إنّ أمّة الإسلام اختصّها الله من بين أُمَم الأرض بواجب الدّعوة إلى الله، وشرَّفها دون غَيرها بحَمْل الأمانة، وتَبليغ الرسالة، وتَقديم النُّصح لشعوب العالَم؛ فما هي أسباب هذا التشريف؟!

حاجة البشرية إلى الإسلام

المسلمون وحْدهم دون غَيرهم من أمم الأرض وشعوب الدنيا، مطالبون شرعاً وعقلاً أن يَمسحوا آلام البشريّة، وأن يُوقفوا نَزيف الدماء المستمر، وأن يَهْدوا العُقول الحائرة، والقُلوب الضالة، وأن يرُدّوا النفوس التائهة والشاردة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم:30).

وإنّ المستضعَفين في العالَم والمُضطهَدين من الأفراد والجَماعات، ليتطلّعون إلى أمّة الدّعوة أن تدعُوَهم إلى الإيمان، وتبلّغ إليهم الإسلام، وتَشرح لهم عقائده وعباداته وأخلاقه، وأن تخلِّص العالَم من كابوس الكُفر والجَهل. قال تعالى مُخاطباً أمّة الدعوة ومعاتباً لها الرّكونَ إلى الأرض، والتخاذلّ عن نجدة المقهورين والمغلوبين: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75).

لِمَ كانت أمّة الإسلام هي المُكلَّفة شرعاً بالدّعوة إلى الله دون غَيرها من الأمم؟

إنّ أمّة الإسلام اختصّها الله من بين أُمَم الأرض بواجب الدّعوة إلى الله، وشرَّفها دون غَيرها بحَمْل الأمانة، وتَبليغ الرسالة، وتَقديم النُّصح لشعوب العالَم؛ وذلك للأسباب التالية:

أولاً: هي الأمة الوَحيدة التي تَحمل على عاتِقها وَحْيَ السماء، ورسالات الأنبياء، من لَدُن آدم إلى أن يَرث الله الأرض ومَن عليها.

فبعد أنِ اندثرت الكُتب السابقة، وحُرّف ما بَقي منها إثر انتهاء حياة النبي أو الرسول، أصبحت الأمّة الإسلامية هي الآن الأمينة على شَرع الله، والمُؤتَمَنة على عقائد البَشر، المُصحِّحة لِمَا انحرف منها، الدّالّة على المَنهج القَويم والسلوك المستقيم في شتّى جَوانب الحياة، عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً واقتصادياً.

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110).

ثانياً: هذه الأمّة صاغَها القرآن الكريم صياغة فَريدة، وربّاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- تَربية مُميّزة، تؤهِّلها لهداية البشَر.

ولقد كانت دَعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مَكة المُكرّمة والمَدينة المُنوّرة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وتَنزّل القرآن الكريم وفْقَ الوقائع والأحداث، كَفيلاً أن يُعِدّ المسلمين إعداداً خاصاً لِحَمْل رسالة الإسلام. وإنّ حِفظ الله سبحانه للقُرآن الكريم، وصوْنَه لسُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوجَبَ استمراريّة الدّعوة وبقاءَها، ومكَّن المسلمين عَبر التاريخ من القيام بما فُرض عليهم، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

ثالثاً: هذه الأمّة هي اليد الحارسة الأمينة على كلّ مَعروف وخَير وبِرّ، والعَين الساهرة على حُرمات الله وحُدودِه

هذه الأمّة بما تَحْمله من دِين الله، وبما أوجبه الله عليها مِن تَبليغه ونَشْره، هي اليد الحارسة الأمينة على كلّ مَعروف وخَير وبِرّ، والعَين الساهرة على حُرمات الله وحُدودِه، تَرصد كلّ مُنكر وتَتعقّبُه، وتَنهَى عنه وتُجْهِز عَليه، وتَتصدّى للظّلم والبَغي وتَقضي عليه. وهي بهذا التَّفويض الإلهي شاهِدةُ صدقٍ وحقٍ على الأمم السابقة ومَواقفها من أنبيائها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143).

وهي أيضاً مَسؤولة عن صلاح البشَر وإصلاحهم إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزُّخرُف:44).

رابعاً: إنّ هذه الأمّة أمّة راكعةٌ ساجدةٌ عابدةٌ

مجاهدةٌ في سبيل الله، ومُختارة من بيْن أمم الدنيا، لتَنال شَرف اجتباء الله لها، وشهادة الأنبياء بأحقِّيّتها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:77، 78).

خامساً: فساد الدول والمؤسسات

حينما يتلفّت الإنسان حَوله ويُبصِر أحوال العالَم بأسرِه، يجِد دُوَلاً قَويّةً تدَّعي العَدل وتزعُم الحُرية والديمقراطية ونُصرة الشُّعوب، وهي في الحَقيقة والواقع مصدرُ الخَوف والاضطراب في العالَم. أيدي هذه الدول مُلطَّخة بدماء الشُّعوب، وتاريخها تاريخ أسود، سوَّدتْه بما ارتَكبتْه في حَقّ الأمم من نَهب خيراتها وثَرواتها، والقضاء على آمالها في أن تحيا حياة آمنة كريمة. وقد اصطنعت هذه الدّول مؤسسات عالَميّة وهيئات دوليّة، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وغيرهما، تُحرِّكِها كالدُّمى وتُسخِّرها لأغراضها، والوَيل لمَن يَرفع يَده مُعتَرضاً، أو يَعلو صوته مُحتجاً. وكان حصاد الإنسانية -ولا سيما العالَم الإسلامي- مُؤلماً ومَريراً؛ فاختلَّت القِيم الإنسانية، ومُسِخت الفِطرة البشرية، وعمَّ الظُّلم وفَسدت الأخلاق، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41).

هذا كلّه يُلقِي العِبء على أمّة الإسلام، ويُلزِمها أن تَتصدّى لِكلّ عوامِل الفَساد والانحراف. وهي مُهيّئة تماماً لهذا الأمْر بما تَحمِله من خصائص وثوابت شرَّفها الله بها، وإمكانات وموارد حباها الله بها، لِتُسخِّر جزءاً منها للدّعوة إلى الله. والظروف العالمية والتهيؤ النفسي والاستعداد القلبي صالح تماماً لنجاح الدعوة إلى الله واستمرارها.

عوامل الفَوز والفَلاح للدّعاة

وعوامل الفَوز والفَلاح للدّعاة مُتحقّقة بما يلي:

أولاً: سنة الله في نصر المؤمنين

إنّ دفاع الله عن عباده، وتأييده لهم، وتَمكِينهم في الأرض، سُنَّة من سُنن الله في هذا الكون لا تَتخلّف، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور:55، 56).

وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (يونس:55).

وقال تعالى: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:5 – 7).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:105 – 107).

وما على أمّة الدّعوة إلاّ أن تَستَشعر حَقيقة هذا التأييد والوَعد، وأن تَعمل بكلّ طاقاتها لتحصيل أسبابه، وأن يَتعمَّق في مشاعِرها وعُقولها أنّ هذا وعْد من الله مُحقّق لا يَتخلّف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:7، 8).

ثانياً: سنة الله في إهلاك الظالمين

إنّ عُلوّ كلمة الحق وغَلبة أهله، وإزهاق الباطل وهَزيمة حِزبه، عَدلٌ إلهي مُتحقَّقٌ، وسُنّة كَونيّة لا تَتخلّف. قد يَتعثَّر الحَق أحياناً لضَعف يعْتري أصحابه، قد يَتخلَّف أحياناً لابتلاء أعوانِه واكتشاف معادن إيمانهم وقُوة عَقيدَتهم، وقد يتأخّر لأن قَومه لا يَملكون مُقوِّمات إظهاره … ولكن في النهاية لا بدَّ للحق أن تَعلو رايتُه، وتَخفِق أعلامُهُ، ويَسودَ أهلُهُ، وأن الباطل مهما عَلا صَوته سيأتي وقتٌ يأذن الله فيه بانكسار شَوكتِه، واندحار جُنده، وفَضيحة حِزبه، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال:7، 8).

وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81).

وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18).

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج:62).

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} (الروم:60).

فشأن الحَق في ارتفاع، وأمْر الدعوة إلى الله في انتشار، وجُند الله ودُعاته سيُكتب لهم الانتصار، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فُصِّلَت:53)، أي: الإسلام. {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فُصِّلَت:53).

قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر:51، 52).

ثالثاً: إفلاس الحضارة الغربية

إنّ أمم الكُفر ودوَل الظُلم والبَغْي قد انفضَح أمْرها، وانكشفت سَوْءتها أمام العالَم؛ فشعوبُهم، وإن تَقدَّمت عِلمياً ومادياً، وتَفنّنت في أساليب التَّرف والانغماس في الشَّهوات، إلاّ أنهم فقدوا طمأنينة القَلب، وانشراح الصَدر، واستقرار النَّفس، فانتشرت عوامِل القَلق والتَّوتر والاكتئاب، وكَثُرت حوادث الانتحار، وزادت مُعدَّلات الجَريمة، وغدا الناس غَير آمنِين على أموالِهم وأعراضِهم. وفي أقطار العالم الإسلامي ودوَله، تحقّق لكل ذي عَقل وفِكر، وتبيَّن لكل ذي نظر ثاقب ورأي سديد، ما جناه المسلمون في تاريخهم الحديث من جرّاء ترْك دِينهم وراء ظهورهم، ووضْع أصابعهم في آذانهم عند نصيحة العلماء ودعوة الدّعاة. وانطلق الكَثير من أبناء المسلمين في رُعونة وعَدم رَويَّة نحو الثقافة الغَربية، والتي هي مَزيج من الحضارتيْن الرُّومانية واليونانية الوثنية، وبقايا النصرانية المُحرّفة، يقلِّدون أوربا، ويقْتبسون أنظمتها، ويَصبغون المُجتمعات الإسلامية بصِبغة التَّحلّل من الدِّين، والتخفّف من أوامر الشّرع، مُعتقدين اعتقاداً خاطئاً أنّ هذا يُحَقّق لهم التَّقدُّم، ويأتي لهم بالازدهار، فلم يَجنوا من ذلك سِوى خَيبة الأمَل، وضياع الأمّة، واستعباد واحتلال الأوطان، ونَهْب الثروات، واستشراء الفِتن، وتفاقُم الخُطوب، وتعاظُم الظُّلم والاستبداد. وقد مُزِّقت أوصال الأمّة الإسلامية شرَّ مُمزَّق، وانفرد أهلها إلى دويلات ليس لها من مظاهر السيادة إلاّ عَلَم يُرفرف في خَجل واستحياء، واستقلال يَرتدي ثَوب التَّبعيّة طَوعاً أو كَرهاً.

هذه الظواهر ألْقت بالوَهن في القلوب، واليأس في الصُدور، وفقدان المُسلم معالم الرُّؤية.

مع العلْم أن نور الله بأيديهم، وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أمام أعينهم، وعلى مَقربة منهم. وتاريخ الإسلام بحضارته المُتألِّقة، وشمس شرائعه المُشرقة، تَحوط بِهم، تَصونُهم وتَحفظهم وتَرعاهم.

إنّ إفلاس الحضارة الغَربيّة وانفضاح أمْرها، ومن قبْل ذلك سقوط الشيوعية وانهيار نظامِها في الاتحاد السوفيتي، عام 1991م، بعد أربعة وسبعين عاماً من الحُكم الشيوعي، والذي كان يرزح تحت وطأة اسبتداده وقهره قرابة المائة مليون مسلم تعرّضوا لشتّى أنواع القهر والإبادة منذ عام 1917م، لَدليلٌ على فساد الحضارة المعاصرة. ولقد شاءت إرادة الله، وفْق سُننه الكَونية التي لا تَتخلّف، أن ينهار الاتحاد السوفيتي انهياراً فاجأ الدنيا بأسْرها، وتساقَطت نُظمه التي كانت تَقوم على الوجودية والإلحاد، وإنكار وجود الله، كما تَتساقط أوراق الخَريف الجافّة.

وكان أحد أسباب سقوطه الرئيسية: تلك الهَزيمة النَّكراء في أفغانستان، وانسحابه منها، مَهزوماً يَلعَق جِراحه بعد حَروب دامت عشر سنوات من عام 1979 إلى 1989م.

ولقد كان انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية انهياراً سَريعاً مُدوياً صكّ سَمع العالم أجمع، وسَط الذُّهول والحَسرة التي انتابت مَن كانوا يَتَّخِذون من الماركسية عَقيدة والشيوعية مَذهباً.

وسوف تَلحقها -بإذن الله- الحضارة الغَربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد حفرت بيدها نَفقاً مُظلماً بعُدوانِها على أقطار المُسلمين، وانحيازِها الأعمى لإسرائيل.

هذه الأحداث السريعة والمُتلاحقة، وذلك الخواء الروحي، والإفلاس الفِكري، والانهيار الخلُقي، والفوضى التي انتابت العالَم، والفِتن التي تَعْصف بشعوبه، يُلقي عِبئاً ثَقيلاً على أمّة الإسلام، ويَضع على عاتِقها -إن طَوعاً أو كَرهاً- إصلاح الفِطرة الإنسانية التي فَسدت؛ فهي الأمّة المُهيّئَة لذلك، والمَسؤولة أمام الله عن هداية الأمم للنور المُبين، والصراط المستقيم.

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الفتح:28).

فالدّعوة إلى الله باقية ما دامت السماوات والأرض، مُستمرّة ما تعاقَب الليل والنهار، وسوف يُمكِّن الله للدّعاة في الأرض إذا ما خَلُصت النِّيّة، وتَحرّر المسلمون من التَّبعيّة، ووحّدوا جُهودهم، واستغلّوا مَواردهم، ونظّموا شُؤونهم وفق شرْع الله وأحكامه، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

ولكن متى تؤتي الدعوة ثمارها؟

إن الدعوة لن تؤتي ثمارها في إنقاذ البشرية مما هي فيه من تخبط وشقاء إلا بالجهاد الذي ينطلق من كيان قوي ودولة تحكم شرع الله وتجاهد في سبيل الله ولذا ينبغي إقامة هذا الكيان لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

المصدر

كتاب: أصول الدعوة وطرقها: مناهج جامعة المدينة العالمية، ص71-78.

اقرأ أيضا

أثر الدعوة والجهاد على عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية

الوسطية في الدعوة والتغيير .. بين الخوارج والمرجئة

لماذا الدعوة إلى اللَّه عز وجل..؟

التعليقات غير متاحة