على أتباع الأديان الثلاثة. فيجعل كلمة ” الكافرون ” منطبقة -فقط- على اليهود الذين يحكمون بغير التوراة، ويجعل كلمة ” الظالمون ” منطبقة -فقط- على النصارى الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. أما المسلمون الحاكمون بغير ما أنزل الله فهم -عند هؤلاء- فاسقون فقط!.

ويلاحظ أن هذا التقسيم و ” التوزيع ” لتلك الصفات لا يصدر عن علم أو دليل أو برهان، وإنما يقوم على المزاجية والهوى والتحكم.

قيود وشروط ما أنزل الله بها من سلطان

ومن المسلمين المعاصرين من يتناولون تلك الآيات من زاويةٍ أخرى، وينظرون في تلك الصفات بمنظارٍ آخر، إنهم يجعلونها منطبقة على حكام المسلمين المعاصرين، لكن بشروط خاصة.

إذا رأينا حاكماً مسلماً معاصراً يحكم بغير ما أنزل الله، فإننا لا نحكم عليه بالكفر والظلم والفسق، بل نسأله عن سبب تركه الحكم بشرع الله، وحكمه بغير ما أنزل الله، نسأله عن نظرته لشرع الله وشرع غير الله.

فإنْ حكم بغير شرع الله إيماناً به، وتصديقاً له، وتفضيلاً له على شرع الله، حكمنا بأنه كافرٌ ظالمٌ فاسق، هذا إذا كان ذلك الشرع يتعارض مع شرع الله!

أمّا إنْ كان يعتقد أنّ شرع الله الأفضل وحكم بغيره فإنه لا يكون كافراً!

إذا أخبرَنا هذا الحاكم بأنه خائف من تطبيق شرع الله، لأنه يخشى أن يهجم عليه الأعداء، ويخطفوه عن كرسيه، ويخلعوه عن سلطانه، فهو يداريهم ويسايسهم فيقصي شرع الله، مع إيمانه به، ويحكم بشرعهم مع كراهيته له. إنْ أخبرَنا هذا الحاكم بذلك فلا يكون كافراً!.

الهوى والمصلحة من دوافع التحريف والتغيير

ونرى أن الذي قام به هؤلاء هو تحريفٌ لمعاني الآيات، وتحريفٌ لمعاني الصفات الثلاثة، وتغييرٌ لمفاهيم قرآنيةٍ أصيلة، وإحلالٌ لمفاهيم بديلة مكانها لم يأذن بها الله ولم تتفق مع شرع الله. ونرى أن الذي دفع هؤلاء إلى التحريف والتغيير، هو الهوى والمصلحة، هو ركونهم للحكام المحاربين لشرع الله، وحرصهم على مرضاتهم، وتهافتهم على وظائفهم ومراكزهم وأموالهم، إن هؤلاء تجار، يتاجرون بدينهم، وينبذُون عهد الله عليهم بالبيان والصدق والشجاعة والصراحة، ويقومون بدله بالتزييف والتذبذب والنفاق، والتحريف والتغيير والتبديل. إنهم ما أرادوا بذلك الكلام الباطل وجه الله، ولا نصرة دين الله، ولا بيان الحق، ولا احترام العلم، ولكنهم أرادوا به نظرة رضى من الحكام الظالمين، وكلمة تشجيعٍ منهم، ولعاعة من الدنيا يمنّون عليهم بها.

والعجيب أن كلام هؤلاء التجار من ” المشايخ الرسميين ” كله سذاجة وبلاهة، رغم ما فيه من باطل وضلال!

بدعة سؤال الحكام المبدلين لشرع الله: عن سبب عدم حكمهم بشرع الله

إنهم يسألون الحكام عن سبب عدم حكمهم بشرع الله، واختيارهم أحكام الكفار! يسألون الحكام! من هو ذلك الذي يجرؤ على سؤال الحكام؟ أهو واحد من هؤلاء التجار؟ وهل يملكون قدراً من الشجاعة حتى يوجهون ذلك السؤال؟ وإن ملكوها ووجهوا السؤال، فهل يتنازل الحكام للإجابة على ذلك السؤال؟.

ثم لنفترض أنهم أجابوا فهل نتوقع أن يكونوا صرحاء معنا؟ أي حاكم يواجه شعبه بصراحة؟ ليقول لهم: إنني ما حكمت بشرع الله لأني لا أؤمن به؟ وما حكمت بشرع غير الله لإيماني به! أي حاكم يقبل أن يدين نفسه أو يفتح عليه باباً لا يمكن أن يُغلق؟ ويواجه مشاعر المسلمين مواجهةً صارخةً مكشوفة؟ إنه لا يفعل ذلك إلا من اتصف بالبلاهة والسذاجة و ” العبط “؟.

وطالما أنه لا يمكن أنْ يعلنها صريحة إلا ذلك الحاكم الملحد الشيوعي، فالذي يقول بتوجيه السؤال للحاكم، ويجلس ينتظر منه الجواب، ويتوقع أن يعترف بصراحة، هو الذي يتصف بالسذاجة والبلاهة والغفلة و” العبط “.

كل الحكام -يا سيدي الشيخ- إن اضطروا لمواجهة الشعوب المسلمة، والرد على مطالبها بتطبيق شرع الله، سيقولون إنهم يؤمنون بشرع الله، ولكنهم لا يطبقونه لأن الوقت غير مناسب، والظروف غير ملائمة، أو لأنهم خاضعون لضغوط شديدة من دول كبرى.

لماذا نسأل الحكام عن نظرتهم لحكم الله أو عن موقفهم منه؟ لماذا ننتظر منهم تصريحاً أو جواباً؟ لماذا نحرص على سماع كلامهم وقولهم وصوتهم؟. وَهَبْ أنّهم أعلنوا قبولهم لشرع الله، وتصديقهم به، هل يكون هذا مقبولاً منهم أو كافياً للشهادة لهم؟ طالما أنهم لا يطبقون شرع الله، بل يحاربونه ويقصونه، ويحلون محله الأنظمة والقوانين والتشريعات المأخوذة عن الكفار أعداء الله.

إن هذا يدل على سذاجة وغفلة الذين يطلبون هذا، وينتظرونه من الحكام، ويتوقفون عليه للحكم لهم أو عليهم.

دلالة العمل أقوى من دلالة القول

ما هو المقدَّم في الإِسلام لسان الحال أم لسان المقال؟ وما هو المعتمد في الإِسلام القول أو العمل؟ وإذا اختلف القول مع العمل وتعارضا وتناقضا فأيهما الغالب والأرجح والمعتبر والمعتمد: القول أم العمل؟

إن القول المجرد لا يكاد يساوي شيئاً في الإسلام، فلا بد أن يُتبعه صاحبه بالعمل والسلوك والالتزام، بمعنى أنه لا بد أن تكون حياة هذا الإِنسان متوافقةً مع ما يقوله ويعتقده ويصرح به، فإذا ما كانت حياته وتصرفاته وسلوكه وممارساته، متعارضةً مع القول الذي نطق به، فإن هذا الإِنسان عرضةٌ للذم والعذاب. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:1-2].

إن لسان الحال في الإسلام أبلغ من لسان المقال، والمعتمد في الإسلام هو العمل الذي يصدق القول، ولا يُلتفت لقول لم يصدقه العمل، وحتى الإيمان لا بد فيه من عملٍ صالح، يوافق القول والاعتقاد، ورحم الله الحسن البصري حيث يقول: ” ليس الإيمان بالتّمنّي ولا بالتَّحلِّي، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقه العمل “.

إذا ما اختلف القول والعمل فالمعتبر والمقبول هو العمل، لأن دلالة العمل أقوى من دلالة القول. فرق بين من يقول ويعمل، يقول: “سمعنا وأطعنا”. وبين من يقول ولا يعمل، يقول: ” سمعنا وعصينا “.

الصحابة تلقوا الأوامر والتزموا بها، قالوا وعملوا والتزموا، (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

واليهود تلقوا الأوامر فخالفوها، أمرهم موسى عليه السلام أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا بألسنتهم: سمعنا وأطعنا، ولكنهم في مجال التنفيذ والالتزام عصوا وتمردوا، فرجح جانب فعلهم المخالف على جانب كلامهم الموافق، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[البقرة:93].

فلو قال الحكام ألف مرة إنهم يؤمنون بحكم الله، ويحبون شرع الله، ثم خالفوا هذا القول في الواقع، ثم أقصوا شرع الله وحكموا بما لم يأذن به الله، فلا قيمة لكلامهم ولا أثر له، وإنما المعتبر والمعتمد هو فعلهم وعملهم.

هذا إذا قالوا وصرحوا، فكيف إذا لم يقولوا ولم يصرحوا، فكيف نستنطقهم بما لم ينطقوه، ونقولهم ما لم يقولوه، ونقول: إنهم يؤمنون بشرع الله، ويعتقدون أنه الأفضل والأوْلى، ولكنهم عاجزون عن الالتزام به.

لا تنظر إلى دموع عينيه ولكن انظر إلى فعل يديه

إن هذه الغفلة والسذاجة التي تصدر عن هؤلاء الذين يقولون هذا القول، وينظرون بهذا المنظار، ويفهمون هذه الآية هذا الفهم، تذكرنا بقصة الصياد مع العصافير، وهي قصة رمزية هادفة ذات دلالة.

يُحكى أن صياداً اصطاد مجموعة من العصافير في يومٍ بارد، ثم وضعها أمامه، وصار يذبحها واحداً واحداً، والباقي ينظر ويتفرج. وكانت دموع الصياد الجزار تنزل من عينيه بسبب البرد القارس والريح الشديد، فنظر عصفوران إليه وإلى دموعه، فقال أحدهما للآخر: انظر إلى الصياد المسكين، كيف يبدو حزيناً على ذبحنا، إنه يبكي شفقة علينا ورحمة بنا! فقال له العصفور الآخر بفطنة وذكاء: ” لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى فعل يديه “.

فننصح المسلمين المعاصرين عندما يتعاملون مع الحكام الذين يقصون شرع الله وُيحلِّون مكانه شرع الكافرين، أن لا تخدعهم المظاهر والأقوال والتصريحات التي تصدر عن هؤلاء الحكام ولكن فلينظروا إلى تصرفاتهم وأعمالهم وممارساتهم وقوانينهم. بمعنى آخر نَهدي لهم قول العصفور الذكي: “لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى فعل يديه”.

الفهم الصحيح للآيات: (فأولئك هم الكافرون … الظالمون … الفاسقون)

إن الآيات موضوع البحث تتحدث عن الحكام أينما كانوا وحيثما وجدوا، إنها تحذر هؤلاء من الحكم بغير ما أنزل الله، وكل من ارتكب هذه المخالفة منهم، فإن الآيات تصفه بالكفر والظلم والفسوق.

وصفات ” الكافرون، الظالمون، الفاسقون ” ليست خاصة بالحكام من اليهود والنصارى، ولا خاصة بالذين رفضوا حكم الله عن جحود وإنكار، إنها عامة تنطبق على كل من لم يحكم بما أنزل الله.

وقد وردت أقوالٌ كثيرة عن علماء من سلف هذه الأمة وخلفها في التصريح بهذه الحقيقة، والتأكيد عليها، وتفسر هذه الآيات التفسير الصحيح لها، وتقدم هذا المفهوم الصائب عنها.

قال التابعي الجليل إبراهيم النّخعي عن هذه الآيات: نزلت في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها.

وقال الحسن البصري: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة.

وقال الشعبي عن تلك الصفات الثلاث: الكافرون، والفاسقون، والظالمون: أوّلها في هذه الأمة، وثانيها في اليهود، وثالثها في النصارى.

وذكرت هذه الآيات عند حذيفة بن اليمان، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل. فقال حذيفة: نعْم الإخْوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتَسْلُكُنَّ طريقهم قدر الشراك.

وقال ابن عباس: نعْم القوم أنتم، إن كان ما كان من حلو فهو لكم، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب. كأنه يرى أن ذلك في المسلمين.

وعن حكيم بن جبير قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة ” الكافرون، الظالمون، الفاسقون ” فقلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا. قال: اقرأ ما قبلها وما بعدها، فقرأت عليه فقال: لا بل نزلت علينا.

وعن علقمة ومروان أنهما سألا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الرشوة، فقال: من السحت. فقالا: أفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر. ثم تلا الآية: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

وعن السدي التابعي: ومن لم يحكم بما أنزل الله: ومن لم يحكم بما أنزلت، فتركه عمداً، وجارَ وهو يعلم، فهو من الكافرين.

وقال الطبري في تفسير هذه الآيات: ” إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرين، وكذلك الحكم في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر “.

وقال ابن كثير عن تشريعات التتار وجنكيزخان والياسق الذي شرّعه للناس: ” فمن فعل ذلك منهم، فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكَّم سواه في قليل ولا كثير “.

وقال شارح العقيدة الطّحاوية: ” إنّ الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً مخرجاً عن الملة، وقد يكون معصيةً كبيرةً أو صغيرة، وهذا الكفر إما مجازياً، وإما كفراً أصغر -على القولين السابقين- ذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخيرٌ فيه، أو استهان به، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفرٌ أكبر “.

– وقال الشيخ محمد رشيد رضا في المنار: ” ذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروطٌ بشرطٍ معروفٍ من القواعد العامة، وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله منكراً أو راغباً عنه، لاعتقاده بأنه ظلم، مع علمه بأنه حكم الله، ونحو ذلك، مما لا يجامع الإِيمان والإذعان.

ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد، والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وإن العقل يتعسر عليه أنْ يتصور أنَّ مؤمناً مذعناً لدين الله، يعتقد أنَّ كتابه يفرض عليه حكماً، ثم هو يغيره باختياره، ويستبدل به حكماً آخر بإرادته، إعراضاً عنه، وتفضيلاً لغيره عليه، ويقر مع ذلك بإيمانه وإسلامه “.

وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: ” إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضحُ وضوح الشمس، هي كفرٌ بَواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام -كائناً من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئٍ حسيب نفسه “.

وقال شقيقه محمود محمد شاكر عن الحكام المعاصرين الحاكمين بغير ما أنزل الله: ” فهذا الفعل إعراضٌ عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثارُ لأحكام الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفرٌ لا يشك أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفير القائل به والداعي إليه “.

وقال الأستاذ المرحوم حسن الهضيبي: ” أما الحاكم على خلاف الأمر، بمعنى المعطي صفة شرعيةً للشيء أو الفعل على خلاف أمر الله، فهو -بالإجماع- مستجيزٌ خلاف الله ورسوله، جاحدٌ للنص المعلوم له، كافرٌ مشرك “.

ونختم هذه الأقوال بقول الشهيد سيد قطب: ” وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، بهذا الحسم الصارم الجازم، وبهذا التعميم الذي تحمله ” مَنْ ” الشرطية وجملة الجواب، بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله، في أي جيل، ومن أي قبيل.

والعلة هي التي أسلفنا، هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله، يرفض ألوهية الله، فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية، ومن يحكم بغير ما أنزل الله يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدّعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر، وماذا يكون الكفر إنْ لم يكن هو هذا وذاك؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان، والعمل -وهو أقوى تعبيراً من الكلام- ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟!

إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة، والتأويل والتأوُّل في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه، وليس لهذه المماحكة من قيمةٍ ولا أثر، في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد “.

ويقول سيد عن الصفة الثانية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): ” والتعبير عام، ليس هناك ما يخصصه، ولكن الوصف الجديد هنا هو ” الظالمون ” وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالةٌ أخرى، غير التي سبق الوصف فيها بالكفر، وإنما يعني إضافة صفةٍ أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله.

فهو كافرٌ باعتباره رافضاً لألوهية الله سبحانه، واختصاصه بالتشريع لعباده، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس وهو ظالمٌ بحمل الناس على شريعةٍ غير شريعة ربهم، الصالحة المصلحة لأحوالهم، فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وبتعريض حياة الناس -وهو معهم- للفساد.

وهذا ما يقتضيه اتحاد المسنَد إليه وفعل الشرط (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله) فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول، ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط، وهو ” مَنْ ” المطلق العام “.

وقال عن الآية الثالثة: (فأولئك هم الفاسقون): ” والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه، وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل، وليست تعني قوماً جدداً، ولا حالةً جديدةً منفصلة عن الحالة الأولى، إنما هي صفةٌ زائدةٌ على الصفتين قبلها، لاصقةٌ بمن لم يحكم بما أنزل الله، من أي جيل، ومن أي قبيل.

الكفر برفض ألوهية الله ممثلاً هذا في رفض شريعته. والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله، وإشاعة الفساد في حياتهم. والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه. فهي صفات يتضمنها الفعل الأول، وتنطبق جميعها على الفاعل، ويبوء بها جميعاً دون تفريق “.

ويصدر سيد حكماً عاماً قاطعاً مستمداً من حسن فهمه للآيات السابقة: ” والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون، والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين “.

آياتٍ أخرى في موضوع الحكم والتشريع

وحتى يكون فهمنا للآيات -موضوع البحث- صحيحاً، فلا بد من أن نقرن معها آياتٍ أخرى في موضوع الحكم والتشريع، ووجوب كونه مأخوذاً من شرع الله.

قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [يوسف:40].

وقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام:114].

وقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65].

وقال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [الننور:51].

وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36].

المصدر

” تصويبات في فهم بعض الآيات” للشيخ صلاح الخالدي، ص230-243.

اقرأ أيضا

الحاكمية بين الاسلاميين .. والخوارج والعلمانيين

رسالة تحكيم القوانين .. للشيخ محمد بن ابراهيم

وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه .. لابن باز

حكم الاحتكام إلى القوانين الوضعية (لابن باز)

فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك

الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة

التعليقات غير متاحة