إن الفتن العظيمة التي تموج اليوم في واقعنا المعاصر لتفرض على المسلم أن يكون حذراً يقظاً متأنّياً في أقواله وأفعاله ومواقفه، سائلاً ربه عز وجل الهداية للحق والثبات عليه.
نصر من الله وفتح مبين
الحمد لله الذي أعز جنده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يخفى على الجميع ما أنعم الله به على إخواننا في سوريا وعلى الأمة جميعها من نصر عظيم وآيات باهرات تدل على قدرة الله سبحانه ورحمته ولطفه بعباده المؤمنين المظلومين ذلكم النصر الذي فرح به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وشرق به كل كافر ومنافق وعدو للإسلام والمسلمين: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء:8-9].
رسائل إلى المشككين في الثورة وأهدافها
ولقد شاب فرحنا العظيم واغتباطنا بهذا النصر بعض المكدرات التي صدرت من بعض طلاب العلم الذين باتوا يشككون في الثورة وأهدافها وسيرة قائدها (الشرع). هذا وإن كنا نحسن الظن بهؤلاء الدعاة وأن منطلقهم الغيرة على الدين إن شاء الله تعالى فإنا نعتب عليهم موقفهم هذا وتوقيتهم له. ومن حقهم علينا النصح لهم وتنبيههم على المفاسد التي تترتب على موقفهم هذا. عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» [البخاري ومسلم]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» [البخاري]، فنقول وبالله التوفيق:
أيها الإخوة الكرام : نذكركم بقول الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ:46]. وانطلاقا من هذه الموعظة الربانية فإنا نذكركم في موقفكم من هذا الفتح الرباني العظيم وقيادته بالأمور التالية:
أولا: يحتاج المسلم في مواقفه وأحكامه إلى مراجعة نيته ومقصده في قيامه في أي أمر وذلك بأن يطمئن إلى أن قيامه إنما هو لله تعالى وابتغاء وجهه وليس لأي غرض آخر ولا لأي حظ من حظوظ النفس وهذا ما وعظنا الله تعالى به بقوله: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّه﴾.
ثانيا: كما يؤخذ من الفقرة التالية من هذه الموعظة الربانية وهي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ أن نعمل الفكر والعقل فيما حدث في سوريا وذلك من خلال ما يلي:
- التثبت من التجاوزات والملاحظات التي تنقمون بها على القائد وجنده فلربما بعضها لم يثبت أو أن بعضها فهمت على غير مقصود صاحبها أو أنها كانت عنده فرجع عنها قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].
- فإذا ثبت نسبة الخطأ إلى صاحبه وجب علينا أن نتثبت من الظروف والدوافع والأسباب التي دفعت إلى ذلك فلربما هناك من الظروف والملابسات التي أحاطت وحلت بمن ننقده تجعلنا نعذره، فإن لم نجد ما يعذره ففي أقل الأحوال نتفهم دوافعه بحيث تأخذ الملاحظة حجمها الطبيعي دون تهويل ولا مبالغة، وهذا منهج نبوي شريف راقي فلكم انتهجه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عندما يقع أحدهم في خطأ فيقول له: ما حملك على ما صنعت؟ . وحينما ننظر إلى ظروف المجاهدين الذين فتح الله عليهم سوريا وما يواجهون من تحديات عظمى وعوائق كبرى، وحينما نتصور الظروف والملابسات التي يعيشونها فإننا نتفهم ما يقومون به من المواقف والإجراءات والمصدات التي يقاومون بها هذه التحديات، (والشاهد يرى ما لا يراه الغائب) ولا ندري لو كان المنتقدون لهم في مكانهم ومعاناتهم ماذا عسى أن يفعلوا. ومن أكبر هذه التحديات (وراثتهم لبلد فاسد- واقتصاد منهار- وبنية علوية وتحتية مهدمة- ومظالم عظيمة على الناس بسلب أموالهم من النظام الظالم وتهديم بيوتهم وفقد أولادهم- أطياف متعددة وأديان مختلفة من نصارى ونصيريين ودروز ورافضة- عصابة مخدرات ولصوص وفواحش- مكر عالمي من الشرق والغرب، يهود ونصارى وروس ومنافقين كلهم يكيد لهذه الدولة الوليدة) وغير ذلك من التحديات نسأل الله عز وجل أن يصرف عنهم كيد الكائدين.
- يعلم الإخوة الفضلاء أن هناك قواعد شرعية تضبط الاجتهادات والموازين ينشأ عنها فقه شريف ألا وهو فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد وتقديم خير الخيرين عند تعارض المصالح والأخذ بأهون الشرين عند تعارض المفاسد. والذي يحصل الآن في سوريا تحكمه هذه الموازنات وأولى الناس بهذه الموازنات والفصل فيها هم الذين يعانون حرها وقرها وينزلون الأحكام الشرعية في مناطاتها.
- كما لا يخفى على الإخوان الفضلاء أن هناك ما يسمى بفقه الاستضعاف والعجز حيث أن أحوال الاستضعاف يسعها ما لا يسع أحوال التمكين، والناظر في أحوال المجاهدين في سوريا وإن حصل لهم تمكين مبدئي فهم في نظر الشرع لا يزالون ضعفاء وأمامهم- كما مر بنا- تحديات عظيمة فيحتاجون والحالة هذه إلى شيء من المرونة التي تحكمها قاعدة الضرورة وسد الذرائع وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان. ومن يعاني من هذه التحديات هو الذي ينزل أحكام الضرورة وغيرها من القواعد الشرعية في منازلها وكما هو معلوم من قواعد الشرع أنه لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة، فلا يطالب العاجز بما يطالب به القادر من الواجب. وكل هذه القواعد التي تنطلق من مقاصد الشرعية يعلمها المشايخ ولا يجهلونها.
- كما لا يخفى على علم الإخوة الكرام أن هناك في الشريعة ما يسمى بالمداراة وهو كف شر العدو بما تحفظ به مقاصد الشريعة والدين. وقد يلتبس معنى المداراة بالمداهنة؛ وبسبب هذا اللبس يظن بعض الناس أن بعض صور المداراة تدخل في المداهنة، وبعضهم قد يقع في المداهنة ظانا أنها مداراة. وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بابا قال فيه: (باب المداراة مع الناس) وساق فيه حديثا وأثرا فأما الحديث فهو عن عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ – أَوْ بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ -» فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الكَلاَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي القَوْلِ؟ فَقَالَ: «أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ – أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ – اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» [رواه البخاري]، وأما الأثر فعن عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: «إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ ــ أي نبتسم ــ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ» [رواه البخاري تعليقا]. وفرق أهل العلم بين المداراة والمداهنة بقولهم: (المداراة تعني بذل الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا أو هما معا. والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا) لذا فإن المداراة مأذون فيها ومحمودة والمداهنة محرمة وممقوتة. والذي نحسب أن ما نسمعه من إخواننا القادة في سوريا من المجاملات والتصريحات لوفود الكفار والبشاشة معهم هو من باب المداراة لدفع شرهم.
- كما لا يخفى عليكم القاعدة العظيمة من قواعد الشريعة؛ الذي قال الإمام ابن القيم رحمه الله إن ربع الشريعة قائم عليها وهي قاعدة (سد الذرائع) وتسمى أيضا بفقه المآلات وهو عدم الوقوف مع حكم الشيء في ذاته؛ بل ينظر أيضا إلى مآلات الحكم وعواقبه والوسائل لها حكم الغايات، وهذا أيضا يحتاج إليه في مثل أحوال المسلمين في سوريا.
7 . كما أن الإخوة الكرام المنتقدين يحتاجون إلى مراعات هذه القاعدة في حال انتقاد إخوانهم المجاهدين في سوريا وذلك بأن مثل هذه الانتقادات تصب في مصلحة العدو المتربص ويطير بها الأعداء والمنافقون ليوظفوها في مكرهم وكيدهم للمجاهدين ودولتهم الفتية كما أنه قد يطفىئ فرح الفرحين بهذا النصر وقد يجعلهم يسيئون الظن بالمجاهدين فهل يعي الإخوة الكرام خطورة مآل موقفهم هذا؟ وهل هذا وقته؟ أليس من الحكمة تأجيل هذه الانتقادات حتى يتمكن المجاهدون من دولتهم وتستقر فيها أمورهم.
8. نذكر أنفسنا والمشايخ الكرام بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ وبقوله سبحانه: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ويأمر سبحانه بالعدل ولو مع الكفار: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾. وفي ضوء هذه التوجيهات الربانية النقية نقول لمن ينتقد قادة المجاهدين: اعدلوا مع إخوانكم ولا تبخسوهم حقهم، وعلى فرض ثبوت أخطاء كبيرة عليهم فلا تنسوا ما فتح الله به على أيديهم من رفع الظلم عن المظلومين ونجاة المعذبين والمعذبات من سجون الموت، وما حقق الله على أيديهم من كنس للرافضة من سوريا وكسر مخططاتهم الرافضية في المنطقة وما سيترتب على فتوحاتهم من رجوع الملايين من المهجرين والمشردين إلى بيوتهم وقراهم وممتلكاتهم. ولو لم يأت في هذا الفتح إلا هذه المصالح العظيمة لكفى . احشدوا هذه الحسنات العظيمة لهم بجانب أخطائهم سترون أن أخطاءهم تنغمر في بحر حسناتهم العظيمة. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج خطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث ذكر حضوره بدرا فتضاءلت سيئته بجانب حسنته العظيمة حيث قال لعمر رضي الله عنه: “إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ “.
9. نسأل الإخوة الكرام عن التحفظات التي عندهم عن قادة المجاهدين الفاتحين هل يحكم على أصحابها بالكفر؟ الجواب الذي لا نتردد فيه بأن المشايخ لا يكفرونهم، فإذا كانوا ليسوا كفارا فهل هم مبتدعة؟ ونظن الجواب هنا أيضا أن لا. ولو افترضنا أنهم مبتدعة بدعة غير مكفرة فهل نخذلهم بسبب هذه البدعة أم ننصرهم على الطاغية الكافر وجنوده؟ والجواب الذي لا تأني فيه وجوب نصرتهم والتحالف معهم لمحاربة العدو الكافر. وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حينما تحالف مع الأشاعرة والصوفية المبتدعة غير الزنادقة وذلك في حرب التتار حينما أرادوا اجتياح الشام كما اجتاحوا بغداد. وهذا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في حطين الذي هزم الله فيها الصليبين، وهذا قطز والظاهر بيبرس في عين جالوت الذي هزم الله فيها التتار يذكر أهل التاريخ أن هؤلاء القادة كانوا من الأشاعرة ومع ذلك هبت الأمة وعلماء السنة يقاتلون معهم حتى هزم الله العدو الكافر. هذا وهم مبتدعة فكيف إذا كانت التجاوزات من مجاهدي أهل السنة أليس من الحكمة الموافقة لمقاصد الشريعة وقواعدها أن نتوحد ولا ننشغل ببعضنا عن عدونا الأكبر الذي يريد اجتياح الديار وطمس الهوية واستئصال الإسلام من جذوره.
10. نسأل المشايخ في النهاية ماذا يريدون من طرحهم في المجالس لهذه الانتقادات؟ هل يريدون تنفير الناس من المجاهدين وتقليل هذه الإنجازات؟ الذي نظن بالمشايخ أنهم لا يريدون ذلك. إذن فما فائدة طرح هذه الانتقادات في هذا الوقت بالذات؟ هل ستغير شيئا أم أن ضررها ومآلاتها أكبر من نفعها؟
نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه وأن يستعملنا في طاعته ونصرة دينه وأن يحفظ المجاهدين وقادتهم في سوريا من كيد الكائدين ومكر الماكرين. والحمد لله رب العالمين.
اقرأ أيضا
طوفان الشام ورد العدوان في ضوء القرآن
الثورة السورية..تباشير ومحاذير..(١)
الثورة السورية..تباشير ومحاذير..(٢)