تتعاقب الأحداث، وتختلف القلوب؛ وبحسب اختلاف القلوب تكون النظرة الى الحدث ورؤيته وأخذ العبرة منه ومعرفة الحكمة وراءه والارتباط بمسبِبه سبحانه؛ أو الحرمان من هذا فلا تزداد بعض القلوب إلا بُعدا.

مقدمة

الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه وبعد..

فإنه لا يشك أحد أن ما أصابنا في هذه الأيام من وباء “كورونا” وما ترتب عليه من إجراءات وتداعيات إنما هو ضر وبلاء قدَّره الله عز وجل بعلمه وحكمته ورحمته بنا لعلنا نرجع إليه سبحانه ونتوب من ذنوبنا التي نقترفها ونعترف ولا يجادل في ذلك ولا يماحك إلا كل مكابر جاهل بربه سبحانه وجاهل بنفسه.

مواقف الناس في مواجهة الوباء

والناس إزاء هذا الوباء والمرض الفتاك أقسام:

الجاهلون بربهم

وهو الجاهل بربه سبحانه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا وما تقتضيه مما يخلقه الله عز وجل ويقدّره من حوادث وأوامر قدرية وشرعية بعلمه وحكمته ورحمته وقدرته، والجاهل بنفسه وعيوبها وجهلِها وظلمِها.

وهذا القسم من الناس بسبب جهله بربه سبحانه تراه يغفل عن ربه سبحانه وما يقدّره ويقضيه في ملكه العظيم، وأنه المدبر سبحانه لكل صغيرة وكبيرة تحدث في ملكوت السماوات والأرض. وبناء على جهل هذا الجاهل بربه سبحانه نراه يحيل مما يراه من حوادث ومصائب ـ ومنها “وباء كورونا” ـ إلى أسباب مادية صرفة يضخم فيها فعل المخلوق من البشر ويتعلق تعلقا شديدا بالأسباب المخلوقة وكأنها تنفع بذاتها.

ولجهله بنفسه وبافتقاره إلى خالقه تراه يغفل عن الذنوب التي هي سبب المصائب ويُعرض عن ربه سبحانه ودعائه والتوبة والتضرع إليه في رفع المصائب وكشف الضر.

ومثل هذا لا ينتفع من هذه المصيبة وغالبا ما يكون حاله بعد ارتفاع المصيبة كحاله قبلها أو أشد سوءا. وقد يقع هذا الجاهل بربه سبحانه في الجزع والتسخط وسوء الظن بالله تعالى والاعتراض على قدَره وشرعه.

ومن ذلك ما قاله الجاهل بربه سبحانه المغرور بنفسه الجاهل بعيوبها وظلمها ونقصها. تلكم العبارة التي قالها انسان من بني جلدتنا غرَّته نفسه وغرّه حلم الله عز وجل عنه وإملاؤه له (كَبُرتْ كلمةً تَخْرجُ من أفواههم إنْ يقولونَ إلا كَذِبا) قال فض الله فاه: “ما سينقذنا من كورونا هو ما نقوم به على الأرض وليس مما يأتي من السماء”.

وآخر من شكله أزواج يقول: “لو تقرأ القرآن كاملا وتقرأ الصحيحين و سنن الدارقطني فإن ذلك لن يحميك من انتقال العدوى بكورونا إن لم تتبع التعليمات الصحية”.

وكفى بهذين القولين الجائرين ردة وكفرا. وصدق الله عز وجل في وصفه حال المؤمنين وحال المنافقين عند نزول الآيات: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 124-125)

وهذه من حكمة الله عز وجل في الابتلاءات والمصائب التى يميز الله سبحانه فيها المؤمن من المنافق.

وعن هذا النوع الجاهل بربه الظالم لنفسه يقول ابن القيم رحمه الله:

“وقائل هذه المقالة منادٍ على نفسه أنه لم يعرف فاطره فاطر السماوات والأرض ولا صفاته ولا أفعاله، بل ولا يعرف نفسه التي بين جنبيه ولا ما يسعدها ويشقيها، ولا غاياتها ولا لماذا خُلقت ولا بماذا يكمُل ويصلُح، ولا بماذا يفسد ويهلك. بل هو أجهل الناس بنفسه وبفاطرها وبارئها”. (1مفتاح دار السعادة 2/ 192)

العالمون بربهم

وهم الذين وفقهم الله عز وجل وهداهم إليه فعرفوا ربهم سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا فأحبوه وخافوه ورجوه وأحسنوا الظن به وتوكلوا عليه وحده لأن خالق الأسباب ومسبباتها ولا يكون شي في ملكه سبحانه إلا بإذنه وعلمه وحكمته ورحمته ولطفه بعباده المؤمنين.

كما عرفوا أنفسهم بظلمها ونقصها وعيوبها وذنوبها، وأن ما أصاب من مصيبة فبما كسبت أيديهم وذنوبهم، وما يعفوا الله سبحانه منها أكثر.

وهاتان المعرفتان ـ أعني معرفة العبد ربَّه بأسمائه وصفاته، ومعرفة النفس بعيوبها وقصورها وذنوبها ـ هما اللتان تثمران لصاحبها الموقف الصحيح في النوازل والمصائب والمكاره والبأساء والضراء ألا وهو الرجوع إلى الله سبحانه، والإنابة إليه والتوبة النصوح من الذنوب  التي سبَّبت هذه المصائب. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يذكر أسباب اللجوء إلى الله عز وجل والانكسار بين يديه والإنابة إليه؛ فيقول:

“وهذا نتيجة علمين شريفين:

الأول:علمه بربه وكماله وبِرّه وغناه وجوده وإحسانه ورحمته وإن الخير كله في يديه وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع من يشاء وله الحمد على هذا وهذا أكمل الخير وأتمه.

العلم الثاني: علمه بنفسه ووقوفه على حدّها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها، فإذا صار هذان العلمان لها صبغة علمت حينئذ أن الحمد كله لله، والخير كله في يديه، وأنه المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم.

ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلوَّنت أقواله وأعماله وأحواله، وتخبطت عليه ولم يهتد الى الصراط المستقيم الموصل الى الله”. (2الفوائد 1/ 138 ،139)

ويقول في موطن آخر:

“ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل”. (3طريق الهجرتين 1/ 24)

والموفَق من وفقه الله عز وجل إلى أن يكون من أهل هذا القسم العارف بربه سبحانه وبأسمائه وصفاته الحسنى وما تقتضيه من الخلق والأمر، والعارف بنفسه وقصورِها وظلمِها وجهلها. فما أسعد حياته، وما أعدَل مواقفه وموازينه وتفسيراته، وما أشد غربته بين الناس.

وأغلب الناس مخذول محروم من هذين العلمين الشريفين حيث جهله بربه سبحانه وجهله بنفسه.

مخاطر ما بعد “الكورونا”

ومن أجل ذلك جاءت هذه المقالة “ما بعد كورونا قد يكون أخطر من كورونا” لأننا نثق بربنا سبحانه ونحسن الظن به وأنه سيرفع عنا هذا البلاء بدعاء الصالحين وما يسَّره من أسباب تَقي من انتشار هذا المرض، لكن ما حالنا بعد ارتفاع هذا الوباء..؟؟ هذا هو السؤال الخطير الذي ينبغي أن يكون خوفنا منه أشد من الوباء نفسه.

وقد يتعجب بعض الناس من هذا الطرح إذ كيف يكون انكشاف الغمة وزوال الوباء وعودة الناس إلى حياتهم الطبيعية بعد زوال الوباء أخوف من وقت البلاء..؟؟!!

ولكي يتضح الجواب ويزول العجب من هذا السؤال فلا بد من أن ننطلق من القسمين السابق ذكرهما لنتعرف بالتفصيل على موقف كل قسم من هذا الوباء وكيف يتعامل معه سواء في أصل وقوعه أوفي وسائل رفعه والقضاء عليه.

أولا: موقف الجاهل بربه

سبحانه وبأسمائه وصفاته والجاهل بنفسه وظلمها وجهلها وعيوبها.

ويمكن تلخيص موقف من هذا حاله في الأمور التالية:

نظرة مادية بحتة

النظر إلى سبب وقوع هذا الوباء نظرة مادية تقنية طبية بحتة، وأنه كغيره من الفيرووسات الكثيرة التي تصيب الانسان بسبب العدوى الناتجة من حيوانات أو الطيور أو البهائم أو من الانسان للإنسان، وأن سبب انتشاره وتحوله إلى وباء هو اختلاط الناس بعضهم ببعض والقصور في تعاطي ومشاكل التنظيف والتعقيم.

ونتيجة لجهل أصحاب هذا الموقف بربهم سبحانه وأسمائه الحسنى وأنه المدبر الخالق لكل شيء الحكيم العليم اللطيف الرحيم؛ فإنهم قصَروا أسباب هذا الوباء فيما ذكر آنفا ولم يتجاوزوه على أنه من تدبير العليم الحكيم، اختبارا للعباد وابتلاءا لهم لتظهر بعض آثار أسمائه الحسنى وإنذارا لعباده من سخطه وعقابه.

عزوب العقول عن التوبة

وبناء على هذه النظرة المادية السابقة؛ فإن النظر إلى أسباب علاج هذا الوباء والحد من نشره والسعي للقضاء عليه وإزالته أصبحت هي الأخرى مادية بحتة تشمل في التعلق بالأسباب المادية والعلاجات الطبية والاحترازات الوقائية واقتصرت وسيلة دفع هذا الوباء على هذه الأسباب فحسب.

ولم يكن لذكر التوبة والاقلاع من الذنوب التي هي سبب هذا الوباء ذكر في وسائل العلاج والإزالة البتة.

ولا يعني هذا الكلام التهوين من الأخذ بالأسباب المباحة والنافعة قدرا وشرعا.

زيادة التعلق بالأسباب

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى التعلق الشديد بالأسباب ونسيان التوكل على الله وأنه القادر وحده على رفعه، بل وبالَغ هؤلاء الجاهلون بربهم وبأنفسهم في هذه الأسباب وهوَّلوها وضخموها حتى تعطلت بذلك مصالح كثيرة للناس سواء ما يتعلق بعباداتهم ومساجدهم أوتعليمهم ووعظهم أو تنقلاتهم وأسفارهم التي لا يستغنون عنها، أو تلكم الوظائف الخدمية التي لا يستغني عنها الناس.

العودة الى حال المعصية والنسيان

وهنا نأتي إلى طرف من جواب السؤال الماضي وهو الخشية أن أصحاب هذا الموقف الجاهل بربه الجاهل بنفسه ـ وهم الغالب من الناس ـ سينسون ما أصابهم من هذا الوباء بعد عودتهم إلى حياتهم الطبيعة. ولا سيما إذا ابتلاهم الله بعد ذلك بانفتاح أكثر لهذه الدنيا، وعند ذلك وبسبب جهلهم بالله عز وجل وجهلهم بأن ما أصابهم إنما هو بسبب ذنوبهم فيعودون إلى ذنوب أشد ولا ينتفعون من مصيبتهم بالتوبة من الذنوب وإصلاح الأحوال.

وهنا تبين أن ما بعد “كورونا” من التعافي وانفتاح الناس وغفلتهم قد يكون أخطر من وباء كورونا نفسه.

ولكي يتضح هذا الأمر بصورة أكبر أورد ثلاث آيات من سورة الأنعام في تدبرها أوضح بيان وأعظم عبرة لما نحن فيه من آثار هذا الوباء وأن الأخطر منه ما بعد رفعه إذا لم يرجع الناس إلى ربهم.

ثلاث سنن يعقلها المؤمنون

يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:42-45].

يذكّرنا الله عز وجل في هذه الآيات بثلاث سنن من السنن التي لا تتبدل وهي:

الأولى: سُنة الابتلاء بالبأساء والضراء لعل الناس يتضرعون إلى الله ويتوبون ويدعونه كشف البلاء ﴿فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾.

الثانية: سُنة الإملاء والاستدراج بعد رفع البلاء، وذلك لمن لم يتعظ ولم يتضرع الى ربه ويتوب إليه، وبقي على ضلاله وعصيانه ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.

الثالثة: أخذ العصاة الفرحين البطرين بَغتة بعد سنة الإملاء والاستدراج ﴿حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾.

والأخْذ بغتةً لا يأتي بالتدريج إنما كما قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:97-99].

وحينما ننزل هذه المراحل وهذه السنة على مصابنا اليوم بداء كورونا يتبين لنا معنى عنوان هذه المقالة ذلك أن الله عز وجل ابتلانا بهذا الوباء بإرادته وحكمته ليعلم من يتضرع ويتوب إليه ممن لا يتضرع ولم يتب لقسوة قلبه وجهله بربه وبنفسه وطاعة الشيطان في تزيينه ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

فإن لم تحصل التوبة وتغير الأحوال ورفع المظالم والحكم بشريعة الله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وترك المجاهرة بالمعاصي والمنكرات في المحافل والنوادي؛ فإن السُنّة الثانية تقتضي انفتاح الدنيا على أهلها ومزيدا من الترف والنعم وانفتاح  أبواب الرزق للناس من كل ما يختارون؛ إملاءا من الله لهم واستدراجا ـ عياذا بالله من مكره ـ وحينئذ تكون هذه المرحلة أخطر من وباء “الكورونا” نفسه لأن الذي يليها أخذ الله لمن هذه حاله بغتة وفجأة.

وفتنة ومصيبة الإملاء والاستدراج أشد وأخطر من فتنة البلاء والوباء؛ لأن فتنة الاستدراج بالرخاء والترف تسترخي فيها القلوب والأبدان ولا يشعر أهلها أنهم مبتلون. عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه مايحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾. (4سنن أحمد 4/ 154 ، الطبري 11/ 361)

وبهذا يتبين من خلال هذه الآيات البينات وبعد إنزالها على مصاب الناس اليوم بوباء “كورونا” أن الخطر الحقيقي والمصيبة العظمى هي التي تلي زوال هذا الوباء إن لم يتب الناس الى ربهم ويتضرعوا ويقلعوا عن ذنوبهم ومعاصيهم.

وقد يتفق بعض الماديين من المحللين السياسيين مع من يرى أن الخطر الأشد هو “ما بعد كورونا”؛ وذلك بتغير موازين القوى في العالم وسقوط النظام العالمي القديم ونشوء نظام جديد أشد ظلمًا واستبدادًا.. وقد يكون لهذا التوقع ما يفسره؛ لكن شتان بين هذه النظرة المادية الجاهلية وبين النظرة الشرعية الربانية القائمة على الإيمان بالله تعالى وأسمائه الحسنى وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول والتي تم بيانها آنفا.

ثانيا: موقف العارفين بربهم سبحانه

والعارفين بأسمائه الحسنى وآثارها في الخلق والأمر، العارفين بأنفسهم وظلمِها وقصورِها وعيوبها وشدة افتقارها الى الله عز وجل. وأمثال هؤلاء لعل الله عز وجل أن يجنب الناس بهم ـ وأمثالهم ـ خطر ما بعد كورونا.

سمات موقف العارفين

ويمكن تحديد مواقف هؤلاء العارفين من هذا الوباء في الأمور التالية:

اليقين بشمول حكمة الله

إن علمهم بالله عز وجل وأنه هو المدبر للأمور وإليه ترجع الأمور وأن شيئا لا يحدث في ملكه سبحانه إلا بإذنه وعلمه وإرادته، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه شرعا وقدرا.. إن معرفتهم بهذا كله يجعلهم يوقنون بأن ما نزل بالناس من وباء كورونا لم ينزل عبثا ولا عشواء بل أنزله سبحانه بعلمه وحكمته وعزته ولطفه ورحمته وعدله، ومقتضى سننه التي لا تتبدل ولا تتحول؛ أنزله رجزا وعذابا على الكفار والمنافقين بعدله وحكمته وعزته، ورحمة ومكفرا و مطهرا لعباده المؤمنين من ذنوبهم ومعاصيهم ولعلهم يرجعون.

كما أن إيمانهم بربهم سبحانه وقيوميته وقضائه يضفي عليهم الطمأنينة والسكينة ولا يصيبهم ما يصيب أكثر الناس من الهلع والخوف والأوهام.

رؤية يقيتهم يتحقق

وبمعرفتهم لربهم سبحانه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا ـ لا سيما أسماء الله سبحانه الرحيم، اللطيف، البر ـ يستقر في قلوبهم وأعمالهم حسن ظنهم بالله عز وجل، ويجعلهم يوقنون بأن في أعطاف هذه المحنة والوباء رحمة ومنحة وخيرا قد ظهر بعضها وما خفي منها أعظم وأكثر، وصدق فيهم قول الله عزوجل: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقوله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك إلا للمؤمن». وفي ذلك يقول الامام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“من صحّت معرفته بربه والفقه في أسمائه وصفاته؛ علم يقينا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به، فيها ضروب المصالح والمنافع التي لا يحيطها علمه ولا فكرته؛ بل إن مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب”. (5الفوائد 1/ 91-92)

أمثلة لمصالح تحققت للبشرية

ومن هذه المصالح العظيمة التي ظهرت للعارفين به سبحانه وبأسمائه وصفاته من هذا الوباء على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

– رجوع كثير من المسلمين الى ربهم والتضرع بين يديه والتوبة من الذنوب التي سبب هذا الوباء.

– توقف وإغلاق أماكن الفحش والرذيلة من حفلات ماجنة ودور فساد وسينما واختلاط محرم.

– توقف السياحة العالمية القائمة في غالبها على المجاهرة بالمعاصي، وارتياد دور الفساد في كثير من البلدان، وعلى شواطئ البحار لجلب السياح إليها فارتاحت البلاد والعباد من فجورها ونتنها.

– توقف الكرة وجنونها وملاعبها ومدرجاتها. ولا يخفى ما في ذلك من المصالح في الأديان والأموال، وحفظ الأعمار من الضياع.

– رجوع المرأة إلى بيتها بعد أن هجرت محضن أسرتها  فصارت خَرَّاجة وَلَّاجة؛ تخالط بتبرجها الرجال في الأعمال والحفلات والمؤتمرات وغيرها.. فتحقق القرار في بيتها الذي أمر به الله عز وجل في قوله ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾.

– اجتماع شمل الأسرة في منازلهم وأصبح الأولاد والإخوان والأخوات يلتقي بعضهم ببعض مع آبائهم وأمهاتهم بعد أن تقطعت بينهم الأواصر واشتغل الآباء عن بيوتهم وأولادهم بهذه الدنيا الفانية.

– ظهور آثار قوة الله عز وجل وعزته وقهره في مقابل ضعف هذا الانسان المتغطرس المتكبر الذي ظن أنه باختراعاته وأمواله وسلاحه أقوى من كل شيء فقال بلسان حاله ومقاله “من أشد مني قوة”. فأظهر الله عز وجل بهذا الوباء الناتج عن فيروس صغير لا يُرى إلا بالمجاهر الالكترونية مدى ضعف هذا الانسان، وأنه لا شيء أمام قوة الله تعالى، وأصبح العالَم بأسره أمام هذا الكائن الصغير؛ طغاتُه وضعفاؤه، لا يملكون من أمرهم شيئا.

وما بين عشية وضحاها شعَر الجميع بأن عجلت الزمان قد توقفت، فتعطلت الأعمال وتوقفت الرحلات وأُغلقت الحدود، وأصبح الناس ـ ومنهم بعض الطغاة ـ حبيسي بيوتهم وفي المحاجر الصحية. ومحَق الله الربا حتى تهاوى الاقتصاد العالمي القائم على الربا والعقود المحرمة، وتدهوَر سعر البترول وأفلست بنوك وفنادق ومطاعم، وأصبح العالَم في حيرة وتخبط مستسلما لهذا الكائن الصغير لا يدري كيف يتخلص منه.. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾.

ومن معرفة قوة الله عز وجل ـ والتي هي مقتضى أسمائه سبحانه العزيز الجبار المتكبر القوي القدير القاهر ـ يعرف المسلم العارف لربه حقيقة ضعف الانسان، وأنه لا شيء يُذكر أمام قوة الله تعالى. وفي ذلك من الدروس أن لا ييأس المسلمون المجاهدون من نصر الله عز وجل لهم على الكفرة والمتكبرين المغرورين بقوّتهم، وأن لا ينبهروا بقوتهم وأن لا يلتفتوا الى إرجاف المرجفين الذين يتهمون المسلمين بالتهور عندما يواجهون ـ على ضعفهم ـ قوى الكفر العالمية فها هي قوتهم وأسلحتهم وهاهو اقتصادهم يتهاوى أمام كائن صغير سلطه الله عليهم لا يملكون في دفعه شيئا.

المهم أن يحقق المسلون شروط النصر الشرعية ويأخذوا بما في وسعهم من الأسباب، ويبذلوا وسعهم في اجتماع الكلمة ونبْذ الفرقة، ويبشروا حينها بأن الله عز وجل سيسخر لهم جنود السماوات والأرض، ويمكّن لهم في الأرض؛ قال سبحانه: ﴿كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله﴾.

ومن المصالح والحِكَم في هذا الوباء ظهورمقتضى  قول الله عز وجل ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾. فها هو الاقتصاد العالمي القائم على النظام الرأسمالي الربوي المتوحش ينهار وينهار معه طغاة المال وما بنوه من أسهم الظلم والجشع وامتصاص أموال الفقراء.

وهذا مما يزيد به إيمان المؤمن بربه وشريعته التي أحلَّت البيع وحرَّمَت الربا، كما أن انهيار اقتصاد الكفار مما يُفرح المسلم؛ لأن الانهيار الاقتصادي لدول الكفر العالمية يعقبه انهيار سياسي وعسكري وتفتيت لقوتهم واجتماعهم والذي يؤول الى تفكك دولهم وأحلافهم وذهاب ريحهم. وهذا مما يهيئ الله عز وجل به التمكين لأهل الايمان في الأرض.

هذه بعض الحِكَم الربانية والمصالح التي جعلها الله عز وجل في هذا الوباء. وما خفي عنّا من الحِكَم أعظم. وهذا لايعني إغفال المفاسد الواقعة على الناس، بما كسبت أيديهم، سواء في أديانهم كإغلاق المساجد وتعطيل الجمع والجماعات بفتاوى خرقت إجماع علماء الأمة؛ حيث لم يُعلم في تاريخ المسلمين كله أن أُغلقت المساجد في وجوه المصلين لا بوباء ولا بغيره.. أو في تلكم المفاسد الدنيوية التي تمسّ مصالح الناس وحاجاتهم.

كما لا تُنسينا المصالح المذكورة آنفا آفة من آفات هذا الوباء، ألا وهو ركوب كثير من الدول هذا الحدث في مزيد من الظلم وقهر الشعوب وتمرير قرارات جائرة تحت غطاء مكافحة الوباء.. ﴿ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾.

ثمار القلوب وأحوالها

وبمعرفة المسلم الموفَق لحقيقة نفسه وظلمِها وعيوبها بعد أن عرف ربه بأسمائه وصفاته الحسنى؛ فإن ذلك يثمر في قلبه وأحواله من هذا الوباء شدة افتقاره الى ربه سبحانه، وأنه لا شيء بدون ربه، وأنه خاسرٌ ضائعٌ هالِك لو وكله الله عز وجل الى نفسه أو الى أحد من خلقه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15].

وهذه المعرفة بحقيقة النفس وشدة فقرها الى الله عز وجل تجعله يتوكل على ربه سبحانه، ويفوض أمره إليه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه من الله عز وجل فهو محض عدله وحكمته ورحمته؛ فمن رحمة الله عز وجل أن يبتلي عباده المؤمنين بالمصائب ليطهرهم بها من الذنوب والمعائب، وما يعفو الله عز وجل منها أكثر مما يعاقب عليها قال سبحانه ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30].

وبهذه المعرفة من المؤمن لربه ولنفسه الأمارة بالسوء يدرك من أين أتي؟ ولماذا أصابه ما أصابه؟ وفي هذا خير له لأنه بهذه المعرفة والإدراك يسعى للعلاج وأخذ الدواء الناجع في رفع البلاء، ألا وهو التضرع الى الله عز وجل والتوبة اليه والإقلاع عن الذنوب ورد المظالم الى أهلها؛ لأنه عرف معنى قوله تعالى ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ وقوله سبحانه ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وقوله سبحانه ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ﴾ [الأعراف:96]. وقوله سبحانه ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ [الجن:16]. وقوله سبحانه ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41].

خاتمة

إن العارفين بربهم وبأنفسهم يدركون دورهم في هذه الأيام والساعات العصيبة ليستثمروا الحدث ونزول البلاء في وعظ الناس من الأقارب والمعارف، إلى أوسع من ذلك.. في بيان هذه المسلَّمات الشرعية، ودعوة الناس الى التوبة النصوح المتمثلة في الإقلاع عن الذنوب والندم على فعلها وعدم العودة إليها ورفع الظلم عن المظلومين.

وأن هذا هو المخرج والفرَج لنا أمام هذا الوباء، مع الأخذ بالأسباب والاحترازات الوقائية المشروعة والمباحة، وعدم التعلق بها؛ لأن خالق الأسباب ومسببَاتها هو الله سبحانه.. إن شاء نفع بها وان لم يشأ لم تنفع. ولهذا ينبغي التخفف من المبالغات والتهويل في الاحترازات التي تعلق قلوب الناس بها وكأنها تنفع مستقلة من نفسها. فضلا عن ما تحدثه من هلع ورعب بين الناس.

نسال الله عز وجل أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعلنا من عباده المؤمنين، العارفين بربهم وكماله وجلاله وجماله، العالِمين بحقيقة أنفسهم وفقرها وظلمها وجهلها، المتوكلين عليه حق التوكل، المعظِمين له حق تعظيمه..

اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والمحن ما ظهر منها ومابطن. والحمد لله رب العالمين

……………………………

هوامش:

  1. مفتاح دار السعادة 2/ 192.
  2. الفوائد 1/ 138 ،139.
  3. طريق الهجرتين 1/ 24.
  4. سنن أحمد 4/ 154 ، الطبري 11/ 361.
  5. الفوائد 1/ 91-92.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة