أخذت الدنيا في الرحيل ولم يبق من شعثها إلا القليل، القليل من الوقت، والقليل من المتاع. كدرها سابق ونغصها كثير. وأما البقاء فله دار أوشك القدوم عليها.
مقدمة
أوتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جوامع الكلم، وتضمن كلامُه أصول العلم؛ إذ هو وحي ربانيٌ يوحَى اليه؛ فبلغ القرآن وبلغ السنة. ومن أعظم ما بلغه بعد حق الله في التوحيد؛ حقيقة الدار الآنية، وحقيقة الدار المقبلة، للإزعاج والرحيل وأخذ الأهبة وعدم الركون في ممر لا بقاء له. وهذه بعض الأمثلة التي ضربها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحقيقة دنيانا وللدار الأخرى القادمة لا محالة.
آكلة الخضر أو المقتولة حبَطا
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: «إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها»، فقال رجل: أوَيأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضاءَ، وقال: «أين هذا السائل؟» وكأنه حمده فقال: «إنه لا يأتي الخير بالشر» وفي رواية فقال: «أين السائل آنفًا؟ أوَخيرٌ هو؟» ثلاثًا «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا (1(حبطًا) حبط بطنه: إذا انتفخ فهلك) أو يُلِمُّ (2(أو يلم): ألمَّ به يلمُّ: إذا قاربه ودنا منه. يعني: أو يقرب من الهلاك)، إلا آكِلَةُ الخْضِر (3الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ. وليس من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه لعدم غيره)، فإنها أكلت، حتى إذا امتدت خاصِرتاها استقبلت عين الشمس، فثلَطَت (4فثلطت: ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلًا رقيقًا) وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خَضِرٌ حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة». (5البخاري في الزكاة، باب: الصدقة على اليتامى، مسلم (1052))
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى معلقًا على هذا المثال:
“أخبر صلى الله عليه وسلم أنه إنما يخاف عليهم الدنيا، وسمَّاها زهرة؛ فشبهها بالزهر في طيب رائحته وحسن منظره وقِلة بقائه، وأن وراءه ثمرًا خير وأبقى منه.
وقوله: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يُلمّ»، هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها؛ وذلك أن الماشية يَروقها نبت الربيع، فتأكل منها بأعينها، فربما هلكت حبطًا، والحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض؛ يقال: «حبط الرجل والدابة تحبطًا وحبطًا» إذا أصابه ذلك.
والشرهة في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله؛ وهو قوله: «أو يُلمّ». وكثير من أرباب الأموال إنما قتلتهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: «إلا آكلة الخضر»، هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته؛ مثَّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها: «أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها». وفي لفظ آخر: «امتدت خاصرتها»؛ وإنما تمتد من امتلائها من الطعام، وثنى الخاصرتين لأنهما جانبا البطن.
وفي قوله: «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت» ثلاث فوائد:
إحداها: أنها لمَّا أخذت حاجتها من المرعى، تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.
الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة.
وأولُ الحديث: مثل الشرِه في جمع الدنيا الحريص على تحصيلها، فمثاله مثال الدابة التي حملها شرَه الأكل على أن يقتلها حبطًا، أو يلم إذا لم يقتلها؛ فإن الشرِهَ الحريصَ إما هالك وإما قريب من الهلاك؛ فإن الربيع ينبت أنواع البقول والعشب، فتستكثر منه الدابة حتى ينتفخ بطنها لما جاوزت حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها، ويحبسها أو يصرفها في غير حقها.
وآخر الحديث: مثل للمقتصد بآكلة الخضر الذي تنتفع الدابة بأكله، ولم يحملها شرهُها وحرصها على تناولها منه فوق ما تحتمله، بل أكلت بقدر حاجتها. وهذا مثل الذي أخذ ما يحتاج إليه ثم أقبل على ما ينفعه، وضرب بول الدابة وثلطها مثلًا لإخراجه المال في حقه؛ حيث يكون حبسه وإمساكه مضرًّا به، فنجا من وبال جمعه بأخذ قدْر حاجته منه، ونجا من وبال إمساكه بإخراجه، كما نجت الدابة من الهلاك بالبول والثلط.
وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل كثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعًا.
وتضمن الخبر أيضًا إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه؛ وهو الإخراج منه وإنفاقه، ولا يحبسه فيضره حبسه، وبالله التوفيق». (6«عدة الصابرين» (ص281-282))
مسافر يَقيل تحت شجرة
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على رُمَالِ حَصِير، وقد أثَّرَ في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخَذنا لك وطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير، يقيك منه؟ فقال: «ما لي وللدنيا؛ ما أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها». (7رواه الترمذي (2378) في الزهد، باب: رقم (44) وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» برقم (1936))
ويعلق الإمام ابن القيم على هذا المثال بقوله:
“فتأملْ حُسن هذا المثال، ومطابقته للواقع سواء؛ فإنها في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا، ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق». (8«عدة الصابرين» (ص279))
النسبة بين الفاني والأبدي
عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت مستوردًا أخا بني فهر وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه» وأشار يحيى بن سعيد بالسبابة «في اليم، فلينظر بم ترجع؟». (9رواه مسلم (2858))
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
“وهذا أيضًا من أحسن الأمثال؛ فإن الدنيا منقطعة فانية، ولو كانت مدتها أكثر مما هي، والآخرة أبدية لا انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور، بل لو فرض أن السموات والأرض مملوءتان خردلًا وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفني الخردل، والآخرة لا تفنى؛ فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل». (10«عدة الصابرين» (279-280))
غريب عابر
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. (11البخاري في الرقاق (6416))
هوانها على الله أعظم
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلًا من بعض العَوَالي، والناس كنفتيه، فمر بجدْيٍ ميتٍ أَسَكَّ (12الأسك: مقطوع الأذن أو صغيرها)، فتناوله وأخذ بأُذنه، ثم قال: «أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟» قالوا: ما نحب أنَّه لنا بشي، ما نصنع به؟ إنه لو كان حيًّا كان عيبًا فيه أنَّهُ أسكُّ. قال: «فوالله للدُّنيا أَهون على الله من هذا عليكم». (13رواه مسلم (2957))
قبيل الغروب..!
عن المطلب بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أنه كان واقفًا بعرفات فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب فبكى واشتد بكاؤه. فقال له رجل عنده: يا أبا عبد الرحمن قد وقفت معك مرارًا لم تصنع هذا. فقال: ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بمكاني هذا فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه». (14«الفتح الرباني» (4/ 24)، وقال البنا: إسناده صحيح)
في هذا الحديث بيان أن الدنيا كلها كيوم واحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره قبل غروب الشمس بيسير.
خاتمة
صرّف الله ورسوله المعاني، وكررها للتعليم والموعظة. وتعددت المداخل للنفوس؛ فنفسٌ تتلقى هذا المثال وتتأثر به ويعظها في نفسها ويصل الى قلب صاحبها، ونفس أخرى تتلقى مثالا آخر.
إن حقيقة الدنيا واحدة، ونسبتها الى الآخرة لا تقارَن. وكلام الله ورسوله ليُجلي لنا هذه الحقيقة ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (الأعلى: 16-17). فمن عقل فقد تجنب الهلكة وإلا فلا يلومن إلا نفسه، وقد بلغنا الله ورسوله.
………………………….
الهوامش
- (حبطًا) حبط بطنه: إذا انتفخ فهلك.
- (أو يلم): ألمَّ به يلمُّ: إذا قاربه ودنا منه. يعني: أو يقرب من الهلاك.
- الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ. وليس من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه لعدم غيره.
- فثلطت: ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلًا رقيقًا.
- البخاري في الزكاة، باب: الصدقة على اليتامى، مسلم (1052).
- «عدة الصابرين» (ص281-282).
- رواه الترمذي (2378) في الزهد، باب: رقم (44) وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» برقم (1936).
- «عدة الصابرين» (ص279).
- رواه مسلم (2858).
- «عدة الصابرين» (279-280).
- البخاري في الرقاق (6416).
- الأسك: مقطوع الأذن أو صغيرها.
- رواه مسلم (2957).
- «الفتح الرباني» (4/ 24)، وقال البنا: إسناده صحيح.