إن من لم يخف الله خاف كل أحد سواه، ومن لم يذل لله ذل لكل أحد سواه، ومن لم يستعن بالله استعان وطلب معونة كل أحد سواه، ونرى ذلك واضحاً جلياً في واقع حياتنا، ولعلنا عندما نستحضر الأمثلة في ذلك ندرك حقيقة الأمر.
كعب بن مالك ورسالة الروم إليه
وكذلك من أثر الإيمان والأمان التحرر من الخوف على الرزق، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، أفإذا أعطانا غيرنا أو منعنا بدلنا؟ أفلا نرى المواقف اليوم وهي تباع وتشترى بالدرهم والدينار، أو بالجنيه والدولار، أفلا نرى ذلك الضعف والاختراق الأمني الخطير في صفوف الأمة الإسلامية منشؤه عدم وجود هذا الإيمان.
كعب بن مالك رضي الله عنه من المخلفين الثلاثة، الذين قوطعوا ومنع الناس من الحديث معهم، قال عن نفسه: (حتى ضاقت علي نفسي، وضاقت الأرض بما رحبت).
عندما كان هذا التغير في هذا الفرد علمت الدولة العظمى بذلك، وكانت تعلم أن الصف متماسك، ولكنها قالت: لعل هذه لبنة يمكن الاختراق من خلالها، ولعل هذا الغاضب على أهله وقبيلته أو عشيرته وأهل ملته؛ لعله أن يكون مهيئاً لينتقل إلى صفوفنا، وليكون من أوليائنا، ولنجعله سهماً ورمحاً نطعن به في خاصرة أعدائنا، قال كعب بن مالك: فإذا رجل من الأنباط يسأل عني، فأشاروا إلي، فأعطاني رسالة فيها: قد علمنا أن صاحبك قلاك -أي: هجرك- ولم يجعلك الله بأرض مضيعة، فالحق بنا نواسك.
أي: تعال إلينا وسوف نعطيك ونعطيك ونقدم لك والذي يبيع موقفه يباع كما باع، والذي يذل لا يلقى شيئاً من دنياه ولا أخراه، وهذه قضية مهمة لعلنا نجعلها في أولى الأولويات في قضية الآثار الإيمانية، وللشافعي رحمه الله مقالة جميلة يقول فيها: أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً.
الفضل بن دكين وفتنة المال
من كان يوقن بذلك فإنه لن يبيع نفسه بدرهم ولا ديناراً، فهذا الفضل بن دكين من علماء الإسلام، عند فتنة خلق القرآن كان ممن يدرسون ويأخذون أجراً من بيت المال، فلما دعي إلى هذه الفتنة امتنع منها، قالوا: إذاً نقطع عنك عطاءك؛ فأي شيء صنع؟ قال: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كزر قميصي هذا، ثم خلعه ورمى به في وجوه القوم.
هذه قوة تستعصي على أي انجذاب أو تغيير أو تمييع أو استمالة.
وكذلك فعل بأحد السلف في فتنة خلق القرآن وقطع عنه رزقه، وكان كما قال الذهبي في ترجمته: وكان في بيته أربعون نفساً -يعني: أسرته ومن يعولهم- فلم يفكر كيف سيأكلون؛ أو كيف سوف يؤمن حياتهم؟ لأن يقينه بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الذهبي في السير أنه قال: فما جاء الليل إلا وطارق يطرق، ففتحت فإذا رجل شبهته بسمان قال: وإذا به يدفع لي كيساً فيه ألف دينار، ثم يقول: ثبتك الله كما ثبت هذا الدين، وإذا كان آخر كل شهر كان مثل ذلك، ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب.
وهذه قضايا إيمانية مهمة في أحوالنا الملمة نحتاج إلى أن نتأملها ونتدبرها.
حبيب بن زيد ومسيلمة الكذاب
حبيب بن زيد رضي الله عنه يوم بعثه الرسول إلى مسيلمة الكذاب، فكان يقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيعيد عليه مسيلمة ويريده أن يقول: وأن مسيلمة رسول الله، فيقول: لا أسمع، فيكرر عليه، فيقول: لا أسمع، فيبدأ بقطع أعضائه؛ فيقطع أذنه ويجدع أنفه، حتى قطع أوصاله وأسلمت روحه إلى بارئها وهو لم يغير موقفه، ولم يبدل، ولم يكن ذلك الذي يمكن أن يساوم على دينه، ولذلك كانت قوة الإيمان حرية لا يستطيع أحد أن يملك بها شيئاً تغير به معتقدك: قد تملك سوطاً يكويني وتهز القلب بسكين لكن سلطانك لن يرقى لذرى إيماني ويقيني وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم.
عبد الله بن حذافة وملك الروم
ولعلنا نتذكر الموقف العظيم الذي يجمع بين هذا وذاك، كقصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه الذي كان مأسوراً عند الروم، فجاء به ملكهم وقال له: أترجع عن دينك وأعطيك شطر ملكي؟ قال: لا.
وأعطيك كل ملكي؟ قال: لا.
ولو أعطيتني الدنيا وما فيها.
فأراد أن يأتيه من جانب آخر: جاءوا بقدر كبير مملوء زيتاً ثم أشعلوا تحته ناراً، حتى صار الزيت مغلياً، ثم أتوا ببعض أسرى المسلمين يغمسونهم في هذا الزيت فيدخل أحدهم لحماً ويخرج عظماً، وعبد الله ينظر، وبعد واحد واثنين وثلاثة دمعت عينه رضي الله عنه، فأخبر الملك، فقال: عليَّ به! ظن أنه قد لان وهان وذل وتابع وغير وبدل، فلما جاءه قال: فيم بكاؤك؟ قال: لقد علمت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، وودت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً تزهق كلها في سبيل الله.
لقد كان يفكر في ميدان آخر، وكانت مشاعره غير ما يفكر به أولئك الدنيويون الخائفون الجبناء الأذلاء، ولذلك قال بمقال قطري بن الفجاءة رضي الله عنه: أي يوم من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر.
موقف أنس بن النضر في أحد
إن حقيقة الإيمان ترسخ أنه لا أحد ينفع ولا يضر ولا يقدم ولا يؤخر إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لغلام صغير وهو ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، من يستطيع أن يؤثر على من هذا إيمانه ويقينه؟ من يستطيع أن يؤثر على من يؤمن ويوقن بقول الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؟ أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فقال: لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع، وهذا قول يمكن أن أقوله أنا وأنت، لكن إنما يتبين صدق القول عند الفعل.
جاءت غزوة أحد وشارك فيها أنس بن النضر، ووقع ما وقع لالتفاف ابن الوليد رضي الله عنه، واضطراب المسلمين، ووقوع القتل فيهم، وإذا بـ أنس حينئذ يقول: (واها لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد)! كأنما يشم رائحتها، كأنما قضايا الإيمان تجلت، وكأنما هي حقيقة منظورة ملموسة، وليست مجرد غيب غير معروف ولا ملموس، ثم انطلق يلتمس الموت ليعانقه، ويخترق صفوف الكفار والمشركين ويقاتل، وتتخطفه السيوف، وتتناوله السهام، وفي صحيح البخاري: (لم يعرفه أحد إلا أخته بشامة أو بنانة له، قال: وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ليس فيها واحدة في ظهره)، فهل كان هذا يخشى الموت؟ هل مثل هذا يمكن أن يساوم على دينه؟
المصدر
المكتبة الشاملة: محاضرة بعنوان: “الإيمان والأمان في مواجهة الحرب والعدوان” للشيخ علي بن عمر بادحدح.