يربط الإسلام دوما بين التفكر ومآخذ أولي الألباب، وبين الأثر العملي لاتجاه القلوب وإصلاح الحياة؛ فالتفكر ليس انعزالا عن الحياة ولا عن الآثار العملية.

مقدمة

في القلب قوتان؛ قوةٌ علمية معرفية تعرف الحق وتضبط مأخذه، وقوةُ إرادة ومحبة وتوجه. ولا صلاح للعبد إلا بصحة الأولى واستقامة الثانية الى الله تعالى ﴿فاستقيموا اليه واستغفروه﴾. (فصلت: 6)

والتفكر يكشف للعبد الحقائق ويخرجه من الغفلة ليوقفه أمام الحقائق الكبيرة، وذلك ليصحح قصده ويستقيم توجهُه؛ فيندفع في قلبه الحب والشكر وهضم النفس وطلب الآخرة.

من ثمار التفكر في آلاء الله

الثمرة الأولى: محبة الله عز وجل

والمقصود أن يحب العبد ربه المحبة العظيمة على إنعامه وإحسانه وجلاله وعظمته؛ فالنفس مجبولة على حب من أحسن إليها ولو مرة واحدة فكيف بمن نعمُه مدرارة ومتواصلة تواصُل الأنفاس ولا يقدر أحد أن يحصيها.

والعبد أسير الإحسان ـ كما يقال – والإنعام والبر والإحسان يستولي على نفس العبد ويدفعه إلى محبة المُسْدِي والمنعِم، ولا مُنعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله عز وجل؛ إذن فلا أحد يُحَبُّ لذاته إلا الله، ومن سواه فلا يُحَبُّ إلا لله.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“ولابد من التنبيه على قاعدة تحرِّك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقِلّ آفاتها، أو تذهب عنها بالكلية بحول الله وقوته.

فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء.

وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة؛ بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس:62].

والخوف المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده؛ فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبدًا لله لا لغيره.

فإن قيل: فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأي شيء يحرك القلوب؟

قلنا: يحركها شيئان:

أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به؛ ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:42].

والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه؛ قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 69].

فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض، وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة، من الإيمان وغيره، فلابد أن يثير ذلك عنده باعثًا”. (1«مجموع الفتاوى» (1/ 95-96))

الثمرة الثانية: القيام بواجب الشكر لله

وهذا الواجب يقتضي أمورًا ثلاثة:

الأول: الاعتراف بالقلب لله عز وجل بأنه المنعِم الحقيقي، وهو صاحب الفضل والإحسان لكل نعمةٍ دقت أو جلَّت، وهذا يُحدث في القلب المحبة والإجلال والتعظيم والخضوع، وعبادته سبحانه بجميع أنواع العبادات القلبية.

الثاني: اللهج باللسان بشكر الله عز وجل وحمده والثناء عليه بأنواع الذكر والتسبيح والتحميد والتكبير، وسؤال الله عز وجل الإعانة على ذكره وشكره.

الثالث: الشكر لله تعالى بأعمال الجوارح بحيث توجه إلى طاعة الله تعالى والقيام بأنواع العبادات المختلفة، وأداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل والطاعات، كما أن شكر الله تعالى بالجوارح يقتضي كفها عن محارم الله تعالى، والتوبة من المعاصي والذنوب، ومحاسبة النفس في ذلك، فبأداء أوامره سبحانه وترك معاصيه تدوم النعم.

الثمرة الثالثة: الإزراء بالنفس، والشعور بالتقصير في حق الله

 وهو تقصير في حق الله وفي شكره؛ إذ مهما فعل العبد من الأعمال الصالحة ما فعل فلن يوفي حق شكر نعمة واحدة من نعم الله تعالى؛ فكيف بباقي النعم التي لا تُعد ولا تُحصى. وفي هذا إذهاب لأي أثر من آثار الإعجاب بالنفس، واعتراف دائم بالتقصير والتفريط. وهذا له أثر في التعلُّق بالله تعالى، والتضرع بين يديه، وسؤاله سبحانه الإعانة على شكر النعم، وصرفها في طاعته عز وجل؛ كما ذكر ذلك سبحانه عن أنبيائه وأوليائه..

فهذا سليمان عليه الصلاة والسلام؛ لما رأى نعم الله عليه من المُلك، وفَهْم لغة الطير، وحوار النملة مع أمّة النمل سأل ربه سبحانه أن يلهمه شكر نعمته عليه؛ قال الله عز وجل: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل:19].

وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو في دُبر كل صلاة بهذا الدعاء: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك». (2«مسند أحمد» (5/ 244)، وصححه الألباني في «المشكاة» (1/ 299))

وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك». (3النسائي (1/ 192)، وأورده في «المشكاة» (1/ 301))

وعن هذا المشهد والشعور يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“ولله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما:

أحدهما: أمره ونهيه اللذان هما محض حقه عليه.

والثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه، فهو سبحانه يطالبه بشكر نعمه، والقيام بأمره.

وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة؛ بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الديَّانين لا يعبئون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم، فضلًا عن أن يريدوا فعلها، وفضلًا عن أن يفعلوها. وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله مَن ترَك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يحمرُّ وجهه ويُمَعِّرُه لله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه. وأصحاب الكبائر أحسن حالًا عند الله من هؤلاء.

وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله تعالى أمر ملَكًا من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب إن فيهم فلانًا العابد الزاهد، قال: به فابدأ، وأسمِعْني صوته؛ إنه لم يتمعر وجهه فِيَّ يومًا قط.

وأما شهود النعمة؛ فإنه لا يدع له رؤية حسنة من حسناته أصلًا، ولو عمل أعمال الثقلين؛ فإن نعم الله سبحانه أكثر من أعماله، وأدنى نعمة من نعمه تستنفد عمله؛ فينبغي للعبد ألا يزال ينظر في حق الله عليه”. (4«عدة الصابرين» (ص186-187)، دار الكتاب العربي)

الثمرة الرابعة: المحافظة على النعم والحذر من أسباب زوالها

فالتفكر في نعم الله العظيمة، وآلائه الجسيمة يُثمر الأخذ بالأسباب التي تحفظها وتبقيها، وترْك الأسباب التي تزيلها وتغيرها؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7].

وقال عز وجل: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: 53].

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان عقوبات الذنوب:

“ومن عقوباتها: أنها تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة؛ فتزيل الحاصل، وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حُفِظ موجودُها بمثل طاعته، ولا استُجلب مفقدوها بمثل طاعته، فإن ما عنده لا يُنال إلا بطاعته. وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببًا وآفة؛ سببًا يجلبه، وآفة تبطله؛ فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفاتها المانعة منها معصيته؛ فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.

ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدةً في نفسه وغيره، وسماعًا لما غاب عنه من أخبار مَن أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله؛ كأنه مستثنًى من هذه الجملة، أو مخصوص من هذا العموم، وكأن هذا أمر جار على الناس لا عليه، وواصل إلى الخلق لا إليه؛ فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلي الكبير). (5«الجواب الكافي» (ص105-106))

خاتمة

محبة الله شعور طبعي يتفجر في القلب عند التفكر في نعم الله تعالى، والاندفاع الى شكر الله تعالى، ومعرفة طريق الحفاظ على النعم، وملازمة شعور التقصير لنفس العبد فلا يغتر ولا يُعجب.. هذه عبوديات في القلب مبنية على عبادة التفكر العظيمة، وغير ذلك من التعبدات أيضا كتذكر الآخرة ومعرفة الحكمة من هذه النعم في الدنيا وأن العبد محاسب عليها مجزي على شكرها أو جحدها، وإدراك أن غاية الابتلاء والاختبار هي المقصودة من ورائها؛ فيزداد سعيا الى الآخرة.

إن باب التفكر باب عظيم للولوج على عبوديات غائبة عن القلب بين انشغالات الحياة والغرق في تفاصيل جزئياتها.

…………………………………

هوامش:

  1. «مجموع الفتاوى» (1/ 95-96).
  2. «مسند أحمد» (5/ 244)، وصححه الألباني في «المشكاة» (1/ 299).
  3. النسائي (1/ 192)، وأورده في «المشكاة» (1/ 301).
  4. «عدة الصابرين» (ص186-187)، دار الكتاب العربي.
  5. «الجواب الكافي» (ص105-106).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة