الحج ركن أساسي من أركان الإسلام كالصلاة والزكاة .فهل يجوز منعه كلياً أو جزئياً بسبب وجود وباء أو غيره.

الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، لا يقوم الإسلام إلا به، قال تعالى:( وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ (آل عمران ٩٧) فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الاستطاعة: بالزاد والراحلة. 1[رواه الترمذي (۲۹۹۸)، وله طرق وشواهد يرتقي بها إلى الحسن).

وفسرها ابن عباس: بأن يصحَّ بدنه، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجحف به.2 [رواه الطبري بإسناد حسن].

ترك الحج من نواقض الإسلام العملية كترك الصلاة

(وَمَن كَفَرَ) بما فرضه الله من الحجِّ، إن أنكر فرضيَّته كفر إجماعاً، وإن ترك الحجَّ لا ينوي فعله، وهو قادرٌ عليه فقال بعض السَّلف بتكفيره -وإن لم يكن جاحداً وهو رواية عن أحمد، وعلى هذا فترك الحجِّ من نواقض الإسلام العمليَّة كترك الصلاة، ويؤيِّده ما رواه أبوبكر الإسماعيلي 3]بإسناد صحيح والبيهقي في سننه (8444)[ وغيرهما عن عمر بن الخطاب: من أطاق الحجَّ فلم يحجَّ فسواء عليه يهوديَّا مات أو نصرانيَّا. قال ابن كثير: إسناده صحيح. اه. 4]وله طرق أخرى منها ما روی سعید بن منصور في سننه – كما في الدر المنثور (3/693)- والخلال في السنة (1571) [

عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب: .. فذكره بنحو معناه. والحسن لم يَسمع من عمر، لكن يقوِّيه ما قبله، وصحَّحه السيوطي. وروى ابن مردَویه بسنده عن عليٍّ رضي الله عنه بنحو أثر عمر، وفي إسناده الحارث الأعور ؛ عامَّةُ ما يرويه غير محفوظ كما قال ابن عدي.

5]وانظر تفسير ابن كثير(2/85)[ (فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ) الإنس والجنِّ والملائكة وعن عبادتهم، وإنما نفعها يعود عليهم في الدنيا والآخرة.

وقال صلى الله عليه وسلم: « بُنِيَ الإسْلامُ على خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضانَ. ».6 [متفق عليه].

وقال صلى الله عليه وسلم: « يا بَني عَبدِ مَنافٍ، لا تمنَعوا أحدًا طافَ بِهَذا البيتِ، وصلّى أيَّةَ ساعةٍ شاءَ مِن ليلٍ أو نَهارٍ ». 7[رواه الترمذي (868) وأبو داود (1894) وغيرهما، وصححه الألباني].

الإفتاء بمنع الحج كلياً أو جزئياً بسبب الوباء مخالف لإجماع المسلمين

إن منع الحج كليًّا أو جزئيًّا – أعني: أن لا يُسمح إلا بعدد قليل جدًّا لا يُذكر بسبب الوباء لم يحدث عبر التاريخ الإسلامي على مدى 1440 عاماً، فهذا الإجراء والإفتاء به مخالف لإجماع المسلمين الذين أمر الله عز وجل باتِّباع سبيلهم، كما قال تعالى : (وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا ﴾ (النساء -١١٥)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أجاركم من ثلاث خلال.. وأن لا تجتمعوا على ضلالة». 8[رواه أبو داود (4253) وصححه الألباني].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والإجماع: هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين. وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين؛ والإجماع الذي ينضبط: هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة”. 9[مجموع الفتاوی (3/157)]

وقال ابن تيمية -أيضا-: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن جميعَ الدِّين أصولَه وفروعَه، باطنَه وظاهرَه، عِلْمَه وعَمَلَه، فإنَّ هذا الأصلَ هو أصلُ أصول العلم والإيمان”. 10[مجموع الفتاوی (۱۹/155)]

وقال -أيضَّا-: “وإذا ذَگرُوا نِزَاعَ المَتَأَخِّرِيِنَ لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الإجْتِهَادِ الَّتيِ يَكُونُ كُلُّ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الأَقْوَالَِ سائِغاَ لَمْ يِخَالِف إجْمَاعاً؛ لِأَنَّ كَثِيراَ مِنْ أُصُولِ المُتَأَخِّرينَ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ في الإسْلاَمِ مَسْبُوقٌ بِإجْمَاع السَّلَفِ عَلَى خِلاَفِهِ والنِّزَاعُ الْحَادِثُ بَعْدَ إجْمَاعِ السَّلَفِ خَطَأ قَطْعاً”.11 [ مجموع الفتاوی (13/26)]

لا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص

وقال الإمام الشاطبي: “ومَا تَوَهَّمَهُ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلٍ عَلَى مَا زَعَمُوا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيِّهِ أَلْبَتَّةَ؛ إذْ لَؤ گانَ دَلِيلاً عَلَيْهِ؛ لَمْ يَعْزُبْ عَنْ َفَهْمِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعْينَ ثُمَّ يَفْهَمُهُ هَؤُلاَءِ، فَعَمَلُ الأَوَّلَينَ كَيْفَ كَان مُصَادِمٌ لِمُقْتَضَى هَذَا المَفْهُومِ ومُعَارِضٌ لَهُ، ولَو كَانَ تَرْكَ العَمَلِ؛ فَمَا عَمِلَ بِه المُتَأَخِّرُونَ مِن هَذَا القِسْمِ مُخَالِفٌ لإِجْمَاعِ الأوَّلِينَ، وكُلُّ مَنْ خَالَفَ الإجْمَاعَ ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وأمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةً، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أو تَرْكٍ؛ فَهُو السُّئَةُ والأَمرُ المُعْتَبَرُ، وَهُوَ الهُدَى، وَلَيْسَ ثَمّ إِلَّا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ  ؛ فكُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأً”. 12[ الموافقات للشاطبي (3/281-۲۸۱)].

وقال ابن تيمية: “وكل من هذه الأصول -الكتاب والسنة والإجماع -يدل على الحق، مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع، فقد دل عليه الكتاب والسنة، ولا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص”. 13[مجموع الفتاوی (19/195)]

وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الحج، وجرَّما منعه والصد عنه في نصوص كثيرة …

حفظ ضرورة الدين أهم من حفظ ضرورة النفس

فإذا تقرَّر هذا فإنَّ الوباء والعدوى به كان معروفا في الجاهليَّة وفي الإسلام، في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن أصحابه، وفي زمن التابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا، وللنبي صلى الله عليه وسلم توجيهات فيه، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «.. وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ». 14[رواه البخاري (5707)]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا». 15[رواه البخاري (۵۷۲۸)]. وغيرها..

وقد جاءت شريعة الإسلام المطهرة بالتفريق بين الأمراض الخطيرة وبين الأمراض غير الخطيرة حتى لو كانت معدية، وإنما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من سيء الأسقام، كما كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيء الأسقام». 16[رواه أبو داود (1554) وصححه الألباني].

قال الطيبي: ” وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَوَّذْ مِنْ الْأَسْقَام مُطْلَقًا فَإِنَّ بَعْضَهَا مِمَّا يَخِفُّ مُؤْنَته وَتَكْثُرُ مَثُوبَتُهُ عِنْدَ الصَّبْر عَلَيْهِ مَعَ عَدَم إِزْمَانه كَالْحُمَّى وَالصُّدَاع وَالرَّمَد، وَإِنَّمَا اِسْتَعَاذَ مِنْ السَّقَم الْمُزْمِن فَيَنْتَهِي بِصَاحِبِهِ إِلَى حَالَة يَفِرُّ مِنْهَا الْحَمِيم وَيَقِلُّ دُونهَا الْمُؤَانِس وَالْمُدَاوِي مَعَ مَا يُورِثُ مِنْ الشَّيْن”. 17(عون المعبود (4/288)].

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: “لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعك أبو بكر، وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرئ مصبح في أهله … والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة … وهل يبدون لي شامة وطفیل

قال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة»، قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله ..”. 18[رواه البخاري (۱۸۸۹)].

وما ذلك إلا أن مصلحة الهجرة -لحفظ ضرورة الدين – أعظم من الورود على أرض موبوءة بالحمى ونحوها من الأمراض -لحفظ ضرورة النفس -..

وقد وقع الوباء في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن عمر رضي الله عنه بعد ذلك، كما رواه البخاري عن أبي الأسود الديلي قال: ” أَتَيْتُ المَدِينَةَ وقدْ وقَعَ بها مَرَضٌ وهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَمَرَّتْ جَنازَةٌ، فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقالَ عُمَرُ: وجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بأُخْرى، فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقالَ: وجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بالثّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ شَرًّا، فَقالَ: وجَبَتْ، فَقُلتُ: وما وجَبَتْ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قالَ: قُلتُ كما قالَ النبيُّ ﷺ: أيُّما مُسْلِمٍ شَهِدَ له أرْبَعَةٌ بخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ، قُلْنا: وثَلاثَةٌ، قالَ: وثَلاثَةٌ، قُلتُ: واثْنانِ، قالَ: واثْنانِ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الواحِدِ.”. 19[رواه البخاري (2643)، قال الحافظ: “ذريعا: بالذال المعجمة، أي: سريعا”]

ومع هذا الوباء الذي يموتون فيه موتًا ذريعًا، لم يغلقوا المساجد، ولم يتباعدوا في صفوف الصلاة، ولم يمنع الداخل إلى المدينة، كما جاء في قول أبي الأسود من كبار التابعين-: “أتيت المدينة وقد وقع بها مرض وهم يموتون موتًا ذريعًا” .

والحج يلحق بذلك.

الفتوى بعدم جواز المنع من الحج بسبب الوباء

ولم يقل أحد من علماء الإسلام، لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من أتباع التابعين، ولا من بعدهم، لا الأئمة الأربعة ولا أتباعهم من فقهاء المذاهب، أن انتشار الوباء عذر عام في تعطيل الحج والعمرة، أو الجمعة والجماعة، ولا ألزم الناس بذلك أحد منهم.

وقد أفتى علماء مصر عام ۱۳۱6ه حين سئلوا : عن منع الحج عن مصر لوجود الوباء في الحجاز ؟ فأفتوا جميعهم بعدم جواز المنع من فريضة الحج، ففي مجلة المنار لمحمد رشيد رضا: “اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًا للمذاكرة في أمر منع الحجّ الذي يراه مجلس الصحة البحرية ضروريا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما كان المنع من الحج منعا من ركن ديني أساسي، لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرا إلا بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب رئيس مجلس النظار لحضور الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر، وأصحاب الفضيلة: شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية، والشيخ عبد القادر الرافعيّ رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار، وهي بحروفها:

الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعا.

وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا…”. 20[مجلة المنار (2/30) ]

وعليه فالألوف الذين توفاهم الله عز وجل خلال عامي الكورونا وكانوا عازمين على أداء فريضة الحج وحال بينهم وبين الفريضة المنع وعاجلتهم المنية، فهؤلاء إثمهم على من سؤغ المنع.

والأوبئة تنتشر في الناس عبر تاريخ الإسلام (1400 عام) ومرَّ بالعالم الإسلامي أوبئة وأمراض فتاكة، ولم يُنقل فيها منع الحج من أجل ذلك البتة. بل إن ترك الحج من علامات الساعة كما صحَّ عن النبي صلی الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يُحج البيت». 21[رواه البخاري (1539)[

وجوب عدم التشبه بالكافرين في الحرص على الحياة

وإذا قارنَّا وباء اليوم: “فيرس كورونا” بالطواعين السابقة، فإنه لا يُعدُّ شيئَا.. ومنظمة الصحة العالمية لا تَعدُّه مرضا خطيرا، وكثيرًا من أطباء بريطانيا وغيرهم لا يَعدُّونه مرضًا خطيرًا.

فالإجراءات المتخذة ضد وباء كورونا مبالغ فيها جدًا، بدليل أن هناك العديد من الدول – کالیمن ودول إفريقيا- لم تتخذ إي إجراءات احترازية، ومع ذلك فحالها مع كورونا مثل غيرها، بل أفضل..

وكورونا ليست طاعونًا، بدليل دخولها المدينة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال». 22[متفق عليه]. 

لكن الحمی کانت وباء موجودًا في المدينة، ثم خرجت بفضل دعوة النبي صلى الله عليه سلم، ثم عادت بإذن الله كما دل علیه استقراء الأحاديث في هذا الباب، وكما دل عليه الحس المشاهد..

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيع -وهي: الجحفة-، فأَوًّلت أ ن وباء المدينة نُقل إليها». 23[رواه البخاري (۷۰۳۸)]. فهذا الحديث وأمثاله يدل على خروج وباء الحمى من المدينة، وقد جاء في أحاديث أخرى ما يعارضها، ومن ذلك:

عن جابر رضي الله عنه قال: استأذنت الحمى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «من هذه؟» قالت: أم ملدم، قال: فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا منها ما يعلم الله، فأتوه، فشكوا ذلك إليه، فقال: «ماشئتم؟ إن شئتم أن أدعو الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهورًا»، قالوا: يا رسول الله، أو تفعل؟ قال: «نعم»، قالوا: فدعها. 24[رواه أحمد (14393) وهو حديث صحيح بشواهده).

وعن سلمان الفارسي: استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: «من أنت؟» قالت: أنا الحمى أبري اللحم، وأمص الدم، قال: «اذهبي إلى أهل قباء» فأتتهم، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اصفرت وجوههم، فشكوا الحمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما شئتم، إن شئتم دعوت الله فدفعها عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت بقية ذنوبكم»، قالوا: بل تدعها با رسول الله. 25[رواه الطبراني في الكبير (6113) وهو حسن بشواهده).

وعن أم طارق مولاة سعد بن عبادة قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فاستأذن، فسكت سعد، ثم أعاد فسكت سعد، ثم عاد فسكت سعد، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأرسلني إليه سعد: أنه لم يمنعنا أن نأذن لك إلا أنا أردنا أن تزيدنا، قالت: فسمعت صوتًا على الباب يستأذن ولا أرى شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟»، قالت: أم ملدم، قال: «لا مرحبًا بك، ولا أهلًا، أتهدین -أي: اتهتدين – إلى أهل قباء؟»، قالت: نعم، قال: «فاذهبي إليهم». 26[رواه أحمد في مسنده (۲۷۱۲۷) وهو حسن بشواهده).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت الحمى إلى رسول الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ابعثني إلى أثر أهلك عندك فبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فغبت عليهم سبعة أيام ولياليهن

حتى اشتد ذلك عليهم فشكوا ذلك إليه فأتاهم في ديارهم فجعل يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية فلما رجع تبعته امرأة منهم فقالت يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن أبي لمن الأنصار وإن أمي لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت لأصحابي فقال: «ما شئت إن شئت دعوت الله لك فعافاك وإن شئت صبرت ثلاثًا ولك الجنة» قالت: يا رسول الله بل أصبر ثلاثًا وثلاثًا مع ثلاث ولا أجعل للجنة خطرا. -أي: عِوضًا- 27[رواه الخطيب البغدادي في الموضح أوهام الجمع والتفريق (1/460) وإسناده حسن]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل بالحمى، والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي، ورحمة، ورجس على الكافر». 28[رواه أحمد في مسنده (20767) وإسناده صحيح]

وقد جمع الحافظ ابن حجر 29في الفتح (10/191) بين هذه الأحاديث فقال: “الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة ثم ځُيّر النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله”.

فالحمى وكثير من الأمراض المحتملة -غير الخطيرة السيئة – تكون سببًا في الأجر العظيم لمن أصابته وصبر عليها، وتكون سببًا لدخول الجنة، مع قلة مؤونتها، فهي من هذه الجهة نعمة لمن أصابته وصبر عليها، ولذلك اختار الأنصار رضي الله عنهم الصبر عليها لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما لهم من الأجر على ذلك.

والواجب على المسلمين أن يرجعوا إلى توجيهات دينهم، وأن لا يتشبهوا بالنصارى واليهود – الذين هم أحرص الناس على حياة – ويتبعوا طرائقهم في كل شيء..

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي: التشبُّه بالكافرين، كما أن من أصل كل خير: المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم”. 30[اقتضاء الصراط المستقيم(1/352)[

ومن فضل الله أن الحرمين اليوم وسائر بلاد المسلمين هي من أقل البلاد في انتشار وباء كورونا بفضل توجيهات ديننا الحنيف الذي يدعوا للطهارة والنظافة…

فمصلحة أداء الحج الذي يدخل في حفظ الضرورة الأولى -وهي: الدين – أهم من حفظ النفس -التي هي أقل ضرورة – خاصة أنه يغلب على من أصيب بهذا المرض السلامة.. ويُقدَّر نسبة الوفيات خلال سنتي الكورونا بنحو ثلاثة ملايين في العالم كله، غالبهم من كبار السن والذين لديهم مشاكل صحية كبيرة تنقص مناعتهم، ومثل هذا العدد بل وأضعافه يموتون بأمراض مشابهة، وأسباب أخرى، فالذين يموتون بسبب التدخين فقط سنويًّا نحو ثمانية ملايين، منهم مليونين بسبب التدخين السلبي..

الحج من جنس الجهاد

كما أن المخاطرة بالنفس في الجهاد مشروعة، وهي دائرة بين الاستحباب والوجوب.. والحج من جنس الجهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحج جهاد كل ضعيف». 31[رواه أحمد (26520)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (۳۱۷۱)].

وعن أبي طليق : أن امرأته أم طليق أتته، فقالت له: حضر الحج يا أبا طليق! وكان له جمل وناقة، يحج على الناقة، ويغزو على الجمل، فسألته أن يعطيها الجمل تحج عليه؟ فقال: ألم تعلمي أني حبسته في سبيل الله؟! قالت: إن الحج من سبيل الله؛ فأعطنيه يرحمك الله! قال: ما أريد أن أعطي. قالت: فأعطني ناقتك وحج أنت على الجمل. قال: لا أوثرك بها على نفسي. قالت: فأعطني من نفقتك. قال: ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أترك (الأصل: أنزل لكم؟!، قالت: إنك لو أعطيتني أخلفكها الله. قال: فلما أبَيتُ عليها، قالت: فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَقْرِئْهُ منِّي السلام، وأخبره بالذي قلت لك. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرأته منها السلام، وأخبرته بالذي قالت أم طليق، قال: «صدقت أم طُلَيْق، لو أعطيتَها الجمل كان في سبيل الله ولو أعطَيْتها ناقتك كانت وكنت في سبيل الله، ولو أعطًيْتها من نفقتِك أخلَفَكَهَا الله..». 32[رواه الدولابي في الأسماء والكنى (1/41) وجود إسناده الحافظ في الإصابة والألباني في الصحيحة (3069)]

فالذي ينبغي في مثل هذا الأمر العظيم الذي تتعارض فيه المصالح والذي يُرجع فيه إلى اختيار المرء وحسن توكله على الله – أن يُترك الخيار للناس، من أراد أن يحج وكان مستطيعًا فلا يُمنع، ويمكن أن تُتَّخذ معه الإجراءات الصحية المعمول بها في التاريخ القريب، كالحجر الصحي المعروف ب”الكرنتينه”.. ولا تُعطَّل

هذه الشعيرة العظيمة، وخصوصًا أن ملاعب الكرة والحفلات الغنائية المختلطة والمسافرين إلى المعاصي صاروا أكثر من عدد الحجاج هذا العام. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه ..

الهوامش:

  1. رواه الترمذي (۲۹۹۸)، وله طرق وشواهد يرتقي بها إلى الحسن.
  2. رواه الطبري بإسناد حسن.
  3. بإسناد صحيح والبيهقي في سننه (8444).
  4. وله طرق أخرى منها ما روی سعید بن منصور في سننه – كما في الدر المنثور (3/693)- والخلال في السنة (1571)
  5. انظر تفسير ابن كثير(2/85).
  6. رواه الترمذي (868) وأبو داود (1894) وغيرهما، وصححه الألباني.
  7. رواه أبو داود (4253) وصححه الألباني.
  8. مجموع الفتاوی (3/157).
  9. مجموع الفتاوی (۱۹/155).
  10.  مجموع الفتاوی (13/26).
  11. الموافقات للشاطبي (3/281-۲۸۱).
  12. مجموع الفتاوی (19/195).
  13. رواه البخاري (5707).
  14. رواه البخاري (۵۷۲۸).
  15. رواه أبو داود (1554) وصححه الألباني.
  16. عون المعبود (4/288).
  17. رواه البخاري (۱۸۸۹).
  18. رواه البخاري (2643).
  19. مجلة المنار (2/30).
  20. رواه البخاري (1539).
  21. متفق عليه.
  22. رواه البخاري (۷۰۳۸).
  23. رواه أحمد (14393) وهو حديث صحيح بشواهده.
  24. رواه الطبراني في الكبير (6113) وهو حسن بشواهده.
  25. رواه أحمد في مسنده (۲۷۱۲۷) وهو حسن بشواهده.
  26. رواه الخطيب البغدادي في الموضح أوهام الجمع والتفريق (1/460) وإسناده حسن.
  27. رواه أحمد في مسنده (20767) وإسناده صحيح.
  28. في الفتح (10/191).
  29. اقتضاء الصراط المستقيم(1/352).
  30. رواه أحمد (26520)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (۳۱۷۱).
  31. رواه الدولابي في الأسماء والكنى (1/41) وجود إسناده الحافظ في الإصابة والألباني في الصحيحة (3069).

اقرأ أيضاً:

 

 

التعليقات غير متاحة