أيها الدعاة إن التضحية هي بذل النفس والمال، والوقت والجهد، وكل شيء في سبيل الدعوة إلى الله، لأجل إعلاء دينه، وسيادة شرعه، وإظهار الحق، وكسر شوكة الباطل، ونشر الإسلام، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ليفوزوا بسعادة الدارين.
أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها”
الأخلاق الحميدة التي دعا إليها الإسلام كثيرة جدا، ويكفي أن يتخلق الداعية بكل خلق حسن ذكره الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، ودعا إليه وحمد أهله وأثنى عليهم؛ اقتضاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم، فلقد تخلق بمكارم الأخلاق كلها كما أمره ربه في القرآن الكريم، ولذلك لما سئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت للسائل: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قالت: (كان خلقه القرآن).
من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية
فعليك أيها الداعية بمخالطة الناس، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتضحية لهذا الدين مهما كلفتك التضحية، ولك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأسوة الحسنة فلقد بذل النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل هذه الدعوة الكثير، والكثير، وعانى من أجلها أيضًا الكثير، والكثير، ولقي من الظلم، والاضطهاد، والتعذيب الشيء الكثير، وكتب السيرة مليئة بهذه الصور صور الاجتهاد، والتعذيب التي لاقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من أجل قيامهم بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
نماذج من تضحيات الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة
إيذاء عقبة بن أبي معيط للنبيّ صلى الله عليه وسلم
من هذه الصور ما رواه البخاري عن عبد الله قال: ((بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جذور آل فلان فيعمد إلى فرثها، ودمها، وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد، وضعه بين كتفيه فانبعث أشقاهم فلما سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه، وثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة -رضي الله عنها- وهي جويرية فأقبلت تسعى، وثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش، ثم سمى بعضهم، فقال: اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد. قال عبد الله: لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأتبع أصحاب القليب لعنة)).
تهديد أبي جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((قال أبو جهل: هل يُعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرنّ وجهه في التراب قال: فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني، وبينه لخندقًا من نار، وهولًا، وأجنحة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)) فأنزل الله عز وجل فيه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (العلق: 6 – 12) إلى آخر السورة.
محاولة عقبة بن أبي معيط قتل النبي صلى الله عليه وسلم
بل إنهم قد حاولوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا لشيء إلا لدعوتهم إلى الله سبحانه، فروى البخاري أيضًا عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: ((أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ})) كل هذا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صابر محتسب لم يرجع عن دعوته، ولم يفكر في هجر قومه، واعتزالهم.
نماذج من تضحيات الصحابة
كما أن الذين سبقوا إلى الإسلام، واتبعوه -عليه الصلاة والسلام- لقوا من الأذى، والاضطهاد، والتعذيب على يد المشركين الكثير، والكثير فمعلوم من سيرته -صلى الله عليه وسلم- أنه بدأ دعوته سرًّا فكان أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الرجال أبو بكر فكان أبو بكر -رضي الله عنه- من رؤساء قريش، ومحط مشورتهم، وكان من أعف الناس، وكان كريمًا سخيًّا يبذل المال محببًا في قومه، ومع كل ذلك فإنه لم يسلم من قومه بل قيدوه، وحاولوا تعذيبه كذلك فعلوا بعثمان بن عفان، وسعد بن أبي، وقاص، وطلحة بن عبد الله، وخالد بن سعيد بن العاص، وما قصة بلال بخافية عن عامة المسلمين فضلًا عن دعاتهم فلقد كانوا يأخذونه في وسط النهار فيخرجون به إلى الصحراء يجردونه من ثيابه، ويضعونه على الرمال الساخنة في حر الظهيرة، ويضعون الصخور الثقيلة على بطنه فما يزالون يعذبونه، ولا يزيد على قوله: أحد أحد.
ولما اشتد الأذى، والاضطهاد، والتعذيب جاءوا يشكون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال: خباب -رضي الله عنه-: ((شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا فقال -صلى الله عليه وسلم-: قد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيفرق فرقتين ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه)).
حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية
فيا أيها الداعية ضح من أجل دعوتك، وجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فإن الجزاء عظيم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف: 10 – 13).
فجاهد في سبيل الله، ولا تخش في الله لومة لائم، واصبر على ما تلقاه من الأذى، والاضطهاد كما، وصاك الله -عز وجل- فإن الله تعالى قد مدح لقمان الحكيم على وصيته ابنه بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى فحكى الله -سبحانه وتعالى- وصية لقمان لابنه على سبيل المدح، والثناء الذي يدل على الرضا {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان: 17) اصبر على ما أصابك، وإياك، والفزع، وإياك، والجزع فتترك الدعوة، وتنعزل، وتقعد في بيتك وحيدًا، وتتخلى عن الطريق فإن الله -تبارك وتعالى- ذم من كانت هذه حاله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} (العنكبوت: 10، 11).
فتى الأخدود صورة رائعة من صور التضحية من أجل الدعوة
فاصبر، واحتسب، وإليك هذه الصورة الرائعة من صور التضحية من أجل الدعوة إلى الله -عز وجل- كانت من شباب الدعوة في الذين مضوا من قبلنا، عن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر فبينما هو على ذلك إذا أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها، ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه، والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: ولك ربي غيري؟ قال: ربي، وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام.
فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه، والأبرص، وتفعل، وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا، وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا.
وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحلموه في قرقور، وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه، وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل بأصحابي؟ قال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جزع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جزع، ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت، وأضمر فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة، ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق)).
هذه صور من صور تضحية الدعاة من أجل دعوة الله عز وجل، ومن أجل القيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده أيها الداعية ضح كما ضحوا، واصبر كما صبروا فاصبر إن العاقبة للمتقين.
وصلى الله وسلم، وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر
كتاب: “أصول الدعوة” جامعة المدينة العالمية، ص364-371.
اقرأ أيضا
من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة
أيها الدعاة.. استكملوا غرس فسائلكم