رغم التقدم العلمي الهائل؛ تصحبه أسلحة الدمار الشامل والمخاطر الجمة وافتقاد الطريق للطمأنينة والسعادة؛ بينما يملك المسلمون الطريق لتقديمه الى البشرية.

مقدمة

يقلّب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أكفّهم في حيرة ويقولون: ماذا نفعل إزاء العولمة..؟ هل نملك شيئا في الحاضر أو المستقبل..؟

أما في الحاضر فقد تكون الإجابة صعبة بالفعل؛ ولكن لا لأن العولمة هي ذلك الغول الذي لا يُقهر، والذي لا يملك الناس إزاءه إلا الإذعان والتسليم.. فقد بدأت المجابهة بالفعل في المؤتمر الذي أقيم في مدينة “سياتل” ولكنها ـ مع الأسف ـ كانت من غير المسلمين!

إنما تأتي صعوبة الإجابة من سوء الحال التي وصلت إليها الأمة الإسلامية..

لم تصل الأمة في تاريخها كله إلى هذه الدرجة من الهوان على نفسها وعلى الناس، تطارَد وتشرّد ويذبّح أبناؤها بعشرات الألوف ومئات الألوف في أوربا وأفريقيا وآسيا ولا تتحرك، ولا يصدر عنها فعل يوقف هذه المذابح الوحشية أو يرد عليها. وتُسلب منها فلسطين، وتُسلب منها القدس وهي واقفة تتفرج كالمأخوذ.

ومن جهة أخرى لم يتجمع العالم كله على الأمة الإسلامية كما تجمّع اليوم، يأكل حقوقها علانية، ويسلب أقواتها، ويحارب دينها ومعتقداتها ومقومات وجودها الفكري والروحي والمادي، وهي عاجزة مسلوبة الإرادة. وإن همت بحركة أو حتى حدّثت نفسها، تمتد أصابع “العصابة الدولية” كلها صارخة: أصوليون..! إرهابيون..! اقتلوهم..! أو ضعوهم في السجون..!

وفي الوقت ذاته هناك نقص فادح في أدوات المواجهة؛ فمن أدوات المواجهة “الخبرة التكنولوجية” و”التصنيع”. والأمة في كلا المجالين فقيرة إلى حد يقرب من الإفلاس، وفي الجانب الآخر وحوش ضارية تتجمع لتأكل الأخضر واليابس، ولتعطل كل حركة تهدف إلى اكتساب الخبرة أو تنمية الإنتاج.

نعم! ولكن..!

محورية جهاد القلب ومعناه

من قديم كان يستوقفني وأنا بعد فتىً حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان» (1متفق عليه) وحديث في ذات الاتجاه يقول: «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». (2أخرجه مسلم)

كان يستوقفني بشدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه جهادا، وسماه تغييرا، مع أنه مستكنّ في داخل القلب، ولا يغير شيئا من الواقع المراد تغييره..!

وحين كبر وعيي، وزادت تجاربي فهمت أشياء مما كان خافيا عليّ من معاني الحديث.

إن الجيش في المعركة قد ينهزم، وقد يتقهقر، وقد يُلجئه العدو إلى الخروج من ساحة القتال؛ نعم..! ولكن..! هناك “قلعة” أخيرة يحتمي في داخلها حتى تواتيه الفرصة لمعاودة القتال. وطالما هو محتمٍ بقلعته لم يسلمها للعدو، فهو في حالة جهاد، لأنه ما زال محتفظا بجنديته وباستعداده. أما إذا سلّم القلعة فقد انتهى الأمر، وحلت الهزيمة التي ليس منها فكاك..!

وتلك القلعة بالنسبة للمنكر هي “القلب“.

ومن ثم يسمي الرسول صلى الله عليه وسلم الإنكار بالقلب جهادا، ويسميه تغييرا، مع أنه لا يغير شيئا في الواقع الراهن.

إن المنكِر بقلبه لم يستسلم للأمر الواقع، ولم يعطه شرعية الوجود. لم يعتبر الواقع صوابا، أو ضربة لازب لا فكاك منها. إنما اعتبر فقط أنه الآن في هذه اللحظة عاجز عن التغيير بسبب ضعفه أمام ضراوة المنكر. ولكنه مؤمن بأن موقفه هو ـ هو الصواب، وهو الذي له شرعية الوجود، أما المنكَر فلا شرعية له، ولا هو على صواب، وإن كانت له السيطرة في اللحظة الراهنة.

هل يستوي هو والذي سلم القلعة، ونفض يديه من المعركة؟

كلا بالطبع..! لا يستويان مثلا..!

فأما الأول فهو الآن عاجز. نعم، لا يملك من أمر نفسه شيئا وهو محاط ومحاصر ومقهور، ولكنه مؤمن بقضيته ما يزال. وما يزال يراقب الأحداث، يتلمس الفرصة التي قد تسنح في أية لحظة، ليخرج من القلعة، ويعود إلى الميدان.

وأما الآخر فقد انتهت القضية في حسه، واستكان للأمر الواقع، ولم يعد يفكر في تغييره. بل خطّأ نفسه على موقفه السابق منه، وعزم على ألاّ يعود..!

فرق هائل في الحقيقة. والرسول الملهَم صلى الله عليه وسلم، يعلم ـ بما علّمه ربه ـ حقيقة الفرق بين الأمرين. ولكنه في الوقت ذاته يحذر من الركون إلى هذا الوضع ركون الراحة والاستقرار..! فهو يعلم ـ بما علّمه ربه ـ أن النفوس تركن وتسترخي..! فيقول محذّرا: «وذلك أضعف الإيمان»، «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».. لكي يحرص المؤمن على ألا يتزحزح عن موقفه الأخير هذا مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال.

والمنكِر بقلبه لا يشارك في المنكر الذي عجز عن تغييره.. لا يشارك فيه إلا مكرها. لأنه إن شارك موافقا وراضيا ومقتنعا فقد سلم “القلعة”، وترك المعركة إلى غير رجعة..!

وهذا هو ” الجهاد ” الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. فهو يجاهد أن يسقط، يجاهد الهزيمة الداخلية التي لا برء منها، لأنها من أمراض القلوب.

«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب». (3رواه الشيخان)

ما تملكه الأمة في لحظتها الراهنة

الأمة الإسلامية قد لا تملك شيئا في الميدان الاقتصادي والصناعي في اللحظة الراهنة تقف به في وجه الزوبعة الكاسحة التي تطلقها العولمة، لتبسط سيطرتها على كل الأرض.

أقول “قد”، ولا أقول إنه الشيء المؤكد، جرياً فقط مع الاحتمال الأسوأ الذي يصوره دعاة العولمة، إذ يقولون إنها الداهية الدهياء، التي لا قِبل لأحد بالوقوف في وجهها.. ومع ذلك فالأمة ـ حتى في لحظتها الراهنة ـ تملك كثيرا إذا لجأت إلى “قلعتها”، فتحصنت في داخلها من الهزيمة الداخلية التي تجتاح قلوب المهزومين.

تملك الكثير..! أمر العقيدة.. أمر الأخلاق.. أمر القيم.. أمر المبادئ.. أمر الإنسان، وغاية وجوده، ومعيار إنجازاته.

هذه أمور يملكها كل فرد ملكية خاصة، بمعنى أنها جزء من كيانه الذاتي، لا ينفصل عن ذاته، وعن وجوده الشخصي، ويملك أن يحافظ عليها في داخل قلبه ـ في داخل قلعته ـ مهما كانت الفتن من حوله.

وهذه الأمور كلها يملك المسلم فيها زادا ربانيا أصيلا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما يملك الغرب فيها بضاعة زائفة مهما بلغ من لمعانها؛ بضاعة صنعها البشر من عند أنفسهم وهم في أشد حالات الانحطاط الروحي والأخلاقي، لظروف محلية بحتة عندهم، وإن زعموا أنها ذات طابع إنساني شامل، يشمل ـ أو يجب أن يشمل ـ كل أرجاء الأرض..!

إن النموذج الحضاري القائم اليوم يشكل فتنة كبيرة للناس.. ففيه من ألوان التقدم ما هو نافع حقيقةً للناس، ولازم لهم ليرتفع مستواهم الحياتي، وفيه في الوقت ذاته انتكاسات روحية وخلقية تهبط بالناس إلى درك أحط من الحيوان.. والناس ـ لهبوطهم إلا من رحم ربك ـ يأخذون الأمرين معاً، على أنهما ـ معا ـ هما التقدم والرفعة والرقي..!! ومن أجل ذلك لا يحسّون في لحظة الانتكاس أنهم منتكسون، بل يظنون أنهم ماضون في طريق الرفعة ما داموا يمارسون ألوان التقدم التي تتيحها هذه الحضارة.

ولن يفصل الناس بين الخير والشر في هذه الحضارة، فيستبْقوا الخير ويستزيدوا منه ويسعوا إلى التخلص من الشر، بكتاب يُنشر، أو موعظة تُلقى، أو خطبة حماسية.

إنما يحتاجون إلى نموذج واقعي، يحقق ما في هذه الحضارة من خير ـ أو في القليل لا يعوّقه عن الإنطلاق في طريقه ـ وفي الوقت ذاته يتطهر من الدنس المتمثل في الإلحاد من ناحية، والفوضى الجنسية والانحراف والشذوذ من ناحية أخرى.. فيتبعوا النموذج على هدى وبصيرة، وعن رضىً وارتياح.

وحين يحدث ذلك تكون البشرية قد ارتفعت بالفعل، الرفعة الحقيقية التي تحقق كيان ” الإنسان “؛ فمن يرشد البشرية إلى ذلك إلا الذين يملكون المنهج الصحيح، والذين كُلفوا تكليفا بإبلاغه للناس..؟!

يمكن أن يتقدم الإنسان علميا وتكنولوجيا واقتصاديا وحربيا وسياسيا وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾ [الحديد :25].

وبدهي أن المسلمين لن يستطيعوا في يوم وليلة أن يتجاوزوا التخلف العلمي والتكنولوجي والاقتصادي الذي وقعوا فيه حين بعدوا عن حقيقة الإسلام، وأن ذلك ـ حتى إن بدأوه اليوم ـ سيستغرق عدة أجيال، وسيظل الفارق بين المتقدمين والمتأخرين قائما، بل قد يزداد اتساعا مع كل قفزة جديدة يقفزها العلم..

ولكنهم إن استكانوا لهذا العجز فقعدوا عن تغيير أحوالهم فلن يفلحوا إذن أبدا..!

خاتمة

ليعلم المسلمون أن الذي تحتاج إليه البشرية اليوم ليس مزيدا من الإنتاج المادي، ولا مزيدا من أسلحة الدمار الشامل؛ إنما تحتاج إلى شيء أهم من ذلك بكثير، وأنفع من ذلك بكثير: هو طمأنينة القلب وصفاء الروح.

وحين يقدم لهم المسلمون ذلك، مع علمهم الحثيث لتلافي تخلفهم الذي هم واقعون فيه، يكونون قد قدَّموا لهم خدمة لا توازيها خدمة، لأنها هي التي ستنقذهم من الدمار، وفي الوقت ذاته فإن الإسلام لن يسلبهم تقدمهم المادي الذي هم عليه حريصون، فلم يكن الإسلام قط عدوا للتقدم العلمي أو المادي، إنما كان عدوا للخلل الذي يحدث في حياة الناس حين ينسون ربهم وينسون آخرتهم ويستحبون عليها الحياة الدنيا، فينتهي أمرهم – حسب السنن الربانية – إلى الدمار..

………………………………….

الهوامش:

  1. متفق عليه.
  2. أخرجه مسلم.
  3. رواه الشيخان.

المصدر:

  • أ. محمد قطب، كتاب “المسلمون والعولمة”، ص24-39 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة