أمة تحج وتجاهد. وكاتبون وكتائب. ومداد ودماء

تلك أربعة أمور قد اجتمعت، فتمثل فيها اجتماع الحاضر بالتاريخ، والنازلات بالذكريات، والخاص بالعام.. فتأمل!

بين سخرية الصهاينة وصمت الحكام.. 

قبل أيام نفذ الصهاينة اقتحاماً جديداً للمسجد الأقصى المبارك، ومَكَّنوا قطعاناً من المستوطنين من إقامة شعائر تلمودية في ساحته، وتبع ذلك كله احتفال وهيجان، وفيه قام أولئك الصهاينة -لعنهم الله- بسبٍّ جماعي لنبينا المعظم الأكرم ﷺ.

وبعدها قام أحدهم في (الكنيست) ليسخر هازئاً من أجهزة الأمن الإسرائيلية التي كانت طوال سنوات سابقة تمنع المستوطنين من تنفيذ مثل هذه الشعائر، وتبرر ذلك بأنه لو صلى يهودي واحد في المسجد الأقصى لانفجر الشرق الأوسط كله. يقول هذا بين الشماتة والسخرية: ها قد صلى آلاف اليهود وليس يهوديٌ واحدٌ ولم يحدث شيء!

لم يعد مشهد اليهود وهم يقيمون صلواتهم في الأقصى، ولا مشهدهم الجماعي وهم يسبون نبينا ﷺ مشهداً جديداً، لقد صار مشهداً متكرراً..

وهو مشهدٌ يخبرك بحقيقة الحال الذي وصلنا إليه، وعلى الأخص والأدق: وصلت إليه هذه الأنظمة العربية والإسلامية وحُكَّامها. ذلك أنه يُمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزة ضعيفة لا تقوى على مجابهة الصهاينة ومواجهتهم وإيلامهم. وليس هذا التفهم بعذر أبداً، فإن أغلب هؤلاء الحكام مستقرون في بلادهم وممالكهم منذ سنين: عشر سنين وعشرين سنة وربع قرن ويزيد، فلو كان فيهم مخلص صادق يعمل بجد على نهضة بلده وشأنه ليجعل منها قوة حقيقية غير مستذلة ولا مرهونة للصهاينة، لكان الآن في حال آخر يتمكن معه من الأخذ والرد والمساومة والقول والتهديد! غير أنهم لما كانوا خالين من الوطنية والانتماء فإن بلادهم زادت بهم ذلاً وخزياً وعاراً!

ليسوا جهلة ولا ضعفاء.. بل خونة متواطئون مع محتلي الأقصى!

أقول: يمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزة عن تهديد الصهاينة ومنعهم من تدنيس الأقصى ومن سبّ النبي الأكرم ﷺ، فهل يمكن إذن تفهُّم أن تستمر العلاقات السياسية والاقتصادية بينهم وبين الصهاينة بعد هذا كله؟ لو كان عندهم دينٌ يحركهم، أو كانت في قلوبهم محبة حقيقية للنبي ﷺ، لظهر ذلك على تصرفاتهم وسلوكهم.

لكن العجيب الغريب -وما هو بعجيب ولا غريب على من يعرف حقيقتهم- أن تلك الأنظمة وهؤلاء الحكام -ومنهم اثنان ينتسبان بالنسب إلى النبي ﷺ، وما هما من أهله- يزيدون في التعاون مع الصهاينة رغباً ورهباً، إيماناً واحتساباً.. فأحدهما يواصل إمداد الصهاينة بما يحتاجونه من غذاء وسلع وأجهزة عبر معابره المفتوحة للبضائع المغلقة على المُقاومين، والثاني يستقبل لهم السفن التي تحمل الأسلحة والذخائز القاتلة للمسلمين فينزلها في موانئه للتزود بالوقود والصيانة ولوازم استكمال الرحلة! ثم هو الآن ينفذ معهم تدريبات عسكرية مشتركة يُطوِّرون فيها قدراتهم على قتل المسلمين في غزة!

إنها حوادث كاشفة فاضحة، والحديث عن أن هؤلاء الحكام مثلهم مثل الظلمة الجائرين من حكام المسلمين قديماً هو حديث خرافة، فلا نعرف في أخبار السابقين -من الجائرين الظالمين- مَن كان يُجهَر بسبِّ النبي ﷺ أمامه ثم هو لا يزال يوالي عدو الله وعدو رسول الله ﷺ، ويحرص على إمداده بما يحتاج من مال وسلاح ومؤامرات!

خلعهم واجب ديني وضرورة حياتية

وذلك الحال يضع على عاتق العلماء وعاتق الشعوب مهمة ثقيلة ثقيلة في ضرورة إزاحة هؤلاء وإقصائهم وعزلهم وخلعهم عن مناصبهم، إن لم يكن بالواجب الشرعي الذي يستشعره المسلم ديناً ويُحاسب عليه في الآخرة، فلضرورة الحياة الكريمة الطبيعية في الدنيا، وهي الأمر الذي يحرص عليه حتى العلماني الذي لا يطلب إلا الدنيا.. فإن استمرار هؤلاء الحكام، وإن انكسار المقاومة في فلسطين، سيجعل هؤلاء الصهاينة يتمددون ليسبوا رسول الله ﷺ في الأزهر الشريف وفي الجامع الأموي وفي المسجد النبوي.. كيف لا، وهم يعلنون أن أرضهم تمتد من النيل إلى الفرات؟!!

إن الحفاظ على الحياة الدنيا، حتى لمن لم يُرِد إلا الحياة الدنيا، له ولأبنائه من بعده، لتدفعه دفعاً نحو مكافحة هذه الصهيونية السرطانية الخبيثة أن تتمدد إلى ما سواها من البلدان! وهي مكافحةٌ من ضروراتها وحتمياتها ولوازمها: إغاثة المقاومة في فلسطين بكل سبيل، وإزاحة هذه الأنظمة بكل سبيل أيضاً.

القسطنطينية والأقصى: بين فاتح صنع التاريخ.. وحكام يبيعون التاريخ!

وحيث وصلنا إلى ذكر الصمود وضرورته.. فإنه تظللنا في هذه الأيام ذكرى فتح القسطنطينية، التي فُتحت في 29 مايو 1453م، قبل نحو خمسة قرون وسبعين عاماً. وفي هذه الذكرى صمودان يستحقان التوقف عندهما توقفاً ملياً..

أما الصمود الأول فهو صمود القسطنطينية ذاتها، لقد صمدت أمام المسلمين ثمانية قرون، ولم يستطع المسلمون فتحها لا في عهد الأمويين ولا العباسيين، ولو أنها فُتِحَتْ في الموجة الأولى للفتوح لكان التاريخ قد انقلب وكان الإسلام قد عمّ أوروبا كلها خلال قرن أو اثنين على الأكثر!

لكن صمود هذه المدينة، التي كانت قلعة المسيحية الأرثوذكسية العتيقة لثمانية قرون، وفَّر الفرصة لأوروبا وللمسيحية الغربية أن تقوى ويشتد عودها، وتنبت لها قرون أخرى من القوة وعواصم أخرى فتية تستكمل مهمة مواجهة الإسلام. فعندما انهارت القسطنطينية لم تنهَر العقبة النصرانية، بل بعد سقوطها بأربعين سنة فقط كانت قوة النصرانية في إسبانيا تستكمل طرد المسلمين من الأندلس، وتكتشف الأمريكتين وتحوزها، وتلتف لتحتل بلاد المسلمين في غربي إفريقيا وشماليها وجنوبيها وجنوبي آسيا! وكان لذلك كله نتائج كارثية على المسلمين لا تزال حتى الآن.

كيف يتحول الصمود من مقاومة إلى نصر؟..

وأما الصمود الثاني فهو صمود محمد الفاتح نفسه وإصراره على فتح المدينة العنيدة، كان إصرار الفاتح على فتح القسطنطينية لا يهتز، ومع أنه لقي في حرب فتحها من العنت والشدة والإخفاقات ما يجعل أي متابع يفكر في تأجيل المعركة وإعادة الكَرّة بعد فترة، وهو الأمر الذي اقترحه عليه فعلاً بعض وزرائه وقادة حربه، ولكنه أبى وبشدة.. وبسبب هذا الإصرار الملحّ على فتح هذه المدينة، فتح الله عليه بالفكرة العبقرية غير المسبوقة ولا الملحوقة، وهي تسيير السفن فوق الجبل للنزول بها في خليج القرن الذهبي وتجاوز عائق السلسلة الحديدية التي تغلق مجرى المضيق، وبهذا تم له الفتح!

إن الصمود في موقف واحد قد يغير خريطة التاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد.. وكذلك الصمود في موقف مقابل قد يحفظ خريطة التاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد..

ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة على هذا.. إن التاريخ ينقلب وتتغير مساراته بالمعارك، والمعركة الضخمة هي سلسلة من المواقف، وقد يكون الرجل الواحد في الوقت المناسب والمكان المناسب فارقاً في حركة التاريخ..

هذا ما تصنعه الآن غزة.. وهذا ما تفرط فيه الآن سائر الدول العربية والإسلامية! فلغزة كل ما ينبني على المعركة من الأجر والفوز والظفر، ولهؤلاء المتخاذلين كل ما سينبني عليها من الفوت والخسارة والفرصة الثمينة الضائعة!

لا تكرروا خطأ الماضي.. فالهزيمة الأولى تجرّ ألف هزيمة

وما دمنا في حديث الذكريات التي تفرض حضورها في الواقع، وفي الواقع المرّ الذي يجذب أشباهه من الماضي، فقبل نحو ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي مثل هذا الصيف كان الشام يعيش آخر صيفٍ إسلامي قبل أن تَجْبَهه الحملات الصليبية..

ويكفي للقارئ أن يعلم من ذلك التاريخ شيئاً واحداً واضحاً: إن الحملات الصليبية التي غيرت التاريخ ولا تزال حاضرة وحيّة حتى الآن، إنما هي ثمرة لنجاح حملة صليبية واحدة هي الحملة الأولى.. وأما بقية الحملات الصليبية السبعة فكلها قد فشل وعاد مهزوماً!

لكن انتصارهم الأول وهزيمتنا الأولى شجعهم وحرضهم على المحاولة المستمرة لثماني مرات أخرى عبر قرنين من الزمان.. لقد كشفت الهزيمة الأولى أمام الحملة الصليبية الأولى أننا أمة ضعيفة ممزقة يمكن أن تُهزم ويمكن أن يُنتزع منها بيت المقدس!!

ولو استطاع المسلمون يومها صدّ هذه الحملة الأولى ودحرها فأقل الأحوال أن أوروبا كانت سترجع عن فكرة الحملات الصليبية لقرن واحد على الأقل، قبل أن ينسيها هذا القرن الذكرى ودرس الهزيمة لتحاول مرة أخرى.

الانقسام ثم الهزيمة..

والقارئ لتاريخ الحملات الصليبية يعرف جيداً أن هزيمة هذه الحملة الصليبية الأولى كان ممكناً غاية الإمكان، فلولا ما كان فيه المسلمون من التفرق والتمزق لاستطاعوا إبادتها بسهولة، ولقد سنحت فرصٌ كثيرة لإبادة هؤلاء ولكن فشلت جميعها لا لفارق القوة ولا العدد، بل لشيوع التنازع والتحارب بين المسلمين، وتلك تفاصيل مريرة لا يتسع لها المقام، وكلها تفاصيل مؤلمة ومحرقة!

كيف تُهزم الأمة من الداخل قبل أن يهزمها العدو؟!

الحرب بين قلج أرسلان والحكيم الدانشمند مَكَّنت الصليبيين من احتلال عاصمة السلاجقة المسلمين في آسيا الصغرى ثم اخترقوها إلى أنقرة، ثمانية أشهر صمدها أمير أنطاكية يطلب نجدة المسلمين فلم ينجدوه مع أن الصليبيين الذين يحاصرونه قد هلكوا من الجوع، وهو نفسه هذا الأمير لو صمد ثلاثة أيام أخرى فحسب لكان قد رأى جيش الموصل قد وصل، وجيش الموصل نفسه لو لم يكن تلكأ لكان قد وصل قبل سقوط أنطاكية، ولو أن قائده لم يكن عنيداً متعجرفاً لكان قد انتصر على الصليبيين واستعاد منهم أنطاكية بعد أيام من اقتحامها، ولو أن العلاقة بين قائده ورجاله، أو بين قائده وبقية الأمراء في الشام كانت أحسن حالاً لاستطاع سحق الصليبيين، وإنقاذ الشام كله.. ومائة “لو” تخبر بها كتب التاريخ، كانت الواحدة منها لتحفظ بلاد المسلمين من هذا الشر المستطير الذي سُفكت فيه دماء الملايين وما لا يُعد ولا يُحصى من الخسائر الأخرى، ولا تزال أمتنا حتى يوم الناس هذا تدفع أثمانًا كانت بدايتها تلك الأيام من الحملات الصليبية.

إن في قصة هذه الحملات وفي قصتنا المعاصرة شبهاً كبيراً.. سواء في البطولة أو الخيانة، في العدو أو الصديق، في الشعوب أو الحكام، في الغرب أو الشرق..

وهذه المعركة القائمة في غزة تخبرنا أن الطرف الذي سينتصر فيها سيفتح لنفسه صفحة قوية في التاريخ.

في العشر الأوائل.. الجهاد هو القمة التي لا تُعلى

يجتمع هذا الماضي وهذا الحاضر بالعبادة السنوية المتجددة والمستمرة.. الحج إلى بيت الله الحرام.. وبهذه الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة، والتي هي أفضل الأيام عند الله، والتي ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه العشر!

وإن من الفقه العميق الذي يخبرك عن ذكاء الصحابة ما سألوا عنه لما سمعوا هذه المعلومة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟!

لقد كان القوم يفقهون ويعرفون أن الجهاد هو ذروة الأعمال كلها، وهو قمتها السامقة، ولقد أخبرهم النبي ﷺ أن ذروة الجهاد وصورته النهائية هي التي تعدل العمل الصالح في هذه العشر، وهي صورة الرجل الذي ضحّى بنفسه وماله وكل ما عنده في سبيل الله!

وبه نعرف أن الجهاد في هذه العشر هو ذروة ذرى الأعمال كلها، وأن من أتيح له الجهاد فيها فقد حاز الشرف الذي لا يُطال ولا يُرام.

إن في هذه الأمة أصولاً وجذوراً وبذوراً تعيد بها وفيها إحياء نفسها، وهذا الموسم العام الذي يعم الأمة (العشر الأوائل)، وتلك العبادة التي يجتمع إليها المسلمون في مكان واحد من كل فج عميق، هذا الموسم وتلك العبادة هما الأصول والقواعد التي تجدد الأمة فيها نفسها.

كيف يصنع الحج وعياً جديداً لتحرير الأقصى؟

فالذي يصلي في المسجد الحرام أو المسجد النبوي لا بد أنه سيتذكر المسجد الأقصى!

وأولئك الذين اختلفوا في كل شيء ثم لم يجتمعوا هنا إلا للإسلام ستنبت فيهم -شعروا أو لم يشعروا- أنهم أمة واحدة عصية على التقسيم والتمزق، حتى لو ارتفعت الأسوار وتكاثرت الحدود!

والذي يخلع الثياب ليبقى في ثوبين، ويرجو الله والدار الآخرة، تُنْزَع من نفسه شدة التعلق بالدنيا، ليعرف أنه فيها عابر زائل، وأنه لن يبقى له في مثل يوم الحشر هذا إلا عمله الصالح!

والذي يرى حوله الألوان والأشكال واللغات العديد وقد صاروا إخوانه من حوله، يعبدون الله كما يعبد، ويطوفون كما يطوف ويسعون كما يسعى.. الذي يرى هذا لن يستطيع أن ينسى إخوانه الذين يعانون في البلاد القريبة والبعيدة!

الحج هو طاقة الشحن الإيمانية السنوية التي تحيي في عروق هذه الأمة كافة ما أريد لها أن تنساه وأن تهجره.. وبه يظل الإسلام عميقاً متجذراً، ناضراً متجدداً، مزهراً متورداً.

وقريباً تجتمع الكتائب كما اجتمع الحجيج.. وقريباً يتحرر الأقصى ويُصلى فيه كما صُلِّي في البيت الحرام.

المصدر

مجلة أنصار النبي ﷺ، محمد إلهامي، بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

الحج إيمان وإسلام وإحسان

الحج مبدؤه التوحيد، ومنتهاه إحياء الهوية الإسلامية

الحج.. وصناعة التفاؤل

الحج إذ يُذكِّرنا بأننا أمة واحدة

التعليقات غير متاحة