تحتفل أفغانستان بذكرى انتصارها الثانية، وحملها ثقيل جداً، لكن أتراها قد وضعت قدميها على أول طريق صحيح؟ أم تراها قد فعلت لكن تجربتها غير قابلة للتكرار أو المحاكاة بحكم الجغرافيا والطبيعة القبلية وغير ذلك؟

أوجه الاختلاف بين أفغانستان وتركيا

قد لا يجادل كثير من الدعاة في أن أفغانستان وتركيا ربما كانتا الدولتين الوحيدتين – تقريباً -اللتين تتمتعان بقدر من الاستقلالية في قراراتهما، ولا ترهنان مواقفهما للخارج، لكن على النقيض يكاد أن لا يجادل أحد أيضاً في أن تجربتهما مختلفتان في معظم الأمور.

فتركيا دولة  ذات نظام علماني ديمقراطي، ميولاتها إسلامية وهي  متقدمة في مجالات علمية واقتصادية عديدة، أما أفغانستان فدولة إسلامية ذات نظام إسلامي، متأخرة في العديد من مجالات الحياة.

والأولى قد وصل “محافظوها” إلى السلطة عبر صندوق الانتخاب فيما وصل متدينو الثانية للحكم بصندوق الذخيرة.

والأولى لا يمسك حكامها بمجامع السلطة كلها، بينما في حالة أفغانستان؛ فإن حركة طالبان قد فرضت سلطتها بالقوة، ولم تلجأ لأي تحالفات أو موائمات، ولديها القوة لتضع مسؤوليها في كل دواليب الحكم ومفاصل الدولة بكل ارتياح وقدرة.

والأولى لم تبرح مكانها كثيراً بسبب سطوة العلمانية وتحكمها الاقتصادي والانقسام الشعبي والسياسي فيها، رغم مرور أكثر من عقدين على تشكيلها أو حكومة لها، فيما لم تمض أيام على التحرير الأفغاني حتى أمسكت حركة طالبان بكل حبال الدولة والسلطة بعد انتصار تاريخي على ثالث امبراطورية تغزوها.

أوجه التشابه بين أفغانستان وتركيا

بيد أن هذا التباين ليس سيداً في كل شيء؛ فكلاهما يشاطر الآخر ضغوطات اقتصادية هائلة رأت معها أنقرة الحل في مزيد من الانزلاق نحو نظام ربوي عالمي لم تجد أن بمقدورها الفكاك منه، واتخذت معه كابول سياسة واقعية نوعاً ما للخروج من مأزق تركة ثقيلة خلفها النظام السابق والاحتلال الطويل الذي صادر أموال أفغانستان بحجة التجميد القانوني!

وفي السياسة الخارجية حاول النظامان أن يسيرا وفقاً للمتاح، ولا يخرجا عن هامش المناورة المتاح لهما داخل نظام عالمي محكم الإغلاق على كل ما هو إسلامي أو مستقل.

وإذ تنتظم تركيا في النظام العالمي بكل مفرداته ومؤسساته ومنظماته الدولية، وتتحرك في فضاء دولي واسع، لبناء تحالفات وشراكات وصفقات؛ فإن أفغانستان التي لا يكاد يعترف العالم بحكومتها تجد صعوبة بالغة في اختراق جدار فولاذي موصد بوجه إدماجها في النظام العالمي بما يترتب عليه من اعتراف وعلاقات دولية. ثم إن الجغرافيا نافذة، وتفي لتركيا بالموقع العبقري في قلب العالم وقوة النفوذ والتأثير، في مقابل جغرافيا لو أطبقت عليها جبال الهندكوش ما كاد أن يشعر بغيابها العالم الصاخب.

مدرسة “الجهاد” أم مدرسة الديمقراطية ستكون أكثر نجاحاً في المستقبل

يُسائل تيار في النخبة الإسلامية أي مدرسة ستكون أكثر نجاحاً في المستقبل:

مدرسة “الجهاد” أم مدرسة الديمقراطية؟ “الراديكالية” أم “الإصلاح المتدرج”؟ وللأولى بريق لا يقاوم لدى المظلومين، وللثانية عراقيل لم تعد مقتصرة على تركيا “الإسلامية” وحدها؛ فحتى الفكرة الديمقراطية ذاتها تتعرض اليوم في العالم لهزات عنيفة جداً.

لننظر في القلب العربي.

ألم يغرسوا “إسرائيل” قسراً وقهراً وخيانة.. إلخ، مبشرين بأنها ستكون “واحة الديمقراطية في صحراء العالم العربي الاستبدادي”.. أبداً، إن “إسرائيل” اليوم تصيبها العدوى متأخرة لتنزلق – إلى جانب “أخواتها في التطبيع”! – إلى مستنقع الاستبداد، بل إلى قلب “الانقلاب القضائي” ومخاطر “الانقلاب العسكري” نفسه.. إنها ببساطة بدأت تفقد “شرعيتها” و”شرعية وجودها” عند حلفائها أنفسهم.

لننظر إلى الساحل الإفريقي برمته.

أولم تخرج الجماهير سعيدة بانقلابات تترى لأنها – بنظرهم – ستكون ترياق سم الاحتلال والاستنزاف الاقتصادي الهائل؟! أولم تكفر تلك الجموع بديمقراطية لم ولن تتحقق أبداً على نحو كانوا من قبل يأملونه؛ فباتت الصناديق تجلب الخونة لا الزعماء الوطنيين؟!

ولننظر إلى أوروبا المتجهة حثيثاً إلى الاستبداد لاسيما بحق مسلميها

حيث انتعشت ذاكرتها نادمة على أيام محاكم التفتيش الرعيبة فشرعت في إقامة غيتوهات ومعسكرات احتجاز “أنيقة” للاجئين، وعزمت على نفي الكثيرين، وشددت من نظم اندماجها حتى كاد فيرناندو وإيزابيلا (ملوك إسبانيا إبان سقوط غرناطة) أن يتعلما منها أصول الإدماج الخبيثة، وطرائق الفتنة عن الدين الحديثة!

أولم يبلغ بالمسلمين في فرنسا حداً من “القهر الليبرالي” حد مطالبة بعضهم ماكرون بالمساعدة في الهجرة من بلاده لأخرى آمنة، أولئك الفرنسيون المسلمون من يبحث لا اللاجئين!

ألم يضق المسلمون ذرعاً في كندا بإرغام أبنائهم قسراً على رفع أعلام الشذوذ فوق الرؤوس ولو كره المؤمنون؟!

أولم تنتقل عدوى السوسيال القاتلة مختطفة أطفال المسلمين من السويد إلى غيرها من بلدان “الديمقراطية” العريقة في غرب أوروبا “الحرة” حتى ضاع الأمان داخل جدران بيوت المسلمين، واحتاط الآباء ألوف المرات فيما يقولونه لأبنائهم أو يربونهم عليه من قيم وإسلام خشية أن يتسرب ذلك ببراءة الأطفال إلى وحوش السوسيال فيختطفونهم من أيدي أهلهم بكل وحشية وإجرام.

ثم لننظر في أوروبا حيث أمسى حرق المصحف ودوسه عملاً يومياً روتينياً لا تأبه له وسائل الإعلام ولا تتحرك من أجله البرلمانات ولا يستفز الشرطة التي أضحى مبلغ همها أن تعتقل المحتجين على إهانة مقدسات المسلمين.

وما الهند والصين عن ما يحدث في أوربا ببعيد

بل لن ننسى حيث يممنا وجوهنا شطر أكبر ديمقراطية في العالم، حيث ينخرط المسلمون في أحزابها وبرلمانها ويمتلكون مؤسسات وهيئات وجمعيات وجامعات ومدارس ويملكون حق التظاهر، ولا تمانع حكومتها في رؤية ملايين المتظاهرين الغاضبين من المسلمين يحتجون على الوحشية القائمة ضدهم. نعم، إنها أكبر ديمقراطية في العالم، حيث أكبر الجرائم وحشية في العالم هذه السنوات العجاف. إنها الهند النموذج الديمقراطي الهائل في تعداده الذي لا يكافئه إلا ديكتاتورية الحزب الواحد الصينية.. كلا الدولتين الكبيرتين تمارس ألوان القمع نفسها، وتشارك الأخرى خبراتها البغيضة في حرف المسلمين عن قيمهم، ودوس مقدساتهم، وفتنتهم عن دينهم، ومحاصرتهم في محالهم، ومحاربتهم في أرزاقهم، ومناكفتهم في معايشهم.

رئيس وزراء اسكتلندا، عمدة لندن، أعضاء الكونغرس الأمريكي، نائب رئيس حزب بهاراتيا جاناتا الهندي.. إلى غير ذلك.. ما الذي جناه المسلمون من كل هذا؟!

كيف نستفيد من التجربتين التركية والأفغانية؟

تحتفل أفغانستان بذكرى انتصارها الثانية، وحملها ثقيل جداً، لكن أتراها قد وضعت قدميها على أول طريق صحيح؟ أم تراها قد فعلت لكن تجربتها غير قابلة للتكرار أو المحاكاة بحكم الجغرافيا والطبيعة القبلية وغير ذلك؟

في الواقع يستحيل أن تتبادل تركيا وأفغانستان أدوارهما، لكنهما بعد ربع قرن على تجربة الأولى، وعامين على الثانية جديرتان بأن تفتح نقاشاً ثرياً حول فكرة الإصلاح والتغيير برمتها بعد سنوات تلو سنوات من الانحدار السريع في حال الأمة الإسلامية.. أمتنا بكل وضوح بحاجة إلى عملية إنقاذ عالمية فريدة، وبرامج عملية لإدراكها قبل الغرق، ونقاشات حرة ثرية، ومكاشفة واضحة لكل عوامل تأخرها وتخلفها بل وانهيارها. لقد آن الأوان.

المصدر

موقع رابطة علماء المسلمين.

اقرأ أيضا

الفرح بدولة أفغانستان وواجبنا نحوها

تركيا ومطار كابول

الدولة الحرة.. والحقيقة المرة..!

التعليقات غير متاحة