ألم أقل لك، هذه خمرة لا إفاقة منها

رأيت مشهدا في الأيام الأخيرة شدني شدًّا إلى ذكريات قديمة.. ذكريات من أيام العرب في الجاهلية..

تعال أقصه عليك..

مكانة الخمر في الجاهلية

كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بشرب الخمر، ويتفننون في وصف لذتها، ولهم في هذا أشعار مشهورة غريبة.. منها مثلا:

سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه، شاعر الإسلام، قال في الجاهلية هذا البيت في وصف الخمر:

ونشربها فتتركنا ملوكا .. وأُسدًا ما ينهنهنا اللقاء

يعني: لما نشرب الخمر نشعر بأننا ملوكا، وأسودا لا تتراجع في الحروب.

وقبله قال الشاعر الجاهلي المشهور، المنخل اليشكري، في وصف نفسه إذا شرب الخمر:

فإذا انتشيتُ فإنني .. رب الخَوَرْنَق والسدير

وإذا صحوتُ فإنني .. رب الشويهة والبعير

وهذا وصف لذيذ مضحك غريب، فهو إذا شرب الخمر شعر بأنه الملك النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، صاحب قصور: الخورنق، والسدير.. وإذا أفاق من سكره ارتد لحاله، لا يملك إلا شاة ضئيلة نحيلة لا تستحق حتى اسم الشاه، ومعها بعير!!

وبعد الإسلام، سأل عبد الملك بن مروان شاعره النصراني الأخطل أن يصف له لذة الخمر، فاجترأ الأخطل أن يقول له، بأنه إذا شربها كان حاله:

خرجتُ أجرّ الذيل تيها كأنني .. عليكَ -أمير المؤمنين- أميرُ

يعني: تبلغ بي النشوة أن أرى نفسي أميرا عليك أنت!!!

والآن.. دعنا من حديث الجاهلية القديم.. إلى حديث الواقع المعاصر..

تذكرت هذه الأبيات والمواقف وأنا أرى جمهرتين من الجماهير تتصارعان على مواقع التواصل؛ أيهما بلده هو “عاصمة القرار العربي”!!

هذا يقول: جاءنا ملك الروم ولم يأتكم.

وهذا يرد: دفعتم من أموالكم ولم ندفع.

فيرد الأول يقول: وهل عندك أيها الصعلوك المسكين مالا لتدفع؟!

فيرد الثاني ويقول: عندنا جيش ليس عندكم مثله، وتاريخ ليس عندكم مثله!!

فيرد الأول: جيشكم لم ينقذ نهره ولم يحفظ غازه، وتاريخكم قد مضى وولي وهذه أيامنا.. وليس الفتى من يقول كان أبي..

فيرد الثاني ويقول: نحن علمناكم وبنينا دولكم، ولولا ما نبت في أرضكم بغير جهد منكم لما كان لكم قدر ولا قيمة!!

ويستمر الحوار العقيم السقيم..

خمر الوطنية

نعم، لقد كان العرب الجاهليون أهل مفاخرات أيضا، ولكن هذه المفاخرة الحديثة نوع آخر.. إنها ليست مفاخرة أصحاء في صحوهم، بل هي مفاخرات مخمورين في سكرتهم..

نعم، عزيزي القارئ، إنه “خمر الوطنية”.. ذلك الخمر الشديد.. أشد وأقوى من خمر العنب والنبيذ..

لقد كان المخمور في الجاهلية يفيق ويعرف حاله وينشد الأشعار في وصف لذته التي يعترف هو أنها أحلام وأوهام وخيالات.. وأما المخمور بـ “خمر الوطنية” فوعي مسموم، وسكر لا صحو منه، وداء ليس له شفاء!!

القوم يتجادلون أيهم عاصمة القرار العربي، بينما يأتي المشهد من غزة ليخبرك أن عواصم القرار العربي والإسلامي مسحوقة تحت نعال الصهاينة سحقا، ما تستطيع عاصمة منها أن تنقذ جائعا بكسرة خبز ولا مريضا بقطرة دواء ولا عطشانا بشربة ماء!!

وصاحبنا الذي شرب خمرة الوطنية يتغزل في حكمة زعيمه وقدراته!!

وصاحبنا هذا نفسه لا هو منتفع بمال ذي المال ولا بجيش ذي الجيش.. وإنما هو مقهور مكبوت محبوس، يحسب نفسه -في جداله هذا- “وطنيا”!!

ألم أقل لك، هذه خمرة لا إفاقة منها؟!

تشربها فتظن أنك عاصمة القرار العربي، ثم تعجز كل مشاهد الذل والعار أن تزيل عنك سكرتها ونشوتها؟!!

هل تصدق أن هذا المعنى مذكور في القرآن الكريم.. والله لقد اكتشفته الآن وأنا أكتب هذا المنشور.. اسمع اسمع..

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}..

وقال تعالى: {وإن هذه أمتكم: أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون}.

فانظر كيف سماها غمرة، وانظر كيف أنكر عليهم الافتخار بما آتاهم الله إذ تقطعوا وتمزقوا من بعد ما كانوا أمة واحدة!!

فلنشرب يا أخي وإياك من كتاب الله.. ففيه شفاء الخمور كلها.

المصدر

صفحة الأستاذ محمد إلهامي، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

الوطنية .. طاغوت العصر

خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية

هويّة الأمة الإسلامية

الرايـات الجـاهلية

الآثار المترتبة على عبادة طاغوت “الوطنية”

التعليقات غير متاحة