الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تخالف كل ما سبقها، وتتحدى كل ما يعارضها، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان، فيختلف عن كل الناس في أحواله وآماله وطموحاته وأفعاله.

أثر الإيمان الراسخ في الأمن والأمان

إن المصائب والظروف العصيبة التي تصيب المسلمين في كل بقاع الأرض، كثيرة ومتنوعة لكن أعظمها وأشدها خطراً: أن تصيب يقينهم وإيمانهم، حينها ستسلب أمنهم وأمانهم؛ فلننظر أثر الإيمان القوي الصحيح في الأمان، ونذكر ذلك في نقاط أربع:

حرية الإرادة وقوة المواجهة

ما الذي يضعف الناس إلا خوفهم؟ ما الذي يجعلهم يغيرون مواقفهم ويبدلون آراءهم، فيكونون مع هذا ثم يصيرون مع ذاك، وربما يخونون أمتهم، ويبيعون أهلهم، ويضحون ببلادهم، أي شيء ذلك؟ إنه لأمرين اثنين: الأول: خوفهم على الحياة.

الثاني: خوفهم على الرزق.

إذا هدد بحياته غير موقفه ومنهجه، ومتابعته وولاءه وبراءه، فما الذي يعصم من ذلك؟ ما الذي يؤمن الأمة لئلا تخترق من داخل صفوفها، ومن أن يكون من بين أبنائها من هو عدو لها وممالئ لعدوها؟ إنه الإيمان، وذلك لأن الإيمان حرية عظيمة، فهو يوحد الإنسان وقلبه واعتقاده وكل شيء في داخله في أمر واحد معلق بالله سبحانه وتعالى، إنه لا يخشى ولا يرجو ولا يذل ولا يسأل ولا يستعين إلا بالله كل أمره معلق بالله، والناس وقوى الدنيا كلها لا يلتفت إليها ولا يكترث بها، ولا تنال من عزمه ويقينه وتصميمه وإيمانه مطلقاً، وغيره على عكس ذلك.

يقظة الضمير واستشعار المراقبة

إن الأمن الذي يفرض بقوة العساكر، أو دقة المراقبة، أو دوام المتابعة؛ أمن هش ضعيف مهما بلغت أسبابه؛ لأنه لا يمكن أن يراقب كل أحد، ولا أن يتابع كل شخص، ولا أن يعرف ما في خفايا القلوب وطوايا النفوس، لكن الأمن الحقيقي هو الذي ينبع من داخل النفس، ويردع صاحبه عن المحرمات والمنكرات، والعدوان على الحرمات، ويدفعه إلى القيام بالواجبات وأداء المهمات، والمسارعة إلى الخيرات.

هذا الإيمان هو مملكة الضمير الحية التي عندما غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وأصحابه لم يكن في ذلك المجتمع من المفاسد والمنكرات والجرائم إلا ما يعد على أصابع اليد أو اليدين؛ دون أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام بطاقات ممغنطة، أو كاميرات تصوير، أو شرطة تجوب الشوارع والطرقات، ولا شيء من ذلك، ومع ذلك ما هي الجرائم التي وقعت؟ وما هي الاعتداءات التي تحققت؟ كيف اكتشف؟ عندما وقعت بعض هذه المحرمات والفواحش هل اكتشفتها المتابعات الأمنية، أو توصلت إليها الأدلة الجنائية، أم أن الذي أخرجها إلى حيز الوجود الحس الإيماني، واليقظة الشعورية، والمراقبة لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى؟ إذا أحيينا الإيمان في القلوب فقد نشرنا الأمان في المجتمعات، فهذا ماعز الأسلمي جاءت قصته في الصحيح: في لحظة غفلة الهوى واستزلال الشيطان، وضعف النفس، وإغراء الشهوة، وقع في جريمة الزنا، ولم يره أحد، ولم تنظره عين، ولم تضبطه شرطة، فأي شيء وقع؟ تحرك الإيمان في قلبه ندم يعتصر نفسه أسى، ويقطع قلبه ألماً، يندفع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مقراً معترفاً: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، لعله أن ينصرف؛ فيأتيه قبل وجهه ويكرر، فينصرف عنه النبي ثانية وثالثة ورابعة وهو يعيد اعترافه، فيقول عليه الصلاة والسلام: لعل به شيئاً، أي: لعله شارب للخمر ولا يدرك ما يقول، فاستنكهوه، قالوا: يا رسول الله! ما به من بأس، قال: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، حتى أقر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام برجمه فرجم)، هل يسجل التاريخ مثل هذا في غير وجود الإيمان؟ وهل يمكن أن يظهر مثل هذا في غير بيئة الإيمان؟ وأبلغ من هذا وأظهر: قصة المرأة الغامدية: جاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تقر بما أقر به ماعز -وحديثها في الصحيح كذلك- فأعرض عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (يا رسول الله! لعلك تعرض عني كما أعرضت عن ماعز؛ فإني حبلى من الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى تضعي حملك)، وذهبت دون كفالة حضورية، أو بصمات وصور، أو متابعة، ورجعت بعد تسعة أشهر كاملة.

ما الذي أعادها وقد كان بإمكانها أن تهرب؟ {فرجعت ومعها غلامها رضيع، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه.

فذهبت به حولين كاملين، ثم رجعت وهي مصرة ومعها غلامها في يده كسرة خبز دليل على فطمه، فأمر بها النبي عليه الصلاة والسلام فرجمت، فوقع بعض دمها على بعض الصحابة فلعنها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تلعنها، فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).

هذا هو الإيمان، نحن نقول: عمقوا الإيمان في النفوس حتى يشيع الأمن في المجتمع، وتشيع الرحمة، وينتشر الخير، ويعم السلام الحقيقي، لا السلام المفروض بقوة الأسلحة وبكثرة الشرط.

سكينة النفس وطمأنينة القلب

إن الذي تتضح رؤيته الفكرية، يعرف الإجابة عن الأسئلة العظمى: من أين جئنا، وإلى أين سنذهب، ولماذا خلقنا؟ نحن نعرف لماذا خلقنا، وما هو دورنا في هذه الحياة، وما يكون بعد هذه الحياة، ونعرف كذلك أن الكون كله مسير بأمر الله، وأنه لا ينفذ فيه شيء إلا بقضاء الله، ولا يغير ولا يدبر شيء في هذا الكون إلا الله، فنفوسنا حينئذ مطمئنة، وسكينتنا مستقرة، وقلوبنا ليست في حيرة ولا شك ولا خوف ولا هلع.

ونحن نعلم أن تقلبات الظروف والبلايا والرزايا والمحن والفتن تحيط بالناس، فإن لم يكن عندهم يقين راسخ، وإيمان ثابت؛ فإن ذلك يصيبهم بجزع يجعلهم ينكصون على أعقابهم، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وقد وصف الله عز وجل ذلك بأنه الخسران المبين، ولذلك نبقى على هذه الطمأنينة والسكينة؛ لأنها هي التي تفيض هذه المعاني النفسية الباطنية القلبية في الإنسان المؤمن، يقول الحق جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

والله سبحانه وتعالى بين أن اليقين والإيمان هو الذي يجعل الإنسان ثابتاً في وجه المشكلات، فكم من الناس تحل به نكبات أو مشكلات فينزلها على إيمانه، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، يلهج بـ: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذا به يشعر بالطمأنينة والسكينة، وتتبدد أمامه تلك المخاطر، ويتيسر أمامه العسير، ويصغر في ناظريه العظيم بما يفيض في قلبه سبحانه وتعالى من السكينة والطمأنينة، وغيره مرتجف مضطرب متحير متشكك خائف جزع متراجع متخاذل؛ لأنه يفتقد قوة إيمانه ويقينه، ولو أردنا أن نفيض في الأمثلة لوجدنا عجباً في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سيرة أصحابه رضوان الله عليهم، وهذا أمر مهم وخاصة في وقتنا وظروفنا هذه.

في غزوة الأحزاب بين الله عز وجل الكرب العظيم، والخطب الجسيم، والهول الفظيع الذي حل برسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته، فقال جل وعلا: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 – 11].

ماذا قال أهل الإيمان في هذه الحادثة العصيبة والمحنة الرهيبة؟ قالوا كما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:22 – 23].

والمواقف كثيرة فيما بعد، ففي أحد كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 – 174]، إنما يطمئن النفوس والقلوب ويسكنها هذا الإيمان فلا تضطرب ولا تجزع بإذن الله.

لا يستعجل المؤمنون النصر

قد يقول القائلون -وهذا يقال الآن- هؤلاء المسلمون المؤمنون ما بالهم لا ينصرون هؤلاء الكافرون المعتدون ما بالهم يسيطرون ويمد لهم في أسباب العدوان أو أسباب القوة والهيمنة والسيطرة؟! كأن بعض الناس ربما يخالط عقله ويخامر نفسه شيء من الاضطراب والحيرة والشك أو التبديل والتغيير، والله عز وجل يقول على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57]، أي: إن كانت عندكم أفكار قد اضطركم إليها أو قذف بها إليكم واقع معين؛ فإن الثوابت هي التي تحكم عليه والتي تضبطه.

وقد جاء أن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) وقد بلغ الأمر مبلغه في البلاء والإيذاء الذي حل به وببعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام بحال من كان قبلهم ممن تعرضوا للعذاب الشديد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والله ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، لم يجبهم إلى عواطفهم، ولم يوافقهم على ضرورتهم، وإن كان يدعو لهم عليه الصلاة والسلام، لكن المنهج واضح، والرؤية جلية ليس فيها غبش، وليس في أجزائها شيء من الاضطراب مطلقاً.

ولذلك نحن لن نؤمن أبداً بالديمقراطية الغربية التي يبشرون بها، ولن نغير أبداً في أسس بناء حياتنا الاجتماعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله لنوافق ما يقولونه من أفكار في تحرير الشعوب، أو حقوق الإنسان، أو حرية المرأة على مناهجهم المختلة، وتصوراتهم الفاسدة، ومناهجهم الزائغة؛ لأننا لسنا في شك من ديننا، بل نحن على بصيرة.

وهذا أمر مهم: فإن الأمن الفكري والثقافي هو صمام الأمان الأول، وخط الدفاع الذي إذا سقط كان الاضطراب فيما جاء بعده كما نرى ممن يتقاذفون هذه المقالات، ويروجون هذه الشائعات، ويزينون هذه المفتريات والمبتدعات؛ لأنهم ليسوا على بينة من أمرهم، كما قال الله عز وجل هنا: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].

الإيمان نور للبصيرة ورشد للعقل

إن الإيمان يورث رشد العقل، ونور البصيرة، فيصبح المؤمن على بينة من أمره، يعرف الحق من الباطل، ويعرف الحق معرفة جلية واضحة لا يلتبس فيها معه غيره من الباطل، ثم يثبت على ذلك لأنه يرجع إلى أصل أصيل، وركن ركين، وأساس متين مرتبط بما لا يتغير ولا يتبدل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمونه اليوم (بالأمن الثقافي والفكري)، لا تتبدل أفكارنا، ولا تتغير تصوراتنا حتى وإن عظم القائلون بما يخالفنا، وإن أكثروا منه ونوعوا أساليب عرضه، وتفننوا في الإغراء به، ولئن شددوا أو أرهبوا في ضرورة التزامه؛ فإن ذلك عند أهل الإيمان لا يغيرهم مطلقاً، ولا يمكن يوماً من الأيام أن نغير شيئاً مما هو ثابت قاطع في حقائق الإيمان من آيات القرآن وهدي المصطفى العدناني صلى الله عليه وسلم.

ولعلي أشير إلى معنى تتجلى به هذه الحقيقة في آية من كتاب الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].

تأملوا في هذه الآية؛ فهي تحمل وضوح وبيان منهج سديد ليس من أفكار عقولنا، ولا من اجتهاد علمائنا، ولا من مجامع فقهائنا، كلا.

بل هو من الله عز وجل، فهو معصوم كامل لا نقص فيه، صحيح لا باطل معه، ثابت لا شك يعتريه مطلقاً، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}، إن كذبت الدنيا كلها وخالفت فلا يعني أن نعود لنراجع، أو نبحث لنصحح، أو نجتمع لنرى هل هذا ما زال عاملاً وفاعلاً وصحيحاً أم أننا -كما يقولون- نحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا وثوابتنا وغير ذلك؟ {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}.

المصدر

المكتبة الشاملة: محاضرة بعنوان: “الإيمان والأمان في مواجهة الحرب والعدوانللشيخ علي بن عمر بادحدح.

اقرأ أيضا

حاجة البشرية إلى الإيمان

الإيمان والإرادة أقوى من الطائرة والدبابة

مفاهيم عامة حول الإيمان بالله تعالى

أثر الإيمان في بناء الأمم

أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان

التعليقات غير متاحة