ما من مخلوق إلا وهو مشمول بعلم الله ومشمول برحمته تعالى، وبرحمته وقدرته قام كل مخلوق. ولهذه الرحمة آثار، ولها موزاينها الربانية التي يجب فقهها.

مقدمة

آثار رحمة الله عز وجل لا تُعد ولا تُحصى؛ إذ إن رحمة الله عز وجل قد وسعت كل شيء، فكما أن علم الله عز وجل قد وسع كل شيء، ولم يخْف عليه أي شيء، فكذلك رحمته سبحانه قد بلغت كل شيء بلغه علمه سبحانه، قال الله عز وجل: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“فوسعت رحمتُه كل شيء، ووسعت نعمتُه كل حي، فبلغَت رحمتُه حيث بلغ علمُه”. (1«الصلاة وحكم تاركها» (ص173))

وقال سبحانه عن نعمه التي هي من آثار رحمته: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].

من آثار رحمة الله

وأسوق فيما يلي بعضًا من آثار رحمة الله تعالى في خلقه وشرعه، وإلا فإن رحمة الله عز وجل قد وسعت كل شيء، ولا يحيطها عقل ولا حصر ولا عد، إذ كل ما يقع عليه السمع والبصر فرحمة الله عز وجل فيه بادية، وما يخفى على السمع والبصر والفؤاد من آثار رحمة الله تعالى أعظم وأكثر.

رحمة الله فيما خلق

أولًا: تظهر آثار رحمة الله عز وجل في كل ما خلق الله عز وجل سواء في هذا الكون العريض، وما فيه من المخلوقات العظيمة “المسخرة” بأمره سبحانه، وما فيها من “المنافع” والرحمة لعباده، أو ما في خلق الإنسان من الآيات الدالة على عظمته سبحانه ورحمته عز وجل بهذا الإنسان، حيث خلقه في أحسن تقويم وأقام جسمه وروحه، وأعطاه العقل، وقوّاه وأمدّه وأعدّه ورزقه وأنعم عليه بنعمه الظاهرة والباطنة.

ولو ذهبنا نستعرض آثار رحمة الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس لَفَنَيت الأعمار، ولم ننته من حصرها وعدها، مع أنها “جزء” من “مائة جزء” من رحمته.

يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، في وصفه لشمول رحمة الله:

“وأنت لو تأملت العالَم بعين البصيرة لرأيته ممتلئًا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه والجو بهوائه.. فسبحان من أعمى بصيرة من زعم أن رحمة الله مجاز”. (2«مختصر الصواعق المرسلة» (2/ 350) باختصار)

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض، وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمَرعَى.

ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل والأكل.

ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة؛ ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه.

ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وانحل نظامهم، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمَرْعِيِّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عم الجميع برحمته». (3«مختصر الصواعق المرسلة» (2/ 123-124) باختصار وتصرف يسير)

رحمة الله في تعليمه للإنسان

ثانيًا: ومن آثار رحمته سبحانه تعليم الله عز وجل للإنسان ما لم يعلم؛ حيث أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه الفهم والإدراك، والبيان والإفصاح عما يعلمه ويفهمه؛ قال تبارك وتعالى: ﴿الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1-4].

رحمة الله في رُسله ووحيه

ثالثًا: وأعظم آثار رحمته سبحانه إرساله الرسل وإنزاله الكتب هداية للناس وإخراجًا لهم من الظلمات إلى النور.

فالرسل رحمة من عند الله عز وجل لعباده، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89].

فبرحمته أرسل الرسل وأنزل الكتب هداية للبشر، وتعريفًا لهم بربهم سبحانه وبأسمائه وصفاته، وكيف يعبدونه لينقلهم برحمته من الجهالة إلى العلم، ومن الغيّ إلى الرشد، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن النار إلى الجنة، فسبحان أرحم الراحمين وخير الرازقين.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“من أعطى اسم (الرحمن) حقَّه عرف أنه متضمنٌ لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمُّنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وإخراج الحبِّ.

فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح: أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكنِ المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظَّ البهائم والدوابِّ، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك”. (4«مختصر الصواعق المرسلة» (2/ 123-124) باختصار وتصرف يسير)

رحمة الله في المغفرة والصفح

رابعًا: ومن رحمته سبحانه مغفرته لذنوب عباده والصفح عنهم، ومجازاته للسيئة بمثلها أو تغفر، وللحسنة بعشر أمثالها وتكفير سيئاتهم، وفتح باب التوبة لهم.

قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

وتتجلى رحمته عز وجل بعباده التائبين في أجلى صورها فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن فرح الله عز وجل بتوبة عبده وقبوله لتوبة التائبين؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لله أفرح بتوبة عبده ـ حين يتوب إليه ـ من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة؛ فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال -من شدة الفرح- اللَّهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح». (5البخاري (6309)، ومسلم (2747) وهذا لفظ مسلم)

ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يخرج من رحمة الله تعالى إلا من يعلم الله تعالى أنه لا يستحق الرحمة البتة، وهم القوم الكافرون؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

رحمة الله بما في قلوب الأمهات

خامسًا: ومن آثار رحمته سبحانه ما يضعه في قلوب الأمهات من رحمة نحو أولادهن، سواء كان ذلك عند الإنسان أو الحيوان من وحش وطير وهوام، وأن رحمة الله تعالى أعظم وأوسع من رحمة الأمهات بأولادهن؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:

«قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترونَ هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا والله! وهي تقدر على أن لا تَطرَحَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أرحَمُ بعباده من هذه بولدها». (6البخاري (5999)، ومسلم (2754))

آثار رحمة الله في شريعته المطهرة

سادسًا: وتتجلى رحمة الله عز وجل في شرعه المطهَّر، وأحكامه التي كلها خير ورحمة للخلق، سواء ما يتعلق بهدايتهم وحفط أديانهم، أو ما يتعلق بحفظ نفوسهم وأبدانهم، أو ما يتعلق بحفظ عقولهم وأفكارهم، أو ما يتعلق بحفظ أعراضهم وأنسابهم وأولادهم، أو ما يتعلق بحفظ أموالهم وممتلكاتهم.

فكل ما يتعلق بهذه الضروريات الخمس من أحكام إنما جاءت رحمة بالناس بالمحافظة عليها وحمايتها من الفساد والعدوان، حتى يعيش الناس في أمن وسعادة قد رُفع عنهم الحرج والعنت وحُفظ لكل ذي حق حقه، كما تظهر رحمة الله عز وجل في يسر الشريعة، ورفع الحرج عن العباد فيها، وشرع الرخص التي ترفع المشقة عنهم.

رحمة الله في جمع الناس لفصل القضاء

سابعًا: وتتجلى رحمة الله عز وجل في جمع الناس ليوم القيامة وإثابة المحسن ومعاقبة المسيء؛ حيث يظهر عدلُه سبحانه وفضلُه في هذا اليوم العظيم.

كما تظهر رحمة الله عز وجل ومغفرته لعباده في هذا اليوم ﴿كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [الأنعام: 12].

فمن مقتضى كتابته سبحانه الرحمة على نفسه أن يجمع الناس للفصل بينهم ومجازاة كل منهم بما تقضيه رحمته وعدله فيهم وفيما بينهم من الحقوق.

رحمة الله فيما يصيب المؤمن

ثامنًا: كما تتجلى رحمة الله عز وجل في المصائب والمكروهات التي يقدرها على عباده المؤمنين، فهي وإن كانت مؤذية ومكروهة إلا أن في أعطافها الرحمة والخير بالمصاب؛ لأن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، ورحمته سبقت غضبه، وليس ذلك إلا للمؤمن.

وقـد تظـهر هذه الرحمة للمصاب عيانًا، ويتبين ما في المكروه مـن الرحمة واللـطف، وقد لا يتبين ذلك في الدنيا، ولكن تظهر آثار رحمة الله فيها في الآخرة بتكفير السيئات، وغفران الذنوب بفعل هذه المصائب، قال الله تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلمَ من نَصَب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غمّ ـ حتى الشوكة يُشاكها ـ إلا كفر الله بها من خطاياه». (7البخاري (5641)، مسلم (2573))

أما ما يصاب به الكفار من المصائب والعقوبات، فهي رحمة بالمؤمنين من شر الكفار وتسلطهم، وإفسادهم في الأرض، وهي عدل مع الكفار.

وأذكر بهذه المناسبة آية من كتاب الله عز وجل ظهر لي فيها معنى خفيٌّ يدل على أن ما يصيب المؤمن من ضرر ومكروه، إنما هو من آثار رحمة الله تعالى، وموجب اسمه سبحانه «الرحمن الرحيم».

قـال الله تعـالى عـن مؤمن آل ياسين أنه قال لقومه المشركين: ﴿إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ﴾ [يس: 23]، فلماذا اختار هذا الرجل الصالح اسم (الرحمن) من بين أسماء الله تعالى؟ وهل (الرحمن) يريد الضر بعباده المؤمنين؟

إن المعنى اللطيف في هذه الآية ـ والله أعلم ـ أن الضر إذا أتى من (الرحمن) فإن هذا موجب رحمته ولطفه، ويصير الأمر الذي ظاهره الضر في حقيقته رحمة، وخيرًا للمؤمن، لأن الرحمن لا يصدر عنه إلا الرحمة واللطف والبر.

رحمة الله بأوليائه

تاسعًا: وتتجلى رحمة الله عز وجل في رحمته الخاصة بأوليائه، وتوفيقهم، وتسديدهم، وحفظهم، وتيسير أمورهم، وإجابة دعائهم، ونصرهم على أعدائهم الكافرين، وتمكينه لهم في الأرض، وإعانتهم وإغاثتهم في قضاء حوائجهم كجلب الرزق والمطر، وكشف الكروب، وخرق السنن الكونية لهم، وإظهار الكرامات على أيديهم.

خاتمة

ما يقطع به المؤمن هو رحمة أرحم الراحمين، ولكن رحمة الله لا يحكم عليها بالمنظور البشري بباديء النظر ولا بالمقاييس أو التوقعات البشرية؛ بل لها وجهها الرباني ومقاييسها الإلهية، المتعلقة بحكمة الله وبالدار الآخرة.

وعلينا أن نتعلم أوجه وآثار رحمة الله؛ لندرك أنها تغمرنا لكن الشأن فيمن يفقهها.

…………………………………..

الهوامش:

  1. «الصلاة وحكم تاركها» (ص173).
  2. «مختصر الصواعق المرسلة» (2/ 350) باختصار.
  3. «مختصر الصواعق المرسلة» (2/ 123-124) باختصار وتصرف يسير.
  4. «مدارج السالكين» (1/ 8).
  5. البخاري (6309)، ومسلم (2747).
  6. البخاري (5999)، ومسلم (2754).
  7. البخاري (5641)، مسلم (2573).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة