الإسلام يعلو على أوضاع الناس والمجتمعات، وهو الذي يقول كلمته للإصلاح والاستقامة. هكذا دين الله، وهكذا يُطرح، وهكذا يكون أهل العلم. أما التنزل به لإرضاء الطغاة فجريمة.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:

فيقول الله عز وجل ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِين﴾ (الأنعام: 55) ويقول سبحانه (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 115).

في الآيتين السابقتين ذكر الله عز وجل لنا نوعين من السبل: الأول سبيل المجرمين، والثاني سبيل المؤمنين. وأمرَنا الله عز وجل باستبانة السبيلين لنتبع أحدهما وهو سبيل المؤمنين، ونحذر ونجتنب الآخر وهو سبيل المجرمين.

وبدون معرفة هذين السبيلين قد يَضل العبد ويُضل؛ فلو وصل العبد في معرفته لسبيل المؤمنين من العقائد والأحكام والقواعد والمعرفة التفصيلية بالأدلة الشرعية، ولم يكن عالماً  بسبيل المجرمين وعقائد المشركين ومكر الماكرين وتلبيس الملبسين فقد يجد نفسه في خندق المبطلين ولم ينتفع بعلمه بسبيل المؤمنين؛ لأن جهله بسبيل المجرمين جعله يُنزل الأحكام الشرعية المعروفة لديه في غير مناطاتها. ولا يخفى ما ينتج عن ذلك من مواقف خاطئة وموازين جائرة وبعد عن الحق والصواب.

وعلى العكس من ذلك لو كان عنده علم مفصل  بسبيل المجرمين وكيدهم وخططهم ومكرهم، ولم يكن لديه علم مفصل بالأحكام الشرعية وأدلتها التفصيلية؛ فإننا سنجد أحكامه ومواقفه مجانِبة للحق والصواب؛ لأن ضعف معرفته بسبيل المؤمنين وجهله بالأحكام الشرعية وقواعدها التفصيلية سيؤدي به الى الانحراف في المواقف لفقده الآلة التي يحكم بها على الواقع الذي ظهر له من سبيل المجرمين. والموفَق من وفَّقه الله الى العلم بالسبيلين نسأله سبحانه التوفيق والسداد.

وأنقل هنا كلاماً نفيساً للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يبين فيه أقسام الناس في علمهم  بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين؛ قال رحمه الله:

“والناس في هذا الموضوع أربع فرق:

الأولى: من استبان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علماً وعملاً. وهؤلاء أعلم الخلق.

الفرقه الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام. وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضَر ولها أسلَك.

الفرقة الثالثة: من صَرف عنايته إلى معرفه سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل؛ بل إذا سمع شيئا من مخالفة سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه.

الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصَلة وسبيلَ المؤمنين مجمَلة. وهذا حال كثيرٍ ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل، ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة…

والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصَّلة وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء وخذلانه لهؤلاء، وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء، والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه وكشَفهما وأوضحهما وبيَّنهما غايه البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.

والمقصود ان الله سبحانه يحب أن تُعرَف سبيل أعدائه لتُجتنَب وتُبغَض كما يحب أن تُعرف سبيل أوليائه لتحَب وتُسلك”. (1الفوائد ص109)

ويقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى عند قوله سبحانه ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِين﴾:

“إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله سبحانه ليتعامل مع النفس البشرية..

ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل محض وشر خالص، وأن ذلك حق محض وخير خالص..

كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده و يحاربه إنما هو على الباطل وأنه يسلك سبيل المجرمين الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل  نبي عدواً منهم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾.

ليستقر في نفس النبي و نفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون، عن ثقة وفي وضوح وعن يقين.

إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ وذلك أن أي غبش وشبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً في موقف المؤمنين وفي سبيلهم فهماً صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان ولا بد من وضوح الألوان والخطوط.

إن أشق ما تعانيه الحركات الإسلامية اليوم هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد  فيه مفارق الطريق. ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً حتى يصبح الجهر بكلمة الحق تهمة يؤاخذ عليها”. (2في ظلال القران 2 /1106-1107 باختصار وتصرف يسير)

احذر؛ لا يستخفُنّك

وبعد هذه المقدمة والنقولات التي يتضح منها أهمية العلم بسبيل المجرمين وكيدهم ومكرهم وتلبيسهم نأتي إلى عنوان هذه المقالة وهي قوله تعالى (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (الروم: 60) لندخل من خلالها الى بيان أهمية استبانة سبيل المجرمين الذين لا يوقنون؛ ولاسيما من قِبَل أهل العلم والدعوة والجهاد الذين مَنّ الله عليهم باستبانة سبيل المؤمنين وكان عندهم علم مفصل بهذا السبيل وبأدلته التفصيلية؛ ولكن إذا لم يقترن هذا العلم المفصَل بسبيل المؤمنين بعلم مفصَل بواقع المجرمين من الكافرين والمنافقين ومعرفة أحوالهم وتفاصيل سبيلهم وكيدهم ومكرهم، فإن العلم  بسبيل المؤمنين لا يكفي وحده للنجاة؛ إذ قد يقع العالِم والداعية والمجاهد بسبب جهله بسبيل المجرمين في حبائل مكرهم وتلبيساتهم ووسائلهم الماكرة فيستخفّونه ويستخدمونه ويوظفونه في حرب الاسلام وهو لا يشعر.

إن الاستخفاف بأهل العلم والدعوة والجهاد وحرفهم عن الحق وزعزعتهم عنه أو تنازلهم عن أصوله ومقوماته لمِن أهم الوسائل التي يستخدمها المجرمون في محاربة الحق ونشر باطلهم..

وإذا كان الله عز وجل قد أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم من الانحراف و التنازلات بقوله سبحانه (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)؛ فلأن يكون الدعاة  وأهل العلم مِن بعده أحوج إلى هذه الوصية الربانية؛ لِخطورة كيد المجرمين الذين لا يوقنون وشدة مكرهم وخبثهم وتلبيسهم؛ ولا سيما في زماننا اليوم الذي جنَّد فيه المجرمون مراكز أبحاثهم واستخباراتهم في تنفيذ هذا الكيد وهذا التلبيس. يقول الامام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لايقين عندهم في عدم الصبر فإنهم لعدم يقينهم عدم صبرهم وخفوا واستخفوا قومهم ولو حصل لهم اليقين والحق لصبروا وما خفوا ولا استخفوا فمن قل يقينه قل صبره ومن قل صبره خف واستخف فالموقن الصابر رزين لأنه  ذو لب وعقل ومن لايقين له ولاصبر عنده خفيف طائش تلعب به الاهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيْ الخفيف والله المستعان”. (3التبيان ص 55)

والشاهد من هذا النقل أن اليقين بالحق والثبات عليه يستلزم اليقين ببطلان الباطل وأهله والاستعصاء على استخفاف أهل الباطل بالصبر واليقين.

واليقين هو الأصل كما ذكر ابن القيم رحمه الله؛ لأنه اذا وُجد وكمُل وجد الصبر وكمل، ولا يتم اليقين ويكمل بمجرد معرفة الحق بدليله والاطمئنان إليه ولكنه يقْوي ويسعد صاحبه به ويغتبط حينما يعرف الباطلَ وسُبله ويعرف أهل الباطل ومكرهم وكيدهم ويستبين سبيلهم.

يوضح الشعراوي معنى الاستخفاف في هذه الآية فيقول:

“(خفَّ الشيء) لم يعد له ثقل يُذكَر. و(استخفَّ غيره) طلب منه أن يكون خفيفا. إذاً معنى (استخفه) حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه”. (4تفسير الشعراوي)

ومن هنا نفهم أن معنى قوله تعالى (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) أي لا يحملَنك الذين لا يوقنون من الكفرة والمنافقين على الخفة والاضطراب فتترك الحق الذي أنت عليه أو بعضه.

من صور “الاستخفاف” المعاصرة

نذكر هنا بعض صور الاستخفاف التي يستخف بها المجرمون الذين لا يوقنون بعض أهل العلم والدعوة والجهاد لقلة وعيهم وعلمهم بسبيل المجرمين:

أولاً: تمرير قوانين مخالفة للشريعة

حينما يريد الطغاة المجرمون الرافضون لشرع الله تمرير قرار أو قانون فيه مخالفة لشرع الله؛ فإنهم في الغالب لا يقْدمون على ذلك حتى يوسّطوا بعض أهل العلم الغافلين عن سبيل المجرمين وكيدهم ليقنعوا الناس بقراراتهم وأنها موضع موافقة وإقرار من أهل العلم. و أهل العلم الذين “يتمندل” بهم هؤلاء المجرمون إما أنهم أُتوا بسبب غفلتهم وحسن ظنهم بالمجرمين، أو أنهم بسبب هذه الدنيا ومناصبها وزخرفها الفاني يقدّمون للطغاة الخدمة التي يريدونها حتى لا يخسروا هذه الأعراض الزائلة، والله أعلم بما في القلوب.

وقد حذَّر أهل العلم الراسخون ـ من أئمة السلف ـ من مكر المستفتين وحيَلهم، وكيف أن غفلة المفتي عن ذلك ـ وبسببها ـ ضلت أفهام وزلت أقدام.

[للمزيد: القنديل والمنديل وما يجري على الدين من تبديل .. بيان الجريمة]

وعن هؤلاء يقول ابن القيم رحمه الله:

“يحْرُم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيّل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر  أو خداع، أن يعِين المستفتِي فيها ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده.

بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وأحوالهم ولا ينبغي أن يحْسن الظن بهم، بل يكون حذِراً فطِناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه بالشرع. وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ. وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم..؟! فالغبي ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه. وذو البصيرة يتفقد مقصدها وباطنها. فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يُخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود.

وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل..؟! ومَن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك؛ بل هذا أغلب أحوال الناس”. (5اعلام الموقعين 4/ 229)

وقد يكون للمفتي عِلم بمكر الماكرين وبسبيل المجرمين لكنه أُتي من حبه للدنيا وإيثارها على الآخرة فيفتي بما يهوى المستفتِي؛ لا سيما إذا كان ذا سلطة أوجاه.

وأسوق فيما يلي حالة من أحوال السلف يتبين لنا فيها أثر الدنيا ومناصبها في كتم الحق بل وقول الباطل أحياناً. وكيف استعصى من استعصى من السلف على المجرمين في أن يستلّوا منه فتوى مخالفة للشرع بسبب بعدهم عن دنياهم وأعطياتهم.

جاء في الدرر السنية (619/ 225) من تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب عند قوله تعالى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: 116). قال الشيخ عندها:

“ذُكر أن ملِكاً من الملوك أراد أن يأمر بشيء في رعيته على خلاف الشرع فجمع العلماء والفقهاء من أهل بلده يشاورهم؛ فلم يقولوا شيئاً وسكتوا. فتبين منهم رجلٌ وأنكر عليه، وقال: هذا لا يجوز.

فقال الملِك: اقطعوا علائق هذا المتفقه؛ فقالو: إنه يأكل من غزل أمه. قال: فلذلك اجترأ علينا”.

والمجرمون والطغاة إذا أرادوا تغييراً في المجتمع يمسّ دين الناس وأخلاقهم، ويؤول إلى الفساد؛ فإنهم في الغالب يلجَؤون إلى أهل العلم كوسيلة إلى إقناع الناس في قبول ما يطرأ عليهم من تغيير في سلوكياتهم أو تصوراتهم.

وهنا يتورط بعض المنتسبين إلى العلم فيفتي لهؤلاء المجرمين بما يشتهون متذرعاً بما يُعرَض عليه من مسوغات لهذا التغيير كمسوغ الحاجة والضرورة أو مما عمت به البلوى والتيسير على الناس، أو غير ذلك من القواعد الشرعية التي هي صحيحة في أصلها لكنهم أنزلوها في غير محلها وبدون شروطها وضوابطها، وبدون معرفة الحال وتفاصيلها؛ وإنما حسب ما وصف لهم من قبل هؤلاء المجرمين الماكرين الذين هم في الأصل قد نحّوا شرع الله جانباً، ورفضوه كشريعة يحكم بها في مجال الحياة كلها. وعندما احتاج هؤلاء المجرمون إلى غطاء ووسيلة يمررون بها قراراتهم الإفسادية لجأوا إلى علماء الدين؛ فما حاجتهم إلى الدين وهم قد أقصوه من قبل..؟

إن على أهل العلم التفطن لسبيل المجرمين ومكرهم و خداعهم كما ذكر الإمام ابن القيم في ذلك آنفاً وأن يحذر أن  يكون منديلاً للمجرمين يمسحون به أوساخهم. وصدق الله  العظيم إذ يقول: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ) (النور: 48-50)

إنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته فلا يجعلوه مطية وخادماً للأنظمة الجاهلية وأحكامهم الجاهلية. بل عليهم أن يقولوا للذين يستخفونهم من المجرمين الرافضين لشرع الله:

“تعالَوا أنتم أولاً إلى الإسلام وأعلنوا خضوعكم وقبولكم سلفاً لجميع أحكامه، وأعلِنوا عبوديتكم لله وحده وقبول شريعته وحدها وتنحية ربوبية العباد للعباد بتنحية حاكمية العباد للعباد وتشريع العباد للعباد.

وحين تستجيبون ويخضع الجميع لشريعة رب العباد فسوف نجد فيما يجدّ في حياة الناس من حاجات ومصالح جواباً وحلولاً تنطلق من هيمنة الشريعة وتحقيق مقاصدها العظيمة”.

إن دين الله يأبى أن يكون مطية ذلولاً وخادماً مطيعاً لتلبية حاجات المجرمين وأوضاعهم الجاهلية التي لم تنشأ إلا في غيبة الإسلام ثم هم يمكرون ويسخرون من الدين وأهله باستفتائهم في مشكلاتهم الجاهلية وهم غير خاضعين لشريعته وسلطانه. وأضرب مثالين معاصرين لهذا الاستخفاف بأهل العلم:

المثال الأول: الصلح مع اليهود وتطبيع العلاقات معهم

وهذا القرار قائم على قدم وساق من قبل جميع الأنظمة الحاكمة في بلدان المسلمين، ولكن مابين متعجل ومتريث. وقد قدَّر الله عز وجل إنزاله لوباء “كورونا” لمصالح وحِكم عظيمة؛ لعل من أكبرها الحيلولة بين المجرمين وما يريدون من فساد عظيم في بلدانهم على الدين والأخلاق، والسير في ركاب الغرب. ومن ذلك تعليقهم لهذا الصلح أو ما يسمى بـ “صفقة القرن” ومشاريعها في “سيناء” و”نيوم“. فلقد أنزل الله عز وجل برحمته وعزته وحكمته ما أشغلهم عن ذلك، وعن كثير من مشاريعهم الترفيهية الإفسادية؛ فله سبحانه أتم والحمد وأكمله.

فقد كانوا من قبل نزول هذا البلاء يطرحون مشروعهم وصلحهم مع اليهود بشكل مكثف في الإعلام والمؤتمرات والتصريحات، وإزالة ما يزعج اليهود والنصارى في مناهج التعليم. ولا يبعد أن يطرحوه مع بعض العلماء لإقراره. وهنا يكمن الخطر؛ فقد ينبري بعض أهل العلم إلى تناول الأمر من باب المصالح والمفاسد، والاستدلال بمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار وعقد الصلح معهم في صلح الحديبية ،والمعاهدة مع اليهود في المدينة… إلى آخره. وذلك كما حصل من بعض مشايخ الازهر عندما أفتوا بالصلح مع اليهود للرئيس الهالك “السادات” مستدلين بما ذكرنا وغيره.

وجه بيان فساد الاستدلال

وقد يقول قائل: “وماذا في هذا الامر إذا كانوا يستندون إلى دليل..؟

والجواب أن يقال إن القياس فاسد وباطل من وجهين:

الأول: اختلاف العاقدين

للصلح مع الكفار واليهود اليوم مع عاقد الصلح زمن النبوة، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم المذعن لربه المنقاد لشريعته المتبع لوحيه؛ أما في زماننا اليوم فهم طغاة مجرمون، رافضون لشرع الله، حاكمون بغير ما أنزل الله، موالون لأعداء الله.. فشتان بينهما.

     سارت مشرقه وسرت مغرباً              شتان بين مشرق ومغرب

 فكيف يسوغ لأهل العلم أن يجعلوا شريعة الله عز وجل خادماً مطيعاً وألعوبة لهؤلاء المجرمين؛ إن شاءوا رفضوها وأقصوها. وإن احتاجوا إليها جاءوا إليها مذعنين؛ يخادعون أهل العلم ويسخرون منهم بأن يفتوا لهم بما يشتهون فما حاجتهم إلى الشرع الآن وهم في الأصل قد أبعدوه عن الحياة.

 الثاني: اختلاف المعقود عليه

على أي شيء تعاقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين أو اليهود..؟

هل تعاقد معهم على إقرار اليهود والمشركين احتلال أراضي المسلمين يقيمون فيها شرائع الكفر إلى الأبد..؟ أم أنه كان عهداً وصلحاً مؤقتاً له ضوابطه وشروطه إلى أن إذن الله في تحقيق القوة والقدرة للمسلمين فنبذوا إليهم عهدهم وجاهدوهم حتى كان الدين كله لله..؟

فهل صُلح المجرمين الطغاة اليوم مع اليهود كصلح الرسول صلى الله عليه وسلم..؟ أم أنه بيعٌ لمقدسات المسلمين وإقرار لاحتلال اليهود الدائم عليها وما يتبع ذلك من تطبيع سياسي واجتماعي واقتصادي وعقدي..؟!

المثال الثاني: تغريب المرأة المسلمة

ما يتعلق بالتغيرات الاجتماعية؛ ولاسيما تغريب المرأة المسلمة والسماح لها بقيادة السيارة ودخول الأندية الرياضية ومشاركة الرجل واختلاطها في جميع المرافق والأعمال.

وهذا مما تلاعب المجرمون واستخفّوا به بعضَ أهل العلم واستلّوا منهم فتاوى جائرة قد ضلوا فيها وأضلوا. إما لجهل بمكر الماكرين وتلبيسهم وإما لهوى وإيثار دنيا فانية.

ومن المضحك المبكي تصديرهم لمثل هذه الامور التي يخشون  من الناس رفضها بتلك الكليّة المخدرة “وفق الضوابط الشرعية وتقاليدنا الإسلامية” ثم إذا تم للمجرمين ما يريدون من هذه الفتاوى فلا ضوابط شرعية ولا مراعاة للتقاليد الإسلامية؛ وصدق الله العظيم في قوله ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِين﴾ وقوله سبحانه (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).

ثانيا: مواجهة ظاهرة الغُلوّ

وذلك من خلال الاستخفاف ببعض أهل العلم في تناول ظاهرة الغلو.

ولأن الغلو ـ بمفهوم الشرع ـ مرفوض شرعاً وعقلاً؛ فإن المجرمين يضربون على هذا الوتر الحساس وكأنهم حماة الشريعة من مظاهر البدع فتراهم يقومون بدفع بعض المتحمسين من أهل العلم أو الدعاة في نقد هذه الظاهرة على المقاس الذي يريدون ـ بانتقائية ماكرة لبعض صور الغلو ـ و المتحمس من أهل العلم يرى أنه يواجه فكر الغلو وممارسة أهله بالأدلة الشرعية، وهذا من باب قول الحق؛ ولا يدري هذا المخدوع أنه قد مُكِر به؛ وذلك لأمور ثلاثة:

الأول: الخلط والتلبيس في تناول ظاهرة “الغلو“؛ حيث أَدخل كثير من الناقدين لظاهرة الغلو أموراً وأصولاً ثابتة في العقيدة الإسلامية، واتهموا مَن يطرحها ويركّز عليها من الدعاة والمجاهدين بأنهم غلاة متطرفون. ومن هذه الأصول المحكَمات في الشريعة الجهاد في سبيل الله والحكم بما أنزل الله والولاء والبراء والتكفير بضوابطه الشرعية.. فنجح المجرمون في تصوير هذه الثوابت بأن الحديث عنها من مظاهر الغلو..! واستخدموا واستخفوا بعض أهل العلم في مثل هذا الطرح، ووزنوا “الغلو” ومظاهره بموازينهم الجاهلية لا بميزان الشرع والدين.

الثاني: الانتقائية في نقد ظاهرة الغلو؛ حيث ركّزوا في طرحهم لظاهرة الغلو  على ظاهرةٍ أو طائفة معينة وتناسوا مظاهر الغلو الاخرى التي قد تكون أشد منها؛ فترى من ينتقد “الغلو في التكفير” لا يتعرض لـ “الغلو الذي يقوم به الطغاة المجرمون في موالاة أعداء الله ومعاداة اوليائه وسجنهم وإيذائهم ولا يتعرضون للممارسات الغالية التي يقومون بها في إفساد المجتمع  والحكم بغير ما أنزل الله وظلم العباد في أديانهم وأعراضهم وأموالهم“.

وترى هذا الذي يتحدث عن الغلو يتعامى عن الغلو الشديد في تقديس الحكام، وتبرير أفعالهم، وطاعتهم، وحقوقهم على الرعية؛ دون نصحهم في منكراتهم العظيمة وبيان حق الرعية عليهم.

الثالث: ولنفرض أن من يتحدث من أهل العلم عن الغلو كان فطناً للأمريْن السابقين؛ فإنه قد يغيب عنه الخدمة التي يقدمها للمجرمين بالحديث في منابر علنية عن الغلو؛ حيث يقوم هؤلاء المجرمون بتوظيف مثل هذه الانتقادات من العالم المعروف في تبرير إيقاف المناشط الدعوية وملاحقة أهلها وسجنهم، واتهام الكل بأنهم غلاة وهذا يقودنا الى الصورة التالية.

الصورة الثالثة: الحديث عن الإرهاب

وما أدراك ما “الإرهاب“. ذلك المصطلح المطاط الذي أصبح مِشجباً يعلق عليه كل طاغوت ومجرم مبررات ظلمه وفساده وإيذائه لأولياء الله. وكونُ هذا يصدر من الظلمة المجرمين فلا غرابة في ذلك؛ ولكن الغريب أن يستخفَّ هؤلاء المجرمون بعض أهل العلم ويدفعه إلى الحديث المجمل عن الإرهاب، والجماعات التي يرونها إرهابية، وضرورة القضاء عليهم، وتجفيف مصادر أموالهم ودعوتهم وجهادهم، تحت مسمى “تجفيف منابع الارهاب“. ثم يستخف هؤلاء المجرمون بهؤلاء العلماء ويوظفون أقوالهم في إيذائهم لدعاة الحق بسجن أو تعذيب أو قتل، ومصادرة أموالهم، وإغلاق جمعياتهم الخيرية، ويبررون ذلك بأن هذا هو موقف أهل العلم وفتواهم..!

الصورة الرابعة: التآمر على الأنشطة الدعوية المؤثرة

عندما يُرَى لتيار إسلامي نشاطه وأثره في الدعوة والانتشار يغيظ المجرمين ذلك؛ فيجنّدون إعلامهم والمحسوبين عليهم من أهل العلم، على الحديث في منابر عامة عن هذه التيارات واتهامها بالإرهاب تارة وبالبدعة تارة، ويوعزون إلى خطباء الجمع  والمنابر بتبديعهم وتحذير الناس منهم و من بدعهم..!!! سبحان الله ما هذه الغيرة على العقيدة..!!؟

ومع ذلك يوجد بعض أهل العلم وأصحاب المنابر الإسلامية من يخضع لهذا التلبيس وينفّذ ما يريده المجرمون بعد أن استخفّوا به وانخدع بتلبيسهم وادّعائهم الحدب على الدين، هذا إذا أحسنَّا الظن في مثل هؤلاء الدعاة..! لأن هناك من يعلم ببطلان ما يقوله الإعلام أو ما يأتيه من أوامر لنقد هذه الجماعة أو تلك على المنابر؛ لكنه يخشى على وظيفته ومنصبه..! وبئست هذه اللعاعة الفانية التي تجعل المرء يقول الباطل (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)..

ثم ألا يعلم هذا المستخَفّ المخدوع أن معركة المسلمين اليوم هي مع من يريد سحق ديننا ومسخ هويتنا من كفار الغرب والشرق وأذنابهم من المنافقين وليست مع تيار “التبليغ” أو “الإخوان” أو غيرهم من التيارات الإسلامية؛ ولو كان لديهم بعض الاخطاء فهم أولى، والاصطفاف معهم أولى من الإصطفاف مع الكفرة والطواغيت والمنافقين..؟

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).

الصورة الخامسة: التسامح مع الكفار وتقارب الأديان

يُطرح من سنوات عدة الدعوة الى التسامح مع الكفار، وتقارب الأديان، ونشر السلام. ويتبناها إعلام المجرمين.

ونتيجة لتكثيف الطرح والطريقة الماكرة في طرحها؛ نرى أن بعض أهل العلم قد استخفَّه هذا الطرح؛ فراحَ يشارك في الدعوة إلى ذلك. ولا ندري أغاب عنهم أم لم يغب، ما وراء هذه الدعوات من الكيد والمكر وتمييع الإسلام ـ ولا سيما في صلبه المتين: عقيدة الولاء والبراء.

وينسى هذا المستخَف ـ أو يتناسى ـ ما يفعله الأعداء الكفرة الذين أرادوا التقارب مع دينهم ما فعلوه من احتلال الديار المسلمة وتدمير بلداتهم وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم ومصادرة خيراتهم وأموالهم وحربهم المعلنة على الاسلام وعقيدته الصافية.. أهذا فعل من يريد السلام ..؟!!

خاتمة

ثمة أخطار ناجمة عن ضعف الوعي بسبيل المجرمين واستخفافهم بدعاة الإسلام؛ منها:

أولا: إن أعظم خطر ينجم عن ذلك أن يجد الداعية أو العالم أو المجاهد نفسه في خندق أعداء الله من المنافقين والكافرين وهو لا يشعر. إنه بمجرد أن أصبح يردد ما يقوله المجرمون ويستجيب لاستخفافهم فإنه قد وضع نفسه معهم ضد الدعاة والمجاهدين بحسن نية أو سوئها. وأصبح هو والطواغيت في صف مقابل الدعاة والمجاهدين. وكفى بذلك خطراً قد يأتي على التوحيد من أساسه لأنه أصبح بذلك موالياً لأعداء الله معاديا لأوليائه شاء أم أبى.

ثانيا: التضليل الذي يمارسه هذا الداعية أو العالم باستخفاف المجرمين له، وأثر ذلك في التلبيس على الناس وإضلالهم عندما يسمعون مثل هذه المواقف من عالم أو داعية يصْدُر الناس عن رأيه ومواقفه. وكفى بإضلال الناس إثماً مبيناً في الدنيا والآخرة؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل: 25)

ثالثا: تقديم الخدمة للطغاة والمجرمين بإعطائهم غطاء شرعياً يمارسون تحته جرائمهم وظلمهم للدعاة والمجاهدين على أنهم إرهابيون أو غلاة تكفيريون؛ كما يصفهم بذلك بعض المنتسبين للعلم. وبهذه الخدمة التي يسدونها للطغاة في تبرير جرائمهم؛ فإنهم شركاء لهم في الإجرام والظلم ومحاربة الدين وأهله؛ علموا أم لم يعلموا.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم.. والحمد لله رب العالمين.

………………………….

هوامش:

  1. الفوائد ص109.
  2. في ظلال القران 2 /1106_1107 باختصار وتصرف يسير.
  3. التبيان ص 55.
  4. تفسير الشعراوي.
  5. اعلام الموقعين 4/ 229.
  6. 19/ 225.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة