ما بين ذنوب تعصف بالتوحيد ويبدّل صاحبُها دينه، وبين من ينفي توحيدُه جميع صحائف الذنوب ويبددها، وبين من يلقى الله بهما لا يبدل صاحبها دينه ولا يمحو توحيده ذنوبه، ثمة فروق شرعية يجب معرفتها وبيانها.
اختلاف أحوال العباد
تتعدد الحالات التي وردت في الشريعة المباركة فيما أخبر الله ورسولُه؛ بين من تتكاثر ذنوبه حتى يبدل دينه ويموت على الكفر كما قال تعالى ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14).
وبين من يحرق توحيدُه ذنوبه وتطيش له سجلات الذنوب كصاحب البطاقة يوم القيامة، الذي يُنشر له تسعة وتسعون سجلا من الذنوب كل منها مد البصر..
وبين من يبقى له توحيده ويحمل ذنوبه، ويدخل النار يُعذَّب عذابا متنوّعا بحسب ما أذنب، حتى يتطهر ثم يكون مآله الجنة..
هذه الحالات تحتاج لتوضيح لمعرفة الفروق بينها وضابط كل حالة بحسب ما جاء فيها من العلم الشرعي.
وكذلك ما ورد من الأحاديث عن “من كان آخر كلامه «لا إله إلا الله» دخل الجنة”، ومعرفة متى تنفي هذه الكلمة جميع الذنوب، ومتى لا تنفي الذنوب بل ترجح بها، ومتى تضعف عن إنجاء صاحبها فلا تمنعه من دخول العذاب ابتداء وإن منعت خلوده فيه..
كل من هذه حالات، من الخير ومن الأهمية أن يعرفها المسلم لينجو من النار، ولينطق بهذه الكلمة العظيمة على الوجه المنجي بل الدافع الى الكمال.
أثر التوحيد على الذنوب وأثرها فيه
للتوحيد مع الذنوب ثلاثة أوضاع:
أولا: توحيد يعصف بالذنوب
التوحيد الذي بلغه صاحبه درجة عالية من التجرد والإخلاص، وقوة الاعتصام والتوكل وعظيم الحب والتوجه مع المبالغة في العبودية والخضوع والالتفات إلى الخالق سببًا وغاية والانشغال بطلبه عن الخلق.
هذا التوحيد يكفّر لصاحبه سجلات من الذنوب كما في حديث البطاقة التي طاشت لها السجلات.
ثانيا: توحيد يُخشى على صاحبه من التبديل
توحيد لا يتجاوز الفراغ من العهدة واستيفاء الأركان، فهذا توحيد يُخشى عليه من الضياع وأن يموت صاحبه على التبديل والتغيير إذا تكاثرت عليه الذنوب.
لأن كل مرتبة من مراتب الإسلام الثلاث حمى لغيرها.
فالدخول في مرتبة الإحسان بترك بعض المكروهات والتنزه عن المشتبهات وفعل بعض المندوبات حمى لمرتبة المقتصد وإلا أوشكت على الانخرام.
وكذلك إذا تعرّت مرتبة الإسلام من كل المفروضات ومن ترك المحرمات فواقَع َصاحبها كل المحرمات وترك كل الفرائض ووقف على حد الإسلام لا يتجاوزه بشيء من الطاعات بإتيان أو ترك. أوشكت مرتبة الإسلام على الانخرام وانحط إلى هاوية الشرك والعياذ بالله والدليل:
(أ) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب». (1)
(ب) وفي الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون». (2)
ونفس المعنى في الحديث الآخر: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأيما قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين قلب أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وأبيض لا تضره فتن ما دامت الحياة الدنيا» (3)، وفي الأثر: «المعاصي بريد الكفر».
ثالثا: لا يقوى أحدهما على العصف بالآخر
وبين هذين الوضعين من لا تقوى ذنوبه مهما تعاظمت على أن تعصف بتوحيده ولا يقوى توحيده على تكفيرها فلا يبقى له من عمله إلا التوحيد.
فهؤلاء يخرجهم الرحمن بقبضته من النار بعد طول المكث فيها، ولم يعملوا خيرًا قط زيادة على التوحيد ويسمون “عتقاء الرحمن”.
ولا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد بعد هؤلاء ولا يبقى فيها إلا من حبسه القرآن وأوجب عليه الشرك الخلود فيها وأجمع السلف على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد. (4)
متى يكون النطق بـ “لا إله إلا الله” نافعا لصاحبها
يبين شيخ الإسلام ابن تيمية الفرق بين يقول «لا اله الا الله» تقليدا غير نافع لصاحبها.
ومن يقولها على وجه ترك الشرك الأعظم، لو مات على هذا رجحت بذنوبه وأدخلته الجنة.
أو من يعيش بعدها ويكتسب ذنوبا توهن قلبه وتُفقده الإخلاص السابق فلا يقوم بقلبه من المعاني المقترنة بـ «لا اله إلا الله» ما يحرق الذنوب.
وكذلك الفرق بين من يقولها على وجه الكمال النافي لإراداة جميع الذنوب، فتنفي الذنوب من القلب وتدفع صاحبها الى الكمال..
“قال شيخ الإسلام، وغيره، فإن حقيقة التوحيد: انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة؛ فمن شهد: أن لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة؛ لأن الإخلاص، هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك.
فإنه قد تواترت الأحاديث: بأنه يخرج من النار، من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت: بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله، يدخل النار، ثم يخرج منها؛ وتواترت: بأن الله حرم على النار، أن تأكل أثر السجود من ابن آدم؛ فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله؛ وتواترت: بأنه يحرم على النار من قال، لا إله إلا الله، وشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها، لا يعرف الإخلاص؛ وأكثر من يقولها، تقليداً وعادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه.
وغالب من يفتن عند الموت، وفي القبور، أمثال هؤلاء، كما في الحديث «سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» وغالب أعمال هؤلاء، إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس، من قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 23).
وحينئذ: فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص، ويقين تام، لم يكن في هذا الحال مصراً على ذنب أصلاً؛ فإن كمال إخلاصه ويقينه، يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين: لا تترك له ذنباً إلا محي عنه، كما يمحوا الليل النهار. (5)
حالات القائلين “لا إله إلا الله”
1) فإذا قالها على وجه الكمال، المانع من الشرك الأكبر، والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له، ويحرم على النار.
2) وإن قالها على وجه، خلص به من الشرك الأكبر، دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة، بقدر ذنوبه.
3) وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته، ومات مصراً على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات، رجحت على حسنة توحيده؛ فإنه في حال قولها كان مخلصاً، لكنه أتى بذنوب أوْهَنت ذلك التوحيد والإخلاص، فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصراً على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة”. (6)
ما يُخشى على المخلِص
“وإنما يخاف على المخلص أن يأتى بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر، بقى معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات؛ فإن السيئات: تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذى، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن، من غير ذوق طعم وحلاوة.
فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة، تمنعهم من دخول الجنة، فإذا كثرت الذنوب، ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الباطل وكره مخالطة أهل الحق.
فمثل هذا: إذا قالها، قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدّقه عمله، قال الحسن: «ليس الإيمان بالتحلى، ولا بالتمنى، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال؛ فمن قال خيراً قُبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يُقبل منه»؛ وقال أبو بكر بن عبد الله المزنى: «ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشئ وقر في قلبه».
فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقاً في قولها، موقناً بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات، على هذه الحسنة، ومات مصراً على الذنوب، بخلاف من يقولها، بيقين، وصدْق ثابت، فإنه لا يموت مصراً على الذنوب؛ إما: إلا يكون مصراً على سيئة أصلاً؛ أو يكون توحيده، المتضمن لصدقه ويقينه، رجح حسناته”. (7)
من يدخل النار من القائلين “لا إله إلا الله”
والذي يدخل النار، ممن يقولها:
” إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام، المنافيين للسيئات، أو لرجحانها.
أو قالوها، واكتسبوا بعد ذلك سيئات، رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولها بعد ذلك، بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق، واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء: لا يقوى على محو السيئآت، فترجح سيآتهم على حسناتهم، انتهى ملخصاً. (8)
وقال: العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
“ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك.
فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده.
فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض”. (9)
…………………………………………..
هوامش:
- أخرجه البخاري ومسلم ، وأخرجه الترمذي إلى قوله : «محارمه» وأخرجه أبو داود إلى قوله : «وقع في الحرام».
- رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
- صحيح مسلم «كتاب الإيمان».
- كتاب أصل الدين عند الأئمة وسلف الأمة، الشيخ الشاذلي (صـ 32-33).
- الدرر السنية، سليمان بن سحمان، نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية (جـ 2 صـ 350-355).
- المصدر السابق.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- (إغاثة اللهفان ج1/ص132) ط دار ابن الجوزي، تخريج العلامة الألباني.