تُقدِّم لنا جُل الكتابات الدعائية للعالمانية وكذلك المناهضة لها معنى واحدا لهذا المصطلح، سلبًا أو إيجاباً على الرغم من أن حقيقة الحال بعيدة عن ذلك كل البعد؛ إذ إنَّ لهذا المصطلح أشكالا كثيرة تاريخيا وجغرافيا .

أشكال العالمانية تاريخيا

من الممكن أن نقسم مفهوم العالمانية بمعناها اللغوي فالحضاري إلى ثلاث مراحل، حيث اكتسبت في المرحلة الأخيرة معناها المعاصر:

العالمانية الدينية

هي المرحلة المبكرة لمفهوم المفاصلة بين الديني والعالمي، وتمييز رجل الدين الذي يعيش في مَعْزل عن العالم في مقابل الرَّجُل الشعبي الذي يعيش داخل العالم، فرجل الدين يعيش بروحه وأشواقه داخل العالم المقدس في حين يعيش الرجل الشعبي داخل العالم المدنس.

استمرت هذه المرحلة لفترة طويلة استوعبت كامل القرون الوسطى، وقد عرفت مفاصلة حادَّةً بين طبقة الكهنوت وطبقة الشعب واكتسب فيها الكهنوت تميزا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا . كما رسَّخ هذا التمايز مفاهيمُ غُنُوصِيَّةٌ في المنظومة القيميَّة المجتمعية بالتأكيد على امتهان الرَّغبة المادية والإقبال على الدنيا ، وهو ما عاد سلبًا بعد ذلك على طبقة الكهنوت التي خَذَلَتْ هذا التصور بإقبالها على تضخيم ثرواتها المادية واستغلال العاطفة الدينية للعامة في جَمْعِ العطايا والنذور مما ساهم في الانتقال إلى المرحلة التالية من مراحل العالمانية .

العالمانية المالية – القانونية

تتمثل هذه المرحلة في تحويل ملكية عددٍ من أملاك الكنيسة إلى السلطات المدنية، وذلك ردًّا على استحواذ الكنيسة على العديد من الأملاك (العالمانية) حتى ارتبط الإقطاع في جانب كبير منه بالمال الكنسي الإكليروسي. وقد تأكد هذا المفهوم بوضوح في القرن الثامن عشر مع السلطات المدنية لأملاك كثيرة كانت تحت يد الكنيسة.

لقد كانت الكنيسة تسيطر على مجمل الواقع البشري في الغرب؛ فهي تسيطر على المدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات الفنية والأدبية، ولها سلطان مباشر على السَّاسة والعسكريين، وهو ما يعني احتكارها للميدان العام بطريقين مباشر وآخر غير مباشر؛ ولذلك كان استرجاع الأملاك العامة من الكنيسة إلى الدولة بداية لفك ارتباط الكنيسة بأهم مُؤسَّسةٍ مُؤثرة في المجتمع، وهي المدرسة، وهي المعركة الكبرى التي خاضها العالمانيون في أوروبا بكل شراسة.

العالمانية الحضارية

في هذه المرحلة أقصي الدين جُزئيًا أو كليا عن واقع الحياة. وهي الصورة المهيمنة على الأنماط السياسية والاجتماعية والاقتصادية اليوم. يتميز هذا الشكل العالماني بِبُعْدِهِ الأيديولوجي الواضح نَّبْرَتِهِ العقائدية الحادة ونُزُوعِهِ إلى الشمولية والرغبة في الهيمنة على الوعي الجَمْعِي للشعب، بالإضافة إلى نزوعه إلى التوسع والهجرة إلى بلادٍ لم تعرف الكنيسة ولم تعش الصراع بين الكهنوت والسلطة الزمنية، كبلاد المسلمين مثلا .

أقسام العالمانية بالنظر إلى موقفها سلبا من الدين

نشأت العالمانية أساسا لتُحدد موقف العقل الإنساني من الدين داخل دائرة الدولة والجماعة والفرد وهي في مبدئها رد فعل سلبي من الحضور الديني للكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، ولذلك فإن طابعها العام هو حَجْزُ الدِّين عن التَّمَدُّدِ أو نَفْيُه كلية من الوجود، لكنها مع ذلك ليست رؤية واحدة ثابتة وغير متحولة وإنّما تنقسم إلى تدرجات سلبية في تقويمها للدين. ويُمكن للناظر في تاريخ نشوء العالمانية فلسفيا واجتماعيا وسياسيا أن يتوقع رُدودًا فكرية وعملية متغايرة من الحضور الديني، تبعا لقوَّة الأسباب الداعية إلى المفاصلة مع الدين وكثافتها التاريخية.

من الممكن تقسيم موقف العالمانية من الدين إلى ثلاثة مذاهب :

  • العالمانية الاستئصالية

ترفض العالمانية الاستئصالية «الدِّينَ» بجميع أشكاله وترى فيه خديعة وضلالة لا بد من حماية الفرد والجماعة منه. ومن أشهر الرواد الذين اختاروا هذا الفهم تشارلز برادلاف مؤسس منظمة «المجتمع العالماني القومي» الذي انتصر صراحة وبشدة للقَوْلِ إن العالمانية مُعادِيةٌ بطبعها للدين، وأنه لا سبيل للتعايش بينهما؛ بما يلزم من بقاء أحدهما زوال الآخر. فالعالمانية بهذا المعنى ليست مُجرَّدَ مفاصلة للقيم الدينية في أمر المجتمع والحكومة والقانون والفلسفة والفنون والثقافة والعلوم، وإنما هي القضاء على المقدس الديني في حياة الإنسان والمجتمع.

  • العالمانية الليبرالية

تذهب العالمانية الليبرالية على خلاف الوجه الصدامي الأول إلى قبول الدين في الدولة والمجتمع والدعوة بأن يكون له دور إيجابي في بيئته، وإن كان ذلك دون أن تتبنى الدولة منظومة دينية لتكون هي المرجع الكلي. تقوم هذه العالمانية على رفض الهيمنة الدينية مع الإقرار بالحاجة إلى الدين في عددٍ من مجالات الحياة ودَعْمِ حُضوره فيها بما يعود على المجتمع بالنفع.

  • العالمانية التحاصُصِية

لا تدعو العالمانية التحاصُصيَّةُ إلى إقصاء الدين بكله من الحياة، وإنما ترى حَصْرَهُ في جزء مُحدَّدٍ من الوجود والتعامل معه باعتباره خيارا فرديا، إقرارًا منها أنها لا تملك سُلطة إقصاء الدِّين وإن كانت لا تُعلن إيجابيته ولا تَحْرِص على ازدهاره ولو في المجالات الضيقة.

بما يعني أنهما -الدين والعالمانية- يَتَمَدَّدان تأثيريًّا على مجالين متمايزين، فهما يسيران في خطين متوازيين دون تدافع ولا تآزر.

أقسام العالمانية بالنظر إلى علاقة الكنيسة بالدولة

تُشكل علاقة الكنيسة بالدولة في الغَرْبِ في اختلافها بين القُوَّةِ والضَّعْفِ والتَّوافُقِ والتَّنافُرِ أنماطا متمايزة من العالمانيات. وقد أنتجت واقعا ظاهِرَ الثَّمَايُز بين هذه البلاد. وأصلُ هذه الأشكال نتاج لعلاقاتِ تَدَافُع وتسويات لمصالح متقاربة ومتباينة، ونتيجةً لطبيعة هذا التنازع وحدته ومصالح أطرافه فقد اتَّخَذَتْ العالمانية شكلها القُطْرِيَّ.

ومن أهم أنماط العالمانية في هذا السياق:

– الفصل التام بين الكنيسة والدولة، وهو النموذج الفرنسي:

وهذا النموذج نتاج صراع الدولة والمجتمع مع الكنيسة ذات المخالب. وهو صراع مَرِيرٌ افْتَكَّت فيه الدولة حقوقها بصعوبة وبطء، ولذلك فهي تتعامل اليوم مع هذا الموضوع بريبة دائمة وتوجس حاد. وقد خاضت الدولة هنا صراعها الأكبر في مجال التعليم، مُضْفِيَةٌ قَدَاسَةٌ على الفَصْلِ التام بين التعليم ومقولات الدين وقيمه، وذلك للحفاظ على ذاتية البناء اللاديني للمجتمع وأفكاره الكلية. وتعتبر التجربة الشيوعيَّةُ أَعْظَمَ حِدَّةً في تأكيد هذه المفاصلة باتخاذها الإلحاد عقيدة للدولة بجميع مرافقها، ومحاربتها الإيمان الديني وعدم الاعتراف به حتى في المجال الخاص. ويعود هذا التطرُّف إلى أصول المذهب الماركسي الذي تَبَنَّتْهُ الدُّوَلُ الشَّيوعية، والذي يرى في الدِّين «أفيونا للشعوب» تستغله طبقة رجال الدين والأرستقراطيين في تخدير الطبقة المسحوقة بأماني الأخرويات ومقولات الخُنُوع والخُضُوع للظُّلَمَةِ الذين يسرقون ثرواتهم ويمنعونهم حقوقهم.

– الكنيسة مُؤسَّسةٌ عامَّةٌ جُزئيا، وهو النموذج الألماني:

لم تُشكل قضيَّةً صراع الدولة مع الكنيسة مبدأ التاريخ السياسي لألمانيا، وإنما كان الصراع والتعايش بين الكاثوليك والمنشقين البروتستانت العلامة الفارقة في تاريخ التعايش المجتمعي – السياسي. وقد فتح غياب الحساسية الفائقة في علاقة الدولة بالكنيسة المجال لأن تتركَ الدَّولةُ جُزءاً من فضائها الواسع للكنيسة. اعترف الدستور بالتجمعات الدينية، حاصرًا نشاطها في خدمة المصلحة العامة، وينطبق هذا على جميع الطوائف والأديان دون تمييز. فعلى الصعيد الاجتماعي المحلي مثلا، تتدخل الكنائس وفق أحكام مؤسساتية متعددة، وفي مجالات مختلفة [التكوين المهني، المساعدة الاجتماعية، التنمية الإنسانية، الصراع ضد الحرمان والفقر، الصحة … إلخ]، وفي أوساط معينة [أطفال شباب، معاقين كبار السن.. إلخ].

وعلى الصعيد الاقتصادي، تم الاعتراف بالكنائس كمؤسسات سياسية تشارك في المنفعة العامة وتدفع الضرائب يقصد بذلك «الضرائب الكنسية». وهذا يساهم في تمويل أوجه نشاط الكنائس المعترف بها . وعلى الصعيد المدرسي أخيرا، نجد التعليم الديني هو شكل من أشكال التعليم النظامي في المدارس العامة، دون رقابة حقيقية من الدولة. وعمليا فالتعليم الديني مادة إجبارية لها الأهمية نفسها مثل بقية المواد الأخرى في السنوات الدراسية عند التلميذ حتى مرحلة البكالوريا أو السنة الأخيرة من التعليم الثانوي ويستطيع التلميذ منذ سن الرابعة عشرة اختيار درس في الدين أو الأخلاق وله الحرية في ذلك.

– الكنيسة مُتصلة سياسيا بالدولة:

وهو النموذج البريطاني والنرويجي حيث التناغم بين الدولة والكنيسة راسخ في القانون والأشكال الظاهرية للدولة. تمنح الدولةُ في هذا النموذج الكنيسة امتيازات كبيرة كتلك المعطاة إلى الكنيسة الأنجليكانية في بريطانيا، وتسمح للدين بالحضور في ميدان التعليم والأعياد الرسمية وبعض هذه البلاد كاليونان، ينص على الدين الرسمي للدولة .

إن قراءة أثر هذه العلائق في الواقع الغربي سبيل لفهم أشكال الحضور الديني المتنوعة في البلاد الغربية؛ إذ إنّ هذه الشبكة من العلاقات المحدد مسارها بدقة ذات أثر مباشر في صناعة الأشكال الدينية وحصر سلطانها .

أقسام العالمانية بالنظر إلى مساحة سلطانها

قسم عبد الوهاب المسيري العالمانية إلى قسمين:

١ – العلمانية الشاملة:

رؤية شاملة للواقع ذات بُعْدِ معرفي (كلي ونهائي تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة فإمَّا أَنْ تُنْكِرَ وجودها تماما في أسوأ حال، أو تهمشها في أَحْسَنِهِ، وترى العالم باعتباره ماديا زمانيا كُلُّ ما فيه في حال حركة ومن ثم فهو نِسبي. ويتفرّعُ عن هذه الرؤية منظومات معرفية (الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة) وأخلاقية (المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق) وتاريخيَّةٌ (التاريخ يتَّبِعُ مسارًا واحدًا وإنْ اتَّبَعَ مساراتٍ مختلفة فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها) ورؤية للإنسان (الإنسان ليس سوى مادة ، فهو إنسان طبيعي / مادي) والطبيعة (الطبيعة هي الأخرى مادة في حال حركة دائمةٍ). كُل هذا يعني أن كل الأمور في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير تاريخانية زمنية نسبية. ولذلك يمكن تسمية العلمانية الشاملة «العلمانية الطبيعية/ المادية» أو «العلمانية العدمية».

٢ – العلمانية الجزئية:

هي رؤية جزئية للواقع (برجماتية إجرائية) لا تتعامل مع الأبعاد الكُليَّة والنهائية (المعرفية) ومن ثم لا تَتَّسِمُ بالشمول.

وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فَصلِ الدِّين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعبر عنه بعبارة «فَصلِ الدِّين عن الدولة». ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزمُ الصَّمْتَ بشأن المجالات الأخرى من الحياة. كما أنها لا تُنكِرُ وجود مُطلقات وكُليَّاتٍ أخلاقية وإنسانية وربما دينية أو وجود ماورائيات وميتافيزيقا . ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية. كما أنَّها رُؤيَةٌ مُحدّدة للإنسان، إلا أنها تراهُ إنساناً طبيعياً ماديا في جوانب من حياته – رقعة الحياة العامة – وكفى، وتَلزَمُ الصَّمْتَ فيما يتَّصِلُ بالجوانب الأخرى من حياته. ويمكن تسمية العلمانية الجزئية «العلمانية الأخلاقية» أو «العلمانية الإنسانية».

يُعتبر التقسيم الذي قدَّمَهُ المسيري من أدقّ التقسيمات المتعلقة بالمساحات التي تتمدد عليها العالمانيات، واقعيًّا، غير أن المسيري يُنازع في دعواه أن العالمانية الجزئية «لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والنهائية»؛ فإنه لا تخلو منظومة تنظيمية من رؤية كلية كامنة فيها .

إن الفارق الحقيقي بين العالمانية الشاملة والعالمانية الجزئية هو في مقدار التسامح مع الدين في مَنْحِهِ حَقَّ الوجود على الرغم من أصل الموقف السلبي من جوهر مُماسته للحياة وتأثيره فيها، وليس في أمر التعامل مع هذه الأبعاد الكلية، فالعالمانية الجزئية هي نظرة عقيدية مبدئية مُصارِمة للدين في باب واحد أو أبواب عدَّة، ومُتسامحة مع حُضوره في أبواب أخرى، وهي في مصارميها للدين كما في تسامحها معه تنطلق من مبدأ أولي يُعطي حقَّ البدل والمنع لعقيدة العُلْمَنَةِ، فهي في مَنْعِها الحضور الديني تنطلق من حق مبدئي لمشافقة الدين، وعندما تسمح له بالظهور والتأثير فإنَّها تُعطيه هذا الحق انطلاقا من تصور مبدئي يُقرِّرُ أنَّ لِلنَّاسِ أنْ يُمارسوا تَدَيَّنَهُم في حدودٍ لا تَضُرُّ بأصل هَيْمَنَةِ الدَّهْرِيَّةِ على الوجود.

المصدر

كتاب: “العلمانية، طاعون العصر: كشف المصطلح وفضح الدلالة”، سامي عامري، ص82-90.

اقرأ أيضا

لماذا العالمانية؟

الفرقان بين الإسلام والعلمانية

أهل السنة.. وحسم الموقف من العلمانية

دور أهل السنة في فضح العلمانية

العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية

التعليقات غير متاحة