ليس الشأن في بذل الجهد وحسب؛ بل الشأن في أن يقع الجهد في محلّه على وجه القبول فيظفر بما ابتغى، وذلك معنى الفلاح الذي نبتغيه يوم القيامة.

مقدمة

إنَّ من علامة توفيق الله عزّ وجل للعبد أن يوقظه من غفلته ويوفقه لتدارك عمره القصير فيما ينفعه غداً في الدار الآخرة.

ومن علامة الخذلان أن ينسى العبد نفسه ويفرِّط في ساعاته وأيامه ولياليه وينصرم العمر القصير دون أن يقدِّم لنفسه ما ينفعها عند الله عزّ وجل فضلاً عمَّا يضرُّه ويهلكه.

وعندما ينظر الواحد منَّا إلى حاله وحال كثير من النَّاس يجد التفريط وتضييع الأوقات بما لا ينفع أو بما يضرُّ، عياذاً بالله تعالى.

ولو حاسب كلّ واحد منَّا نفسه وحاول الرجوع إلى ما مضى من عمره الذي مرَّ كلمح البصر وما عمله في ذلك العمر من القربات أو ما ضيَّعه من الأوقات لوجد النتيجة جدّ محزنة ـ إلاَّ من رحم الله تعالى.

لأنَّ ما ضاع من الأوقات بما لا ينفع أو بما يضرُّ أكثر من تلك التي عمل فيها بالطاعات.

فإذا أُضيف إلى ذلك أنَّ العبد لا يضمن أيضاً انتفاعه من طاعاته وقرباته التي أدَّاها، وذلك لتعرُّضها لبعض المفسدات والآفات كالرياء والسمعة والعُجب، أو عدم موافقتها لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فماذا سيبقى من الطاعات القليلة إذا مُرِّرَت على مصفاة الإخلاص والمتابعة؟

إنَّه لا يبقى إلا أقلّ القليل.

إذن فالأمر جدُّ خطير، ولا يجوز للعبد أن يهمل نفسه ويتركها بلا محاسبة وتدقيق وتفتيش؛ حتى لا يأتي يوم القيامة فيبدو له من الله ما لم يحتسب، والعياذ بالله تعالى.

وفي هذه المقالة القصيرة محاولة للتعرُّف على موانع الانتفاع بالعمل يوم القيامة؛ لعلّنا نتجنَّبها، فننتفع بأعمالنا الصالحة يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم.

مأخذ معرفة موانع القبول

والأصل في معرفة هذه الموانع قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء: 19).

وهذه الآية وإن كانت قد انطوت على ذكر الشروط للانتفاع بالعمل الصالح فإنَّ مفهوم المخالفة فيها يشير إلى موانع الانتفاع، حيث ذكر الله عزّ وجل في هذه الآية الكريمة أنَّ من شروط قبول العمل عند الله عزّ وجل وكونه مشكوراً عنده سبحانه ما يلي:

  1. إرادة الدار الآخرة بقوله وعمله.
  2. تصديق هذه الإرادة والسعي إلى الآخرة بعمل موافق لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
  3. أن يكون صاحب العامل موحِّداً، مؤمناً بالله عزّ وجل، غير مشرك به.

يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند هذه الآية:

“وقوله: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ﴾ أي: أراد الدار الآخرة، وما فيها من النعيم والسرور، ﴿وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا﴾ أي طلب ذلك من طريقِه، وهو متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، أي: وقلبه مؤمن، أي مصدِّق بالثواب والجزاء ﴿فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾”. (1راجع، تفسير ابن كثير، (الإسراء، الآية 19))

استنباط الموانع

ومن خلال هذه الآية الكريمة نستنبط الموانع التي تحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة، وهي كما يلي:

أن يكون العامل مشرِكا أو غير مؤمن

وذلك بأن لا يكون صاحب العمل مؤمناً بالله عزّ وجل ولا بوعده ووعيده، أو كان مشركاً به أو مرتداً عن دينه.

فلو تقرَّب العبد إلى الله عزّ وجل بقربات كثيرة من صلاة وصيام وغيرها وهو مشرك بالله عزّ وجل الشرك الأكبر، وذلك بصرف أيّ نوع من أنواع العبادة لغير الله عزّ وجل؛ فإنَّه بذلك لا ينتفع بأيّ عمل صالح عند الله عزّ وجل؛ لأنَّ توحيد الله عزّ وجل والبراءة من الشرك وأهله يعدُّ الشرط الأعظم في الانتفاع من بقية الأعمال والأقوال، وبدون ذلك تحبط جميع الأعمال.

كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر:65). وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 88). وقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ..ِ﴾ (الأنـبياء:94).

إلى غيرها من الآيات.

وخطورة هذا المانع أنَّه يحبط جميع الأعمال، بينما الموانع التالية تحبط العمل الذي وجدت فيه فقط.

ولا ينبغي للعبد أن يستهين بهذا المانع ولا أن يأمنه، بل عليه أن يخافه، وأن يفتِّش في عقيدته وأعماله كلَّها خشية الوقوع في هذه الآفة العظيمة التي تُحبط الأعمال ولا يغفرها الله عزّ وجل إلا بتوبة.

ومَن يأمن الشرك بعد إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ حيث دعا ربّه بقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ (إبراهيم: 35).

إرادة الدنيا دون الآخرة

وذلك بإرادة العبد بعمله الدنيا وليس الآخرة، وهذا مانع كبير يحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة، وهذا يكثُر في عمل المرائين والمريدين بأعمالهم شهرة، أو منصباً، أو أيّ عرَض من أعراض الدنيا الفانية، فهؤلاء لا خلاق لهم في الآخرة من تلك الأعمال الملوَّثة.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (هود :15-16).

وقد أدخل العلماء في ذلك من أدّى العمل بإخلاص لله تعالى، لكنّه أراد من عمله وتوبته وتركه للمعاصي آثارها الدنيوية، وذلك بأن يبارك الله له في المال والولد ويجنِّبه المصائب والجوائح في الدنيا فقط؛ فمن كان دافعُه إلى العمل إرادة ثواب عمله في الدنيا فقط فإنَّ هذه الأعمال معلولة غير مقبولة وغير مشكورة عند الله عزّ وجل يوم القيامة.

أمَّا من أراد بعمله الآخرة وأراد مع ذلك بركتها في الدنيا؛ فهذا مرغَّب فيه وسعيُه مشكور عند الله عزّ وجل، إذا كمّل الشروط الأخرى لقبول العمل.

مخالفة السُنة الكريمة

بأن يكون سعيُه وعملُه مخالفاً لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنَّ من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقاً لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، غير مبتدَع ولا مبدَّل، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لآية الإسراء حيث قال: ﴿وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا﴾ أي: طلب ذلك من طريقِه وهو متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

ومن أوضح الأدلَّة في أن تخلُّف المتابعة عند العمل يمنع من الانتفاع به عند الله عزَّ وجل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». (2رواه البخاري ومسلم)

ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبُّد لله عزّ وجلّ بما لم يأذن به سبحانه أو يشرِّعه رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإنَّ التفريط في ذلك يضيِّع على العبد سعيه وعمله ولو كان صاحبه مخلصاً لله فيه مريداً به الدار الآخرة؛ لأنَّ قبول العمل عند الله عزّ وجل مقيِّد بالشروط السالفة الذكر مجتمعةً كلّها في العمل، فلو تخلَّف واحد منها بطل العمل وحيل بين صاحبه وبين الانتفاع منه.

وبذلك يتبيَّن لنا خطورة إهمال النَّفس ومحاسبتها، ويوجب الحرص الشديد على إحسان العمل وإتقانه وتجنيبه كلّ ما يفسده ويمنع من الانتفاع به في يوم عصيب رهيب، الحسنة فيه لا تعدلها الدنيا بزينتها وزخرفها ثمناً.

كم يبقى بعد هذه الشروط..؟

ولنا أن نتصوَّر كم يصفو لنا من العمل النظيف النافع عند الله عزّ وجل بعد أن يمرَّ على هذه المصفيات السالفة الذكر.

إنَّ الناظر اليوم إلى نفسه وما أسلف من الأعمال الصالحة ليذهل عندما يرى قلّتها وضياع العمر بما لا ينفع ـ إلا من رحم الله تعالى ـ ثمَّ ليت أنَّ هذه الأعمال على قِلَّتها تكون مقبولة عند الله عزّ وجل؛ إذن لهان الخطب، لكنَّها إذا عُرضت على المصفيات السالفة الذكر فإنَّ المحصّلة في النهاية ستكون أقلّ القليل.

فمصفاة الإخلاص ترد كلّ عمل لم يرد به وجه الله عزّ وجل، ومصفاة المتابعة ترد كلّ عمل لم يؤدَّ على وجه الموافقة لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

ثم إنَّ هذه المحصّلة النظيفة من الأعمال ـ التي هي أقلّ القليل ـ معرَّضة هي الأخرى لمانع خطير يحول بين العبد وبين الانتفاع من أعماله التي تعب عليها وأتقنها ـ على قلِّتها ـ حتى أصبحت مقبولة عند الله عزّ وجل، وهذا المانع الخطير هو:

حقوق العباد ومظالمهم

يقول الله عزّ وجل: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ (الزمر: 30-31)، والخصومة تكون فيما بين العباد من مظالم.

“فعن الزبير بن العوّام رضي الله عنه قال: لما أنزلت هذه الآية، قلت: أَيْ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصِّ الذنوب؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ليُكرِّرنَّ عليكم حتى يُؤدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقُّه»، قال الزبير: والله إنَّ الأمر شديد”. (3المستدرك على الصحيحين ـ ج 5: 8693 – 8864 * تابع الفتن والملاحم ـ الأهوال)

ومن الأحاديث المشهورة في ذلك حديث المفلس الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «إنَّ المفلِّس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة؛ وكان قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فينقص هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ قال: فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياتهم فطرحت عليه ثمّ طُرح في النّار». (4رواه مسلم والترمذي)

وهذا المانع الخطير من موانع الانتفاع بالعمل الصالح يوم القيامة من أشدّ الموانع خطراً وأصعبها تحرزاً، فلا يسلم من تبعات العباد إلاّ من رحم الله عزّ وجل، وقليل ما هم.

والغرماء يوم القيامة لا يقبلون من عمل خصومهم إلاّ النظيف، والذي تجاوز مصفاة الإيمان والإخلاص والمتابعة، أمَّا العمل الملوَّث فلا يقبلونه لعدم نفعه، فإذا كان العمل النظيف أقلّ القليل كما سبق بيانه؛ لأنَّه ثمرة تصفيات كثيرة، وكلّ مصفاة تسقط منه جزءاً، إذا كان الأمر كذلك فإنَّ المغبون الخاسر من ضيَّع هذا القليل ووزَّعه يوم القيامة بين خصومه وغرمائه، وحالَ بين نفسه وبين الانتفاع بأعماله المقبولة عند الله عزّ وجل، وذلك بتفريطه في الدنيا في حقوق العباد أو الاعتداء عليهم في دينٍ أو عقلٍ أو نفسٍ أو مالٍ أو عِرض.

أكثر الخصوم هم الأقربون..!

وممَّا ينبغي التنبيه عليه أنَّ أكثر الخصوم يوم القيامة هم من أقرب النّاس للنفس؛ كالوالدين، والأبناء، والزوجة، والزوج؛ ذلك لما بينهم من الحقوق والواجبات ووجود الاحتكاك الدائم بينهم والاجتماع معهم في كثير من الأوقات، فالحذرَ الحذرَ من ظلم الأبناء في دينهم وإهمال تربيتهم والنفقة عليهم… إلخ، والحذرَ الحذرَ من بخس الوالدين حقوقهم وعدم الإحسان إليهم، وكذلك الحال في بقية الأقارب والأباعد.

خاتمة

نسأل الله عزّ وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، موافِقة لسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، صادرةً عن إيمان وتوحيد خالصَين.

كما نسأله أن يجنِّبنا ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم، وأن يخرجنا من الدنيا كافّين اللسان عن أعراضهم، خُمصَ البطون من أموالهم، خفيفي الظهور من دمائهم.

وآخر دعوانا أنَّ الحمد لله ربّ العالمين.

…………………………………………………..

الهوامش:

  1. راجع، تفسير ابن كثير، (الإسراء، الآية 19).
  2. رواه البخاري ومسلم.
  3. المستدرك على الصحيحين ـ ج 5: 8693 – 8864 * تابع الفتن والملاحم ـ الأهوال.
  4. رواه مسلم والترمذي.

اقرأ أيضا:

0 0 votes
Article Rating

التعليقات غير متاحة